
جماعة “أولي البأس”.. استدعاء سردية “المقاومة” كأداة لإعادة التموضع الإيراني في سوريا
مقدمة:
في الثاني من شهر آب/أغسطس الجاري، تناولت مصادر صحفية أنباء عن إعلان للتعبئة أطلقته جماعة جديدة في سوريا تحمل اسم “المقاومة الإسلامية في سوريا – أولي البأس” عبر تسجيل مصوّر لقائدها، وهي جماعة يبدو أنها تتبنّى خطابًا يدعو إلى بدء مسار مقاومة ضد “إسرائيل”[1].
وقبل هذا الإعلان، كانت هناك مؤشرات لظهور تلك الجماعة منذ المراحل المبكّرة التي أعقبت سقوط نظام الأسد البائد.
يحاول هذا التقرير تسليط الضوء على هذه التطورات، واستقراء المشهد الراهن في الجنوب السوري، في ظل إصرار “إسرائيل” على منع انتشار قوات الجيش السوري في تلك المنطقة.
التأسيس والظهور:
خلال أسابيع قليلة، بدأت تتبلور دعوات إلى مقاومة “الاحتلال الإسرائيلي” في الجولان والأراضي السورية الجنوبية. وفي أواخر كانون الأول/ديسمبر 2024، أُعلن عن تشكيل “جبهة تحرير الجنوب”، التي وجهت في بيانها الأول إنذاراً للقوات “الإسرائيلية” المتوغلة في الجنوب بضرورة الانسحاب خلال 48 ساعة، وذكر البيان بأن التشكيل يأتي بعد شهر كامل من “حل الجيش العربي السوري الذي كان خط الدفاع الأول عن الجمهورية العربية السورية”[2]. وبعد ذلك بفترة وجيزة، وتحديداً في 11 كانون الثاني/يناير 2025، غيّرت هذه التشكيلة اسمها إلى “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا – أولي البأس”، معلنةً نفسها واجهة جديدة للمقاومة المسلّحة ضد “إسرائيل” في الساحة السورية[3]. وقد وصفت مجلة نيوزويك الأمريكية هذه الجماعة بأنها تُمثّل “المقاومة الجديدة في سوريا”، والمصمّمة على مواجهة “إسرائيل” و”محور الشر الأمريكي”، ونقلت المجلة عن الجماعة الجديدة أنها “لا ترتبط بأي محور” وأنها ضد “مختلف أنواع الاحتلال في سوريا؛ الإسرائيلي والتركي”[4].
أحاطت الضبابية -وربما المقصودة بهدف التهويل والإثارة الإعلامية- بهوية وهيكلية هذا التنظيم المزعوم، وثمة ادعاء أنه تم الإعلان عن تأسيسه خلال مؤتمر استثنائي عُقِد في دمشق يومي 5 و6 أيار/مايو 2025، حيث كُشف للمرة الأولى عن بعض قياداته[5]، وأبرزهم القائد العام للتنظيم المعروف بلقب “أبو جهاد رضا”، وتحدثت تقارير بأن اسمه الحقيقي هو “رضا حسين”، وهو ضابط سابق في الجيش السوري تم تسريحه قبل نحو خمسة وعشرين عامًا حين كان برتبة صغيرة.
ووفق التقارير، فإن رضا يدَّعي أنه تعاون في مراحل سابقة مع تنظيمات فلسطينية ولبنانية -في إشارة على الأرجح إلى فصائل مثل “حزب الله”- قبل أن ينفصل عنها عام 2021 بعد “تبنّيه رؤية سياسية وعسكرية جديدة”[6].
بحسب تقارير، يعتمد التنظيم على قيادة غير مركزية تعمل بأسلوب الخلايا العنقودية، مع منح القادة الميدانيين قدراً من الاستقلالية ضمن توجيهات عامة. ورغم ذلك أعلنت الجبهة عن أربعة مراكز رئيسية في مناطق عدة في سوريا إلى جانب الجنوب السوري، وهو ما يُثير الاشتباه بنوايا “التنظيم” المزعوم ومدى ارتباطه بفلول نظام الأسد البائد، خاصة أن ذات التقارير تحدثت عن ارتباط قيادي فيها بمجموعة مرتبطة بإيران سابقاً[7]، كما أن بعض المجموعات المنضمّة للجبهة كانت تعمل تحت اسم مليشيا “درع الساحل”[8]، الذي أسّسه المجرم الطائفي مقداد فتيحة (سفاح الساحل السوري)[9].
عمليات عسكرية وأنشطة ميدانية مزعومة:
في أوائل آذار/مارس، أعلن التنظيم مقتل أربعة من عناصره في ما وصفه بـ”اشتباكات” شهدتها بلدة كويا في ريف درعا قرب الجولان، إثر توغل “إسرائيلي”. ورغم تبنّي “أولي البأس” لما حدث، أكّد ناشطون محليون أن المواجهة كانت أقرب إلى ردّ فعل شعبي عفوي من الأهالي، وليس عملية عسكرية منسّقة يقودها أي تنظيم[10]. هذا التباين في الروايات يُعزّز الشك بالتنظيم ونواياه، وأنه قد يكون حالة إعلامية مضخَّمة أكثر منه قوة ميدانية منظمة، خاصة في بيئة جنوب سوريا العشائرية، حيث أن انتشار السلاح الفردي يمكن أن يجعل أي اشتباك مع القوات “الإسرائيلية” يبدو وكأنه من فعل تنظيم[11].
ويُلاحظ أن نشاط “أولي البأس” اتسم منذ البداية ببعد دعائي قوي، إذ تحرص الجبهة على نشر مقاطع مصوّرة تزعم أنها توثق عملياتها، مثل إطلاق صواريخ مضادة للدروع من طراز كورنيت، أو إسقاط مسيّرات “إسرائيلية” في القنيطرة، ومع أن الجيش “الإسرائيلي” لم يعترف بمعظم هذه الادعاءات، فقد أقرّ بوقوع حوادث أمنية متفرقة في المنطقة، وبوجود أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على توليد أنماط متقدّمة من مقاطع الفيديو تبقى هذه العمليات محلّ شك كبير، خاصة مع وجود مقاومة شعبية وتنظيمات أخرى مزعومة (أو ربما وهميّة) تتبنّى العمليات، مثل كتائب “محمد الضيف”.
نظرة في خطاب قائد المجموعة وبياناتها:
بعد مشاهدة خطاب قائد المجموعة المزعوم المصوّر، يمكن تسجيل عدة ملاحظات في تحليل مضمون الخطاب والشكل والأسلوب الذي ظهر به:
الظهور باللثام بأسلوب مشابه لـ”أبو عبيدة” الناطق باسم كتائب القسام الفلسطينية: في محاولة دعائية – فيما يبدو – للربط بينه وبين “أبو عبيدة”، بهدف حصد المشاهدات واستغلال القضية الفلسطينية، وموضوع غزة تحديداً (وهو ما يلحظ في بعض التعليقات على التسجيل على قناة يوتيوب، التي ربطت بين الشكلين).
المضمون السياسي:
يتحدث “أبو جهاد رضا” عن سقوط الدولة السورية، وأن سوريا الجديدة تتحرك بأوامر تركية و”صهيونية” وأمريكية، وهو خطاب يتقاطع مع رواية نظام الأسد البائد وداعميه الإيرانيين، ويتبنّى سردية النظام ومحور “المقاومة” حول الثورة السورية، بوصفها “مؤامرة”، ويشير إلى “جنود الجولاني” -هكذا يسميهم- باعتبارهم أدوات لـ”الصهيونية”؛ الأسلوب الخطابي الذي يتسق مع خطاب فلول النظام البائد.
كما يذكر وجود 17 مقراً للاستخبارات “الصهيونية” في دمشق، في اتهام مبطن للإدارة السورية الجديدة بالتعاون مع “إسرائيل”.
المزج بين مفردات الخطاب الوطني، والقومي والديني:
يبدأ بالتحميد والصلاة على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يضيف عبارة “وآله المنتجبين” وهي صيغة شائعة في أدبيات الفكر الشيعي الإمامي، ويستخدم عبارة “لواء إسكندرون المسلوب” بما يتسق مع خطاب نظام الأسد البائد قبل سقوطه عندما توترت علاقته بتركيا نتيجة دعمها لقوى الثورة والمعارضة، وهو ما يتماشى أيضاً مع أدبيات الحزب القومي السوري الاجتماعي، والجدير بالذكر أن بياناً للحزب القومي السوري الاجتماعي قد صدر في 17 كانون الأول / ديسمبر 2024، يدعو إلى تشكيل جبهة تصد توغّل “العدوان اليهودي”، فيما اعتبر أنه مقدّمة لتأسيس “جبهة تحرير الجنوب”، التي غيّرت اسمها لاحقاً إلى “أولي البأس – جبهة المقاومة الإسلامية في سورية”، والحزب المذكور معروف بعلاقاته الوثيقة بنظام الأسد البائد و”حزب الله”[12].
كما استخدم ألفاظاً دينية مختلطة بالأدبيات القومية، مثل “لا طريق إلى القدس إلا من بوابة الشام”، و”سوريا باقية مهما تكالبت عليها الأمم”، فيما بدا أنها تركيبات استُحضرت على عجل للجمع بين خطابات الجماعات المحسوبة على إيران، وفلول نظام الأسد، والحزب القومي السوري الاجتماعي وباعتماد صياغة ضعيفة ودون تحضير متقن.
كما يمكن ملاحظة الركاكة اللغوية والأخطاء اللفظية والتشكيلية، والأخطاء في تلاوة القرآن الكريم، وهي سمات تميّز خطابات فلول نظام الأسد البائد التي بدأت تتدثّر بالخطاب الديني مؤخراً رغم بعدها عنه حقيقة، والأمر ذاته ينطبق على البيانات المكتوبة الصادرة عن التنظيم.
تورّط التنظيم في تمرد الفلول في الساحل السوري:
في 6 آذار/مارس 2025، صدر بيان مشترك بين “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا – أولي البأس” مع لواء درع الساحل، أكدوا فيه تصديهم لما سموها “عصابات الإرهاب التكفيري”، في إشارة إلى القوات الحكومية، وهو ما ينسجم مع خطاب نظام الأسد البائد ضد قوى الثورة والمعارضة سابقاً، وهذا البيان إلى جانب قرائن أخرى عديدة، يؤكد علاقة التنظيم بفلول الأسد وإيران، وتورطهم المباشر في تمرد فلول نظام الأسد في مناطق الساحل الذي حدث في آذار/ مارس الماضي[13].
علاقة التنظيم بإيران:
ينفي التنظيم ارتباطه بأي دولة أو تنظيم خارجي، فقد أكدت مصادر قيادية في الجبهة أنها “لا تتبع إيران ولا تخضع للسلطات الانتقالية السورية، ولا ترتبط بأي دولة أو تنظيم خارجي، “وشددت على وجود مسافة واضحة بينها وبين الحكومة السورية الجديدة بسبب موقف الأخيرة من التطبيع مع “إسرائيل”. كما ذكرت أن إيران نفسها “تخلّت عن المجموعات التي كانت تتبعها في سوريا في توقيت حساس”، وبالتالي فإن الإصرار على ربط التنظيم بطهران “لم يعد منطقيًا” على حد قول تلك المصادر[14]، ولكن هناك العديد من المؤشرات التي يمكن رصدها، وتشير بوضوح -وربما بما لا يدع مجالاً للشك- إلى ارتباط تنظيم “أولي البأس” بإيران وبفلول نظام الأسد، من أبرزها:
- الترويج المبكّر عبر شخصيات محسوبة على محور إيران: حيث قام محللون مقرّبون من طهران، مثل العراقي عباس العرداوي (المعروف بقربه من المليشيات العراقية) بالإعلان عن ولادة التنظيم قبل بيانه الرسمي، وأرفقوا شعاراته[15]، كما إن شخصيات إيرانية بارزة، منها العميد بالحرس الثوري بهروز إصبتي، أكد أن طهران تعمل مع عناصر سورية لتأسيس مثل هذه الفصائل، ما يُعزّز فرضيّة الرعاية الإيرانية[16].
- تشكيل تنظيم “أولي البأس” بعد سقوط الأسد بهوية بصرية وشعارات مستوحاة من فصائل محور إيران، مدعوم إعلاميًا من منصات مرتبطة بالحرس الثوري، وناشئ ضمن استراتيجية إيرانية للحفاظ على نفوذها في سوريا عبر واجهات محلية[17]، كما أن مسمى “أولي البأس” هو المسمى الذي أطلقه “حزب الله” على معركته الأخيرة مع “إسرائيل” بعد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله[18].
- التعاون مع مجموعات فلول نظام الأسد: من خلال تورطهم في محاولة التمرد في الساحل السوري وفق ما ذكر سابقاً.
سيناريوهات محتملة:
من الصعب حصر السيناريوهات المتعلقة بهذه الجماعة، إذ إن مسارها مرتبط بعدة عوامل، أهمها مصير النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة، والذي يشهد مدًّا وجزرًا تبعًا لرياح السياسات الدولية والإقليمية، إضافة إلى ملفات إقليمية متشابكة، أبرزها مصير ميليشيات إيران في المنطقة، مثل مصير “حزب الله” في لبنان وسلاحه، خاصة في ظل الجهود الأمريكية بالتعاون مع “إسرائيل” لنزع هذا السلاح، إلى جانب عامل مهم وهو الرأي العام السوري المناهض للنفوذ الإيراني تحت أية عنوان وذريعة حتى ولو كان شعار “تحرير القدس”، بعد أن انكشفت حقيقة هذا المشروع التوسعي الاستيطاني خلال السنوات العشرين السابقة، ومع ذلك، يمكن رسم عدد من السيناريوهات الأساسية:
السيناريو الأول: اضمحلال وزوال الجماعة نتيجة نجاح الحكومة السورية الحالية في عملياتها الأمنية والعسكرية بقطع رأس التنظيم والقضاء عليه من خلال القضاء على الفلول، خصوصًا أن وجوده الأهم يتركز فيما يبدو في مناطق الساحل وبعض مناطق دير الزور، بينما يظل وجوده في جنوب سوريا شكليًا وإعلاميًا أكثر منه حقيقيًا. محركات هذا السيناريو تتمثل في كفاءة العمل الأمني السوري، والدعم الاستخباراتي الخارجي، وضعف قدرة إيران على توفير الدعم اللوجستي في تلك المناطق.
السيناريو الثاني: بقاء الجماعة في حالة كمون نسبي على غرار بقية الفلول التي تجد ملاذات آمنة في جيوب خارج سيطرة الحكومة السورية مثل السويداء أو مناطق “قسد” أو بعض المناطق المعزولة في جبال الساحل السوري، مع نشاط محدود على شكل خلايا نائمة تنتظر الفرصة لتنفيذ هجمات متفرقة ضد القوات الحكومية، أو تنفيذ عمليات رمزية على جبهة الجنوب بهدف الحفاظ على الحضور الإعلامي. هذا السيناريو تُحرّكه عوامل مثل ضعف القدرة على التوسع، لكن مع بقاء قنوات اتصال ودعم من قبل إيران عبر وسطاء محليين، وهو من السيناريوهات المرجحة ضمن الظروف الحالية.
السيناريو الثالث: تطور الاعتداءات “الإسرائيلية” في الجنوب السوري، بالتوازي مع استمرار الحرب في غزة، مع استمرار الفراغ الأمني، مما يمنح هذه الجماعة فرصة للنمو بالتوازي مع نمو جماعات مقاومة محلية ضد “إسرائيل”. في هذا الإطار، تصبح المنطقة نشطة بوجود جماعات معادية وموالية لـ”إسرائيل” على نمط الجنوب اللبناني أثناء احتلال “إسرائيل” له، وتكون للجماعة حصة صغيرة في المشهد العام، شبيهة بحالة حركة الجهاد الإسلامي أو الفصائل الفلسطينية الصغيرة إلى جانب كيانات أكبر مثل “حماس”. وقد تستثمر إيران في هذا السيناريو ليس بالضرورة في دعم هذه الجماعة نفسها، بل في دعم جماعات أخرى طبيعية أو أهلية، حتى لو كانت سنيّة، على طريقة دعم إيران لحركة “حماس”، بهدف تعزيز “محور المقاومة” في الجنوب. محركات هذا السيناريو هي طبيعة العداء الشعبي لـ”إسرائيل”، وازدياد الضيق الشعبي في درعا من الاعتداءات، ووجود حواضن اجتماعية متفرّقة قابلة للتعبئة، خاصة مع استمرار المجازر في غزة، و يبدو هذا السيناريو مستبعداً في المدى المنظور لوجود مثبطات له خصوصاً ما يرتبط بمعرفة السوريين بنوايا المشروع الإيراني ومعرفتهم لحقيقته من خلال الجرائم التي ساهمت بها أو أيدتها إيران بحق السوريين خلال سنوات الثورة.
السيناريو الرابع: نجاح نسبي للحكومة السورية في السيطرة على الجنوب بعد تفاهمات إقليمية، لكن مع بقاء فصائل مقاومة تشتبك مع الحكومة ومع “إسرائيل” في آن واحد، مما يؤدي إلى تصعيد خطاب شيطنة الحكومة واتهامها بأنها مجرد “حارس وظيفي” للحدود “الإسرائيلية”. في هذا السياق، قد تنفَض حتى بعض الجماعات الموالية حاليًا عن الحكومة وتنضم إلى الصفوف المناوئة لها تحت راية مقاومة “إسرائيل” أو على الأقل ترفض الانضمام لجهود الحكومة في مكافحة هذه الجماعات، وتبقى الحالة مختلطة والوضع الأمني مضطرباً. يبقى هذا السيناريو مستبعداً حالياً فهو مبنيّ على فرضية نجاح الحكومة في الوصول إلى تفاهمات أمنية مع “إسرائيل”، وهذا الأمر ربما مؤجَّل وفق المعطيات الحالية.
السيناريو الخامس: مزيج بين الكمون والتمدّد المرحلي، حيث تستخدم إيران هذه الجماعة كورقة مساومة إقليمية، فتتوسّع أو تنكمش تبعًا لمستوى التوتر مع “إسرائيل” أو مع القوى الدولية. في فترات التصعيد، يتم تنشيط الخلايا وإبرازها إعلاميًا عبر تبنّي عمليات أو إطلاق تهديدات، بينما في فترات التهدئة أو المفاوضات، يتم تقليص النشاط الميداني مع الحفاظ على البنية التنظيمية. ويصبح هذا السيناريو أكثر خطورة إذا ما حدث نوع من تحرير النفوذ الإيراني مجددًا بفعل صفقة نووية أو تسوية سياسية، وتمكنت إيران بطريقة ما من إيصال صواريخ نوعية إلى الجنوب، على غرار الصواريخ التي أطلقها الحوثيون على “إسرائيل” وعلى السعودية، ما يُشكّل تطورًا نوعيًا في موازين القوى ويمنح الجماعة أو من يشبهها قدرة أكبر على فرض حضورها في المعادلة الإقليمية. هذا السيناريو يستند إلى التجربة الإيرانية الطويلة في إدارة الفصائل العابرة للحدود.
خاتمة وتوصيات:
على الرغم من كونها أقرب إلى ظاهرة صوتية عندما يتعلق الأمر بمقاومة “إسرائيل”؛ يمثل الحضور الميداني لجماعة “أولي البأس” -بوصفها أداة لإعادة التموضع الإيراني في سوريا- تهديدًا مُركّبًا على أمن سوريا ووحدتها السياسية، فعلاوة على أنها اشتركت في دعم فلول نظام الأسد في تمردها فعلياً، فإن وجود قوة مسلّحة خارج إطار الدولة بذريعة المقاومة يُكرّس ازدواجية الشرعية والسلاح، وهو ما أثبتت التجارب الإقليمية أنه مدخل لتآكل سلطة الدولة وجرّها إلى صدام داخلي. في لبنان، قاد هذا النمط إلى احتكار “المقاومة” من طرف “حزب الله” لصالح “الولي الفقيه” على حساب لبنان، وتحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة اشتباك طويل الأمد أنهك الدولة، وتعاني الدولة من آثاره حتى الآن، بينما في الأردن، كانت ازدواجية القوة بين الفصائل الفلسطينية والدولة الشرارة التي فجّرت أحداث “أيلول الأسود” وأفضت إلى مواجهة دامية لاستعادة احتكار العنف حصراً للدولة وأجهزتها[19]. في الحالة السورية الراهنة، يُضاف إلى ما سبق خطر غياب الدولة أو ضعفها في الجنوب، ما يتيح لإيران توظيف “أولي البأس” كذراع ضغط على الحكومة الجديدة، وإرسال رسائل ضغط تفاوضية على مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين. هذا الواقع قد يفتح أيضًا مجالًا لـتلاقٍ موضوعي للمصالح وتخادم بين طهران و”تل أبيب”؛ سواء ترافق بتواطؤ بينهما أو لم يترافق، إذ قد ترى “إسرائيل” في وجود مثل تلك الجماعات مبررًا يمكن استثماره إعلامياً لإقامة حزام أمني وضربات استباقية وتدخّل ودعم لمليشيات “الدروز” الموالية لها، بينما تستفيد إيران من شرعنة ميليشياتها تحت شعار “المقاومة” بعيدًا عن أثمان التصعيد في جبهة لبنان، على اعتبار أن ردة الفعل “الإسرائيلية” ستكون ضد عدوّ لها (الدولة السورية الوليدة)، وهو ما قد تريده إيران وتتعمّده بهدف استجرار مزيد من الدمار والتدخّل “الإسرائيلي” في سوريا، وربما تهدف إيران ومعها “حزب الله” إلى إرسال رسالة في هذا التوقيت تحديداً[20]، بوجود أوراق يمكن لعبها في سوريا في حال الإصرار الأمريكي و”الإسرائيلي” على نزع سلاح “حزب الله” في لبنان في إطار الخطة الأمريكية الجديدة لبسط الدولة اللبنانية لسيطرتها، خاصة بعدما ألمح المبعوث الأمريكي توماس باراك في تصريحات جدلية بإمكانية الاستعانة بالنفوذ السوري لنزع سلاح “حزب الله” في حال عدم نجاح الدولة اللبنانية في هذه المهمة[21].
وعلى الرغم من أن الشعب السوري يمتلك مناعة صلبة نسبياً ضد “البروباغندا” الإيرانية التي تتدثّر برداء “المقاومة”، بحكم خبرته المريرة مع تدخّلات طهران الطائفية ودعايتها المضللة؛ إلا أن هذه المناعة بحاجة إلى تعزيز مُنظَّم ومستمر، خصوصًا في بيئة منهكة ومحتقنة يمكن أن يتم فيها استدعاء الرمزية العاطفية لفكرة “المقاومة” في غير سياقها الوطني، خاصة مع ازدياد الوقاحة “الإسرائيلية” المستفزة في التدخّل في الشؤون السورية، وظهور وحشية “إسرائيلية” غير مسبوقة ضد الفلسطينيين في غزة، وهو ما يُحرّك الرأي العام السوري الذي يتضامن مع القضية الفلسطينية، ويرى الانتهاكات “الإسرائيلية” واقعياً ضد سوريا.
بناء على ما سبق يمكن اقتراح التوصيات التالية:
- تفعيل العمل الأمني والاستخباراتي: من خلال مراقبة هذه الجماعة وقياداتها ورصد تحرُّكاتها، مع ملاحقتها القانونية والميدانية وضربها قبل أن تتمكن من تثبيت وجودها. وينبغي تعزيز التعاون مع القوى الإقليمية والدولية للقضاء عليها في مهدها، ومنع انتشارها أو تغلغلها داخل المجتمع السوري، كما يتعين توسيع دائرة المراقبة لتشمل جميع الجماعات المماثلة، ورصد أي بوادر لتحالفات أو أنشطة ذات طابع متطرّف، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تغوّلها أو حصولها على دعم خارجي، والتعامل معها بحزم أمني وعسكري متكامل.
- التعبئة الفكرية والتوعية عبر التذكير بدروس التجارب الإقليمية: من خلال توسيع حملات التوعية العامة لتشمل أمثلة من التجارب الفاشلة للدول التي فقدت احتكار القرار الأمني، مثل حالة الدولة العراقية تحت وطأة الميليشيات، وانقسام لبنان واحتكار “المقاومة” من طرف واحد، وأحداث “أيلول الأسود” في الأردن التي جسّدت مخاطر ازدواجية الشرعية والسلاح، ويمكن ربط هذه النماذج بالواقع السوري الحالي، وتوضيح أن السماح لقوى خارجة عن الدولة بتبنّي ملف “المقاومة” يفتح الباب لتكرار هذه السيناريوهات، والعمل على التوعية بمسارات العلاقات الإيرانية “الإسرائيلية” والأمريكية وتقاطعاتها وافتراقها بشكل واقعي بعيداً عن التهويل وعن نظرية المؤامرة[22]، باعتبار ذلك كان ذا أثر واضح على الملف السوري، وعلى عموم المنطقة.
- تبني أدوات النضال القانوني الممكنة والمعقولة: تعزيز الثقافة الوطنية حول أدوات النضال الممكنة ضد “إسرائيل”، بما في ذلك اللجوء إلى المحاكم الدولية، وحملات المقاطعة، والدبلوماسية الشعبية، وحشد التضامن العالمي، سواء للتضامن مع الإخوة الفلسطينيين في غزة أو لمواجهة العدوان “الإسرائيلي” المستمر على سوريا بأشكاله المختلفة، والإشارة إلى أن هذه الأدوات أثبتت بعض النجاحات، وأنها في الظرف السوري الراهن بدولته الوليدة تمثل الخيار الممكن والمعقول لتحقيق مكاسب تراكمية ملموسة دون الانجرار إلى حرب مفتوحة واسعة[23].
- بناء شرعية الدولة في الجنوب: العمل على تقوية حضور الدولة في عموم سوريا، والجنوب خاصة، وفي محافظات درعا والقنيطرة على وجه أدق، باعتبار درعا حاضنة الثورة الأولى، عبر مشاريع تنموية وأمنية مشتركة مع المجتمعات المحلية، بما يقطع الطريق أمام استقطابها من قبل الميليشيات.
- التأكيد والتوعية بأن قرار الحرب والسلم هو قرار سيادي جامع: وهو قرار الدولة بمؤسساتها ذات الصلة حصراً، لا يُتخذ إلا في إطار وطني يوازن بين المصالح الاستراتيجية ومخاطر المواجهة، وبحسابات دقيقة، وتوضيح خطر استجرار مليشيات مدعومة خارجياً لمواجهات مفتوحة تخدم العدو.
“درعا.. فصيل عسكري ينشط افتراضيًا لمواجهة إسرائيل”، عنب بلدي، 16 نيسان/أبريل 2025، الرابط.
إضاءات على العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة، مركز الحوار السوري، الرابط.
التقرير التحليلي: “تصدير الثورة والتحولات في السياسة الإيرانية”، الرابط.
تموج العلاقات وسط أحداث إقليمية ودولية كبرى،، الرابط.
تأثيرات الملف النووي والتغيرات الداخلية على العلاقات الإيرانية الأمريكية، الرابط.
تفاعلات العلاقات الإيرانية الأمريكية، الرابط.
باحث ومستشار، كتب و شارك في كتابة العديد من الأوراق المتعلقة بالملف السوري. كما عمل مستشاراً وباحثاً في الشأن السوري لدى عدة مراكز سياسات سورية ناشئة، ولدى منظمات دولية. مدرب في مجال أساسيات ريادة الأعمال وأساسيات التحليل السياسي،