
بين تثبيت شرعية المرحلة واستقطاب الاستثمار: رسائل ما بعد العقوبات في خطاب الشرع
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
في مساء الرابع عشر من أيار/مايو الجاري خرج الرئيس السوري أحمد الشرع بخطاب موجَّه إلى الشعب السوري[1] بعد لقاء جمعه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العاصمة السعودية الرياض، وفي أعقاب إعلان ترامب رفع العقوبات المفروضة على سوريا[2]، في خطوة لاقت ترحيباً واسعاً على المستوى العربي والإقليمي والدولي.
يسعى هذا التقرير إلى تحليل خطاب الرئيس أحمد الشرع، واستكشاف أبرز رسائله الموجّهة للداخل والخارج، وما يتضمّنه من دلالات ضمنيّة تعبّر عن ملامح السياسة الجديدة وموقع سوريا الإقليمي والدولي في مرحلة ما بعد العقوبات والنظام البائد.
الرسائل الموجَّهة للداخل السوري:
حمل خطاب الرئيس أحمد الشرع رسائل عديدة موجَّهة للداخل السوري تستهدف بشكل رئيسي رفع الروح المعنوية لدى السوريين وتُعزّز ثقتهم بقدرة السلطة الانتقالية على معالجة أهم المشاكل التي يعانون منها، فجاء الخطاب بعد ساعات من إعلان ترامب رفع العقوبات الأمريكية ليحمل دلالةً رمزية كأحد أهم ثمار الدبلوماسية السورية والزيارات الخارجية والتفاف السواد الأعظم من السوريين حول السلطة الانتقالية واعتماد الأخيرة -وفق رسائل الخطاب- على الإرادة الشعبية كمصدر لتعزيز الشرعية الدولية وتغيير المزاج الدولي عموماً تجاه سوريا مع عدم نسيان دور الجالية السورية في الخارج بهذا الإطار.
ولم يُغفِل الخطاب صور التفاعل الشعبي مع القيادة الجديدة، ومعاناة السوريين في المخيمات، وتضحيات “الشهداء” والمعتقلين وعدم نسيان ذويهم، كما قدّم محافظة إدلب بوصفها “إدلب العز” حاضنة الثورة ومهد التحرير في دلالة تحمل رمزية خاصة تجاه تضحيات السوريين للخلاص من النظام البائد.
أما على مستوى القضايا الجوهرية؛ فقد أكد الخطاب تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية كأحد أبرز مخرجات المرحلة الراهنة، رغم عدم وضوح شكل هذه الهيئة وآليات عملها حتى اللحظة، إلا أن ذكرها الصريح للمرة الثانية[3]، يُشير إلى المُضيّ باتجاه معالجة إرث الانتهاكات الكبرى التي ارتكبها النظام البائد مع تصاعد المطالب الشعبية في هذا السياق، وفتح صفحة جديدة تستند إلى مبادئ العدالة لا الانتقام.
وقد ترافق هذا الإعلان مع تأكيد واضح في الخطاب على قضايا أساسية مثل فرض السلم الأهلي، وحصر السلاح بيد الدولة، ودمج الفصائل ضمن المؤسسة العسكرية، فضلاً عن التأكيد على رفض أي مشاريع للتقسيم.
ورغم أن الخطاب لم يمرّ بشكل مباشر على قضايا أخرى تشغل الشارع السوري مثل مصير الاتفاق مع “قسد” أو الفصائل التي لا تزال تحتفظ بسلاحها في السويداء وغيرها؛ إلا أن إشارة الرئيس الشرع على رفض أي شكل من أشكال التقسيم يُدلّل بشكل واضح على الاستمرار بإجهاض أي محاولات من قبل بعض القوى المحلية لتحقيق مكاسب سياسية خاصة من قبيل الفيدرالية أو أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، لاسيما بعدما بات موقف دمشق أقوى على المستوى الدولي بعد لقاء ترامب بالشرع ورفع العقوبات، وما صاحب ذلك من ردود فعل، الأمر الذي من المتوقع أن ينعكس على مواقف بعض القوى “الأقلوية” ذات المواقف المتصلبة تجاه السلطة الانتقالية، حيث كانت تراهن على استمرار العقوبات وعدم الاعتراف بالحكومة وتضخم في موضوع الانتهاكات لنيل مطالبها، وربما هذا ما انعكس على سبيل المثال بإلغاء مؤتمر ما يُسمى الشتات السوري لـ “جمعية العلويين” في الكونغرس الأمريكي[4]، والتي تُتهم بأنها تضم شخصيات لها ارتباطات مع أمنيين سابقين بالنظام البائد وتدّعي أن العلويين في سوريا يتعرضون لـ”تطهير عرقي” و”إبادة جماعية”.
الرسائل الخارجية: تثبيت الشرعية وتبديد سردية “الدولة الفاشلة”
في معرض رسائله حول السياسة الخارجية؛ حرص الرئيس أحمد الشرع على تقديم صورة جديدة لسوريا كدولة مستقلة ومتزنة تسعى لتصفير المشاكل مع جيرانها ومحيطها واستعادة علاقاتها الإقليمية والدولية دون ارتهان لمحاور أو اصطفافات مسبقة أو تبعية للخارج، فقد سمّى الشرع بشكل مباشر قادة دول وأشاد بأدوارهم في دعم سوريا، وصولاً إلى لحظة رفع العقوبات الأميركية ونجاح القيادة السورية الجديدة في كسر العزلة الدولية عن البلاد.
ورغم الطابع التصالحي للخطاب، فقد تجاهل الرئيس الشرع ذكر بعض الدول التي لم تُبدِ مواقف إيجابية حتى الآن من التغيير في سوريا وإسقاط النظام البائد، في إشارة لتمسّك دمشق بنهج الندية والاحترام المتبادل دون السعي لكسب الاعتراف بأي ثمن.
أما الرسالة الأهم، فقد جاءت في الشكل والمضمون معاً: إذ بدا الخطاب برمّته وكأنه إعلان خروج سوريا من “المحور الشرقي” والانفتاح على الغرب والدول العربية المؤثرة والأهم من هذا خروج سوريا من سردية “الدولة الفاشلة” لا عبر التباهي أو المبالغة، بل من خلال استخدام لغة بعيدة عن شعارات النظام البائد وابتزازه السياسي ولغة التخوين التي طبعت خطاباته عموماً.
رسائل الانفتاح الاقتصادي: سوريا أرض سلام وجذب استثمارات
اختُتم خطاب الرئيس أحمد الشرع برسائل اقتصادية واضحة وكأنها تشكّل في مضمونها إعلاناً عن ولادة سوريا جديدة تتقدّم نحو مرحلة إعادة الإعمار والتنمية بعد إعلان ترامب رفع العقوبات الأميركية، وتمكن السلطة الانتقالية من تهيئة البيئة السياسية والأمنية بشكل تدريجي، فقد وجّه الشرع دعوة صريحة ومباشرة إلى المستثمرين من الداخل والخارج، بما فيهم الأشقاء العرب والأتراك للمساهمة في “نهضة سوريا الحديثة” مع التأكيد على تقديم تسهيلات واسعة لضمان بيئة استثمارية جاذبة، ويبدو هذا تشجيعاً للكثير من الشركات الأجنبية التي كانت تتردّد في الدخول إلى السوق السورية سواء بسبب العقوبات أو بسبب سوء الإدارة والفساد الذي كان يطبع المشهد الاقتصادي والأمني في ظل النظام البائد.
والأهم من ذلك، أن خطاب الشرع سعى بوضوح إلى تبديد الصورة النمطية عن سوريا كبيئة طاردة للاستثمار، واستبدالها بصورة جديدة لدولة تفتح قطاعاتها بشفافية، وتتعهد بضمان الحقوق والانفتاح على الجميع دون تمييز.
عموماً، يمكن القول إن الخطاب يتجاوز مجرد الدعوة إلى الاستثمار، ليكون بمثابة إعلان سياسي عن انتقال سوريا من مرحلة الانهيار إلى مرحلة السعي لأن تكون دولة فاعلة اقتصادياً ودبلوماسياً في بيئتها الإقليمية والدولية.
ختاماً ورغم ما حمله خطاب الرئيس الشرع من رسائل تفاؤل واستنهاض داخلي وانفتاح خارجي، إلا أن الطريق نحو التحوُّل الشامل لن يكون سهلاً وقصير الأمد، فالتحدّيات لا تقتصر على الحوكمة وتهيئة بيئة قانونية آمنة للاستثمار ومكافحة الفساد وإعلان الانفتاح على الجميع، بل تتعدّاها إلى اختبارات سياسية حسّاسة أُثيرت خلال اللقاء مع الرئيس الأميركي وأعلنها البيت الأبيض صراحة[5]؛ بينها مطالب تتعلق بانضمام سوريا إلى ما تُعرف بـ “اتفاقيات أبراهام” أي التطبيع مع “إسرائيل”، وترحيل من وصفهم البيت الأبيض بـ”الإرهابيين الفلسطينيين” وإخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، ما يضع السلطة الانتقالية أمام توازنات صعبة بين “الضرورات” الدولية ومحددات القبول الشعبي وبشكل خاص ما يتعلق بقضية التطبيع مع “إسرائيل”.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.