تورُّط مليشيا “حزب الله” في سوريا.. من التوظيف إلى الاختراق الأمني
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
لعب “حزب الله” دوراً رئيسياً وبشكل مباشر في دعم نظام الأسد ضد الاحتجاجات السلمية السورية التي اندلعت منذ عام 2011، ولاحقاً اشترك في القتال إلى جانب نظام الأسد والمليشيات الإيرانية ضد فصائل المعارضة السورية وعموم الشعب السوري[1]. كان لهذا التدخل تداعيات كبيرة على الحزب، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، أو على المستوى الداخلي اللبناني، أو على المستوى الإقليمي، ومؤخراً، قامت “إسرائيل” بسلسلة عمليات نوعية استهدفت كبار قادة الحزب، وعلى رأسهم زعيمه “حسن نصر الله”، مما طرح الكثير من التساؤلات عن أسباب انكشاف الحزب أمنياً واستخباراتياً أمام “إسرائيل” بشكل غير مسبوق.
التورط العسكري في سوريا وزيادة الانكشاف الاستخباراتي:
ثمة ما يُشبه الإجماع بين المحللين على أن توسّع “حزب الله” في سوريا أتاح لـ “الإسرائيليين” منجماً من البيانات والمعلومات الثرية، هذه البيانات، التي تم جمعها على مدار فترة طويلة، كانت ذات قيمة كبيرة للاستخبارات “الإسرائيلية” والأمريكية التي تتعاون عادة معها على طول الخط، خاصة مع انخفاض مستوى الحذر الأمني بين عناصر “حزب الله” خلال حرب نظام الأسد وحلفائه على الشعب السوري، والذي يعود إلى حقيقة أن الحزب لم يكن مستهدفاً من قبل “الإسرائيليين” في غالب مدة انخراطهم بالحرب، على العكس من ذلك، ترك “الإسرائيليون” عناصر الحزب يدخلون سوريا ويُنفّذون مهامهم دون مضايقة، ومع دخول دماء جديدة للحزب نتيجة استنزاف عناصره البشرية، بدأ الحزب يبرمج محاذيره الأمنية بناء على واقع قدرات فصائل المعارضة السورية، وليس واقع “إسرائيل”، وزاد بالتالي التراخي الأمني وقلة الانضباط، خاصة مع شيوع الحالة المليشياوية لعموم مليشيات المشروع الإيراني المنتشرة على الجغرافيا السورية. هذا التراخي الأمني فتح الباب أمام “الإسرائيليين” لتحليل نشاطات الحزب بشكل أعمق وتطوير استراتيجيات استخباراتية طويلة الأمد، إضافة إلى قدرتهم على زرع الجواسيس من خلال العناصر الجدد، كما سيتم إيضاحه.
يصف بعض المسؤولين الاستخباراتيين “الإسرائيليين” انخراط الحزب في سوريا بأنه كان بمثابة “كعب أخيل” (كناية عن نقطة ضعف مميتة للحزب)، حيث سمح بحدوث “طفرة نوعية في اختراقه[2].
على سبيل المثال، كانت “ملصقات الشهداء” التي ينشرها الحزب بشكل دوري تحمل معلومات يسيل لها لعاب الاستخبارات “الإسرائيلية”، هذه الملصقات تتضمن بيانات دقيقة مثل مسقط رأس المقاتل ومكان مقتله، وتنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع، مما يتيح جمعها وتحليلها بسهولة، كما أن الجنازات كانت تُمثّل فرصاً ثمينة للجواسيس “الإسرائيليين”، حيث كانت تجمع في بعض الأحيان قادة بارزين للحزب بهدف شحذ همم مقاتليهم لمعركة تتناقض مع سردياتهم، عادة ما يظهر القادة في العلن لفترة وجيزة، لكنها كافية بالنسبة للاستخبارات.[3]
هذا النوع من المعلومات الدقيقة أتاح لـ “الإسرائيليين” تحليل أنماط التحرك والتواصل داخل الحزب، وتطوير أساليب جديدة لمواجهته[4].
من ضمن المعلومات التي كان يجمعها الاستخباراتيون، معلومات عن العناصر الفاسدين، وهم بطبيعة الحال الأكثر قابلية للتوظيف كمتعاملين وجواسيس، وكذلك نظام الترقية، مما يتيح لهم إمكانية ترقية عناصر يريدونها بعد معرفتهم بالآليات[5].
إن القيام بنظرة سريعة على عيّنات من نتاج مراكز الأبحاث الغربية و”الإسرائيلية”، تمكننا من التأكد من تركيز الدراسات على تدخُّل “حزب الله” في سوريا، حيث تم تناول الموضوع بدقة وعناية كبيرة. هذا الاهتمام يشير إلى وجود جوانب مخفيّة في تلك الدراسات، قد تكون أعمق بكثير مما هو منشور بطبيعة الحال، ومن الطبيعي أن نتوقع أن ذلك ينعكس على الدراسات الاستخباراتية التي وجدت مادة دسمة للجمع والتحليل، وهو ما يؤكد فرصة الحصول على كم هائل من المعلومات والدراسات حول السلوكيات والمحركات، التي أدت إلى نتائج اليوم من بنك الأهداف[6].
الارتباط مع نظام الأسد والروس:
إن مشاركة الحزب في الحرب إلى جانب نظام الأسد على الشعب السوري اضطرته إلى تعميق تعاونه الاستخباراتي مع أجهزة أمن نظام الأسد ومع الروس، وتشتهر الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد بالفساد الكبير وبالاختراق من قبل الاستخبارات “الإسرائيلية”، وهو ما أدى إلى مشاركة معلوماته في النهاية مع “الإسرائيليين”[7]، والجدير بالذكر هنا، أن الحزب تعرض سابقاً لضربة في حضن نظام الأسد، عندما قُتِل “عماد مغنية”، القيادي لدى الحزب في دمشق في عام 2008 على يد “الإسرائيليين”[8]، وقد اتهمت العديد من الجهات نظام الأسد بالاختراق أو التورُّط في قتله[9].
ينطبق الأمر نفسه على الروس بشكل آخر، حيث يتم التجسُّس عليهم من قبل الأمريكيين و”الإسرائيليين”، أو ربما يقومون ببيع هذه المعلومات لـ “الإسرائيليين”، وهو ما ذكرته العديد من المصادر الإيرانية، حيث اتهمت الصحف الإيرانية مراراً موسكو بتسريب معلومات عن الميليشيات الإيرانية إلى “إسرائيل”[10]، وهو ما ينطبق على الحزب أيضاً.
تآكل الدعم الشعبي داخل لبنان وزيادة الانقسام الداخلي:
لم يكن لتورط “حزب الله” في سوريا تأثير عسكري فقط، بل امتد التأثير عليه سياسياً وشعبياً في الداخل اللبناني، حيث كان الحزب يُعتبر كحركة مقاومة وطنية في بعض الأوساط، خاصة بين أبناء الطائفة الشيعية، ولكن مع استمراره في دعم نظام الأسد بما يتناقض مع سرديته حول المقاومة، وبما يتناقض مع أدبياته التي يُبشّرون بها، إذ يعتبرون أنفسهم امتداداً لـ”الوقوف إلى جانب المظلومين ضد الظالمين”[11]، بدأ الحزب يفقد دعم جزء كبير من الشعب اللبناني، حتى داخل الطائفة الشيعية، مما ساهم في تعزيز الانقسامات الداخلية[12]، هذه التحوّلات جعلت الحزب أكثر عرضة للاختراق من قبل خصومه، حيث أصبح الانقسام الداخلي وتراجع الدعم الشعبي يُسهّلان عمليات التجسّس عليه، وتحوّلت تدريجياً بعض البيئة الحاضنة له إلى بيئة معادية خصبة لتوفير الاختراقات الأمنية عالية المستوى.
استنزاف الموارد البشرية والقدرات العسكرية:
لا شك بأن أحد أهم نتائج تورُّط “حزب الله” في سوريا كان استنزاف موارده البشرية والعسكرية، كما أن التحالف العسكري مع إيران والميليشيات الشيعية الأخرى في سوريا أدى إلى زيادة الاعتماد على خطوط إمداد طويلة ومعقّدة، كانت محط مراقبة الاستخبارات الأمريكية و”الإسرائيلية”، ما جعلها أكثر عرضة للهجمات “الإسرائيلية” في النتيجة.
وقد تعرض الحزب لخسائر بشرية فادحة خلال تورُّطه في الحرب في سوريا، مما اضطره إلى تجنيد أعداد كبيرة من المتطوعين الجدد دون التحقق الكافي من خلفياتهم[13]، هذا الوضع سمح بتوغُّل الاستخبارات الإسرائيلية من خلال المجنّدين الجدد، خاصة مع تغيّر العقيدة القتالية للحزب، التي انتقلت من مقاومة “إسرائيل” إلى قمع مطالب السوريين وقتال فصائلهم.
خاتمة:
يمكن القول إن “إسرائيل” وظّفت تدخّل مليشيا “حزب الله” والمليشيات الإيرانية عموماً في سوريا فيما يخدم مصالحها على المدى البعيد، وذلك لأن الحزب بعد أن تدخّل في سوريا لقمع الثورة السورية وقتل السوريين في 2011 اُضطر لتجنيد أعداد كبيرة من المقاتلين تحت وقع الخسائر التي تعرّض لها دون التدقيق الكافي في خلفياتهم، الأمر الذي نتج عنه انكشاف أمني كبير، إذ تم اختراق الحزب عبر الجواسيس أو العناصر غير المؤهّلة أمنياً، مما سهّل جمع المعلومات عنه وعن بقية المليشيات، وهذا ما يبدو أنه أتاح لـ “إسرائيل” فرصة أكبر لاختراق شبكاته ومتابعة تحرُّكاته بشكل دقيق.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن العلاقات التي يُقيمها “حزب الله” مع نظام الأسد ومع روسيا عززت من خطر تسريب المعلومات عنه، وذلك لأن نظام الأسد معروف بضعف أجهزته الأمنية وفسادها، في وقتٍ لا يبدو فيه من المستبعد أن تكون روسيا كذلك باعت معلومات حساسة لـ “إسرائيل” لتحقيق مصالحها، فتلك العوامل مجتمعة إضافة إلى تقدُّم “إسرائيل” تكنولوجياً قد تكون أدت إلى انكشاف كبار قادة الحزب وسهّلت عمليات الاغتيال الأخيرة التي طالتهم، وهي مهمة يبدو أن “إسرائيل” كانت مستعدة لها بالنظر إلى التسلسل الواضح والمستمر في عمليات اغتيال كبار قياديي الحزب، سواء في سوريا أو لبنان.
وبشكل عام، رسم “حزب الله” في سياساته بدعم نظام الأسد والإيغال بدماء السوريين تناقضاً فجّاً في سرديته التي يدّعيها بمقاومة الاحتلال، فضلاً عن اتهامه بالقيام باغتيالات شخصيات لبنانية[14]، إذ تسبّب كل ذلك في ترسيخ انطباع أساسي عن الحزب، يتسم بالتناقض الفج بين شعاراته التي يرفعها، وسياساته التي يُنفّذها، ما أدى في النتيجة إلى تحوُّل في بعض البيئة الحاضنة للحزب من بيئة داعمة إلى بيئة معادية، أو على الأقل لا تؤمن تماماً بأيديولوجيته ودعايته التي يُسوّقها عن نفسه، ما جعلها خصبة لزرع الجواسيس وتنفيذ الاختراقات ضده.
والجدير بالذكر هنا أن قطاعاً واسعاً من الشارع العربي ما يزال يقع في فخ ترميز وتبجيل أي جهة تقوم بأي أنشطة ضد “إسرائيل”، حتى لو كانت وهمية، أو حتى لو كان دور تلك الجهات يقتصر على تلقّي الصفعات من “إسرائيل”، وهو الفخ الذي استغلّته العديد من الديكتاتوريات العسكرية العربية، وعلى رأسها نظام الأسد لفترة طويلة، من خلال رفعها لشعارات المقاومة والممانعة، وكأن رفع هذه الشعارات أو تلقّي صفعات “إسرائيل” يُمثّل صك غفران لها عن كل الجرائم التي ترتكبها، وهو ما يؤكد ضرورة العمل بصبر وبنفس طويل لرفع مستوى الوعي الجمعي العربي، والمنطقة عموماً للوصول إلى التنمية السياسية المستدامة التي تحقق العدالة لمختلف شعوب المنطقة.
التغلغل الإيراني في سوريا.. اغتيال المستقبل السوري، مركز الحوار السوري، 1 / 12 / 2023
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،