تفاعل “محور المقاومة” مع عملية “طوفان الأقصى” في غزّة
إضاءات تحليلية تصدر عن وحدة تحليل السياسات
مقدمة:
شكّل انفجار الأوضاع في غزّة عقب الهجوم “الإسرائيلي” الهمجيّ على غزّة بعد إطلاق الفصائل الفلسطينية معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 إحراجاً حقيقياً غير مسبوق لإيران وأذرعها في المنطقة؛ من حيث الخطاب الذي سوّقته خلال عقود فيما يخصّ القضية الفلسطينية، وتغلغلها في عدة دول عربية بناءً على هذا الخطاب[1].
وقد بدا واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” ساعدتا إيران إعلامياً على التنصّل من دخول المعركة بشكل حقيقي، وذلك عبر التأكيد مراراً بأنها “غير متورّطة” بشكل مباشر بهجوم السابع من أكتوبر، وبعدم وجود أدلة حقيقية على ذلك رغم العلاقة بين الطرفين والدعم إيران لحركات المقاومة الإسلامية في غزّة[2].
ترافقَ ذلك مع هجمات “محدودة” شنّتها ميليشيات موالية لإيران على أهداف “إسرائيلية” انطلاقاً من سوريا ولبنان واليمن، كما تعرّضت قواعد أمريكية في العراق وسوريا لهجمات أخرى من قبل ميليشيات إيرانية.
يُناقش هذا التقرير طريقة تعاطي إيران وميليشياتها مع عملية “طوفان الأقصى”، محاولاً استعراض ردود فعل ما يُسمّى بـ”محور المقاومة” على الحرب “الإسرائيلية” في غزّة، وما أظهره من مؤشرات عديدة على عدم رغبته أو استعداده للانخراط في الحرب بشكل مباشر رغم الاستعراض الإعلامي المتكرّر، ومناشدات حركة “حماس” إياهم لمساندتها[3].
إيران والحرب في غزّة؛ قرارٌ بعدم المواجهة مع “إسرائيل”، والاكتفاء بردود محدودة عبر الوكلاء:
رغم التهديدات المتكرّرة التي يُطلقها المسؤولون الإيرانيون بخصوص وجوب وقف إطلاق النار أو منع توسُّع نطاق الصراع في المنطقة؛ إلا أن الموقف الرسمي الإيراني بخصوص الحرب في غزّة حُسِمَ منذ 15 أكتوبر تشرين الأول، حين أبلغت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة أنّ القوات المسلحة الإيرانية لن تتدخّل في القتال، ما لم تهاجم “إسرائيل” مصالح إيران أو مواطنيها[4]، وسط موقف أمريكي مشابه أيضاً بعدم الرغبة بتوسيع الحرب[5].
يبدو أن إيران محكومة حالياً بمنطق “الواقعية العسكرية”؛ إذ يدرك مسؤولوها أن الأساطيل والقوات الأمريكية التي تمّ الدفع بها إلى منطقة شرق المتوسط ليس هدفها بالضرورة إسقاط حركة “حماس” في غزّة، إنما الوقوف إلى جانب “إسرائيل” في حال توسُّع جبهة الحرب وامتدادها خارج حدود القطاع؛ فإيران متيقّنة فإيران متيقّنة من جدّيّة الموقف بحيث لا تجرؤ على أية مغامرات استعراضية، ولذا اكتفت بالتصعيد الدبلوماسي ولهجة التهديد، دون أي فاعليةٍ أو قدرة على تغيير مسار الأوضاع في غزّة.
وكان من اللافت في هذا الإطار أن طهران انتقلت بشكل واضح –على لسان وزير خارجيتها- مؤخراً من التهديد والوعيد واللهجة التصعيدية إلى مستوى عرض الوساطة لإيقاف الحرب والعودة إلى خطوط ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وهو ما لم يلقَ أذناً صاغية لدى “إسرائيل” أو الولايات المتحدة[6].
ولا يبدو أن موقف إيران حول عدم التدخّل بالحرب في غزّة يرتبط بحسابات عسكرية خارجية إقليمية أو دولية فحسب؛ إنما يرتبط كذلك بموقف داخلي هشّ، لاسيما وأن البلاد تبدو ذاهبة نحو احتجاجات جديدة في ظل الفساد والقمع والتضييق[7]، واقتصادٍ متهاوٍ؛ ولكن يبقى تأثير العامل الداخلي أقل من العامل الخارجي المرتبط برفض إيران المشاركة بشكل حقيقي في الحرب.
أمام حسم إيران سياستها في عدم التدخّل المباشر والاكتفاء بتحذير “إسرائيل” من توسُّع نطاق المعركة؛ فإنها استخدمت أذرعها في أربع دول عربية للقيام بما يشبه “التحرّشات” بالقوات “الإسرائيلية” أو الأمريكية من باب “حفظ ماء الوجه”، والحفاظ على “صورة المقاومة” أمام القاعدة الشعبية، دون أن يؤثّر ذلك عسكرياً أو سياسياً على “تل أبيب” لوقف أو تخفيف هجومها الدّامي في غزّة.
أولاً: في جنوب لبنان:
عوّلت حركة حماس كثيراً على موقف ميليشيا “حزب الله” للتحرّك وتخفيف الضغط عن غزّة[8]، غير أن الحزب لم يخالف التوقّعات التي أشارت إلى أن تدخّله مرتبطٌ بموافقة إيران، واكتفى بتبادل القصف المتقطّع مع القوات “الإسرائيلية”، في وقتٍ عمد فيه الحزب إلى تضخيم نتائج عملياته ضد “إسرائيل”، كالادّعاء بإشغال ثلث جيش الاحتلال “الإسرائيلي” ونصف القدرات البحرية وربع القوات الجوية؛ رغم أن الواقع على الأرض يشير إلى خلاف ذلك[9].
وجاء الخطاب الأخير لزعيم ميليشيا “حزب الله” “حسن نصر الله” ليحسم عدم مشاركة الحزب إلا بالتحرشات الحدودية بين جنوب لبنان والمستوطنات الشمالية، وقطع كل التكهّنات عبر إشارته إلى أن موقف الحزب مرتبط بسلوك “الجيش الإسرائيلي” فيما يخصّ لبنان فقط، وهو سقفٌ منخفضٌ جداً بعد أن كان زعمَ في وقت سابق أنه سيدخل الحرب إن بدأت “إسرائيل” التوغّل برياً في غزّة[10].
كما أن “نصر الله” لَبِسَ ثوب الدبلوماسية مشدّداً على ضرورة وقف “الأعمال العدائية” وتحقيق وقف إطلاق النار في غزّة، في إشارة إلى عدم رغبة الحزب في توسُّع الحرب “الإسرائيلية”؛ مما يُشكّل خيبة أمل بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية التي كانت تريد دوراً أكثر فاعلية لـ”حزب الله” في الحرب الجارية، رغم أن مثل هذا الموقف لم يكن مستبعداً بالنظر إلى سلوك الحزب في الابتعاد عن المواجهة المباشرة والمفتوحة مع “إسرائيل”، واكتفائه بالمناوشات المحدودة والتصريحات الإعلامية منذ سنوات.
ثانياً: في سوريا:
اكتفى نظام الأسد بإدانة العدوان “الإسرائيلي” على غزّة، دون أن تكون أية كلمة مصورة لرأس النظام بشار الأسد مخصّصة للتعليق على الأحداث الجارية؛ إنما كانت بعض البيانات والأخبار عبر وسائل الإعلام الرسمية التابعة له فحسب.
وعلى الأرض قامت ميليشيات إيرانية في الجنوب السوري بإطلاق قذائف صاروخية ومدفعية تجاه الحدود مع الجولان المحتل[11]، واتّسم الردّ “الإسرائيلي” بالعنف في توجيه ضربات جوية ومدفعية داخل الأراضي السورية، إضافة إلى استهداف مطارَي دمشق وحلب عدة مرات وإخراجهما من الخدمة، وسط إعلان روسيا أن “إسرائيل” لم تعد تُبلغ موسكو بجميع الضربات التي تشنّها في سوريا[12]، في إشارةٍ إلى كثافة القصف “الإسرائيلي” في هذه المرحلة، والردود السريعة من “تل أبيب” على أيّة تحرُّكات تُثير مخاوفها[13].
وظهر بشكلٍ جليّ أن نظام الأسد ابتعد تماماً عن إبداء أيّ تصعيد أو تهديد إزاء الحرب في غزّة، بل عوّض عن ذلك بالاستمرار في حملات القصف الممنهج ضد المدنيين في مناطق شمال غرب سوريا[14]، والاكتفاء بالردود الإعلاميّة على ما تفعله “إسرائيل” في غزّة[15]. مع ملاحظة انخفاض وتيرة الهجمات الصاروخية ضد “إسرائيل” انطلاقاً من مناطق الجنوب السوري خلال الأيام الماضية بعد تصاعد القصف “الإسرائيلي”[16]، مما يُشير إلى تفاهمات تمّ التوصل لها بين إيران ونظام الأسد لوقف التصعيد من الجنوب بسبب جديّة “إسرائيل” في تهديداتها وإخراجها مطارَي دمشق وحلب عن الخدمة أكثر من مرة.
ثالثاً: في العراق:
شاركت ميليشيا ما تُسمّى “المقاومة الإسلامية في العراق” الموالية لإيران في تسجيل وجود إعلامي مرتبط بمعارك غزّة، ولكن ليس عبر استهداف القوات “الإسرائيليّة”؛ بل عبر استهداف قواعد أمريكية في العراق وسوريا بقصف صاروخي وبالطائرات المسيّرة، مما لم يستدعِ أيّ ردّ أمريكي في العراق، بينما ردّت القوات الأمريكية في شرق سوريا مرة واحدة عبر قصف محيط مدينة البوكمال التي تُعد معقلاً لميليشيات إيران.
ويندرج استهداف بعض القواعد الأمريكية ضمن السياسة الإيرانية السابقة ذاتها في الرد على الغارات “الإسرائيلية”؛ فقبل هجوم 7 أكتوبر كانت الميليشيات الإيرانية تقصف قواعد أمريكية في شرق سوريا بدلاً من ضرب أهداف “إسرائيلية” في الجولان، الأمر الذي يُدلّل على عدم رغبة إيران في التصعيد مع “إسرائيل”، والاكتفاء بالتحرش بالقوات الأمريكية عبر قصف لا يبدو ذا تأثير كبير في حياة الجنود الأمريكيين أو مصالح التحالف الدولي عموماً في المنطقة[17].
رابعاً: في اليمن:
شاركت ميليشيا الحوثي كذلك في الزخم الإعلامي “الاستعراضي” المرتبط بمعارك غزّة؛ إذ أعلنت أكثر من مرة إرسال صواريخ بعيدة المدى عبر البحر الأحمر نحو منطقة جنوب إيلات[18]، لم يسقط أي منها على أي هدف “إسرائيلي”، وأعلنت الدفاعات الجوية “الإسرائيلية” والمدمِّرة الأمريكية في البحر الأحمر تصدّيها لها دون أي خسائر.
خاتمة:
منذ بدء العدوان “الإسرائيلي” على غزة إثر معركة “طوفان الأقصى” لم يصدر عن إيران أي ردّ فعل مؤثّر في مسار المعارك بقطاع غزّة، واكتفى الموقف الرسمي الإيراني بإصدار “تهديدات” بتوسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، إضافة إلى عرض وساطات للتهدئة وتبادل الأسرى؛ مما يشكّل تأكيداً على انكفاء إيران عن المشاركة في المعركة، رغم أن “إسرائيل” وضعت هدفاً إستراتيجياً لها هو القضاء على حركة حماس.
وعوضاً عن المواجهة العلنية لجأت إيران إلى تحريك وكلائها في المنطقة، خاصة في لبنان وسوريا، لشنّ هجمات “استعراضيّة” من باب “حفظ ماء الوجه”، وهذا ما يجعل ما يُسمّى بنظرية “وحدة الساحات” التي يُروّج لها “محور المقاومة” قائمة على الدعاية لا على المناصرة الحقيقية، وأنه لا مشكلة لدى إيران بتفكيك وإنهاء حماس في ظل كثافة الهجوم “الإسرائيلي” والدعم الغربي المفتوح لـ”تل أبيب”.
وبغضّ النظر عن جديّة طهران في دعم الفصائل الفلسطينية من عدمها فإنه يمكن القول: إن الولايات المتحدة الأمريكية رسمت حدود التدخّل الإيراني في الحرب بغزّة عبر سياسة “الردع الاستباقي”، من خلال إرسال حاملات طائرات وقوات تدخّل سريع إلى منطقة شرق المتوسط، وهو ما يمكن القول إنه يُشكّل حجّة لإيران أمام وكلائها لتبرير عدم التدخّل بشكل مباشر في غزّة، والاكتفاء بالتحرش بالقواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
يبدو أن نتائج المعركة –أياً تكن– سترسم ملامح الدور الإيراني القادم في منطقة الشرق الأوسط؛ ففي حال حقّقت “إسرائيل” أهدافها في القطاع (القضاء على حركة حماس) فإن هذا قد يدفعها لشنّ هجمات أكبر ضد “حزب الله” في لبنان، خصوصاً مع تعالي الأصوات “الإسرائيلية” المطالبة بذلك. أما في حال أوقفت “إسرائيل” الحرب مكتفيةً بصفقة لتبادل الأسرى في ظل الضغوطات الدولية والمطالبة بوقف النار فإن هذا سيدعم أوراق التفاوض والضغط لدى إيران في عدة ملفات، أبرزها ملف البرنامج النووي، على اعتبار أنها ضبطت ميليشياتها ولم تتجّه لتوسيع رقعة الحرب.
“الموت للعمود”.. حزب الله الذي قصف كل جزء في مرصد الحدود مع إسرائيل، تلفزيون سوريا، 31/ 10/ 2023.
الغارديان: هجمات “حماس” كشفت عن تدهور العلاقات الروسية- الإسرائيلية.. وأوكرانيا تستعد لملء الفراغ، القدس العربي، 12/ 10/ 2023. ولكنّ هذا لا يلغي الدور الروسي إزاء خفض التصعيد في الجنوب السوري؛ إذ تحدثت مصادر محلية عن وصول قوات روسية إلى القنيطرة، مما يُعد أحد مؤشرات موسكو لضبط المنطقة ووقف الهجمات ضد الجولان انطلاقاً منها. يُنظر: دوريات روسية تعود إلى الحدود مع الجولان المحتل في القنيطرة، عنب بلدي، 1/ 11/ 2023.
ترامب يفجّر فضيحة بتفاصيل مثيرة: إيران استأذنت منّا للرد على مقتل سليماني، أورينت، 7/ 11/ 2023.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة