التوترات والحشود بين الفاعلين شرقي الفرات؛ الرسائل والدلالات

مقدمة:

انشغلت عددٌ من المصادر الصحفية ووسائل الإعلام بمتابعة الحشود والمناورات الأمريكية والإيرانية، والتوترات الأمريكية مع الجانب الروسي في مناطق شرقي الفرات خاصة^[1]، وسطَ تخوفات من تحوُّل التوترات إلى اشتباكات وحرب بالوكالة بين الولايات المتحدة من جهة، والروس والإيرانيين من جهة أخرى.

 يناقش تقدير الموقف هذا دوافع وخلفيات التحركات الأخيرة للفاعلين، والرسائل المباشرة وغير المباشرة التي تريد الأطراف تبادلها على الأرض السورية.

مناورات وتعزيزات عسكرية أمريكية جديدة شرقي سوريا:

أجرت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مناورات عسكرية جوية وبرية جديدة مشتركة مع “قسد” في مناطق الحسكة ودير الزور^[2]،  وذلك بعد ساعات من الإعلان عن انتهاء سلسلة مناورات عسكرية مماثلة مشتركة مع “جيش سوريا الحرة” قرب قاعدة التنف العسكرية على مثلث الحدود السورية – العراقية – الأردنية شرقي محافظة حمص^[3].

كما استقدمت قوات التحالف الدولي و”قسد” خلال الفترة الأخيرة تعزيزات عسكرية إلى مناطق التماس مع مناطق سيطرة نظام الأسد في ريف دير الزور، وتضمّنت التعزيزات عشرات الآليات العسكرية ومئات من عناصر “قسد” قادمين من محافظتَي الرقة والحسكة^[4]، ونُشرت في قواعد حقل العمر والتنك وكونيكو ومنطقة المعامل^[5].

إلى جانب ذلك استبدلت “قسد” بعناصر مجلس دير الزور العسكري عناصر من قوات الأمن الداخلي على الحواجز الأمنية في مناطق التماس في دير الزور، بالتزامن مع إزالتها الألغام بإشراف أمريكي من الشريط الفاصل بين مناطق التماس مع قوات نظام الأسد في المنطقة الممتدة من بلدة الطابية جزيرة إلى جسر نادي النفط السياحي قرب دوار 7 كم شمالي دير الزور، وردمت الخندق الموازي لسكة القطار بريف دير الزور الشمالي^[6].

ولم يقتصر الأمر على التعزيزات العسكرية في المنطقة؛ إذ أشارت بعض المصادر إلى إجراء قيادات عسكرية وسياسية أمريكية زيارات متكررة للمنطقة، واجتمعت مع قيادات شعبية محلية ووجهاء من عشائر عربية وقيادات عسكرية عربية ضمن “قسد” كـ”قوات الصناديد” و”لواء ثوار الرقة” و”مجلس منبج العسكري” وقيادات في “مجلس دير الزور العسكري”^[7].

مؤشرات متزايدة على تصاعد الاهتمام الأمريكي في الملف السوري:

عموماً تبدو التحركات الأمريكية الأخيرة مؤشراً مهماً إضافياً إلى تزايد الاهتمام والنشاط الأمريكي في الملف السوري^[8]، ومرتبطة إلى حد ما بدوافع الولايات المتحدة في إيصال رسائل إلى الفواعل الأخرى، خاصة روسيا وإيران بدرجة أولى، وتركيا ونظام الأسد بدرجة ثانية؛ بما ينسجم مع تطورات الوضع على الأرض في شرقي الفرات والتغييرات المتعلقة بتطورات إقليمية وعالمية، لاسيما تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، وملف التطبيع الإقليمي مع نظام الأسد، وتوتر العلاقات الأمريكية مع إيران، واستكمالاً لسلسلة تحركات بدأتها في المنطقة تمثلت بنشر الولايات المتحدة منظومة صواريخ “هيمارس” المتطورة في مناطق انتشار قوات التحالف الدولي شمال شرقي سوريا^[9]، بعد نشرها مجموعة مقاتلات من طرازF22-Raptor  المتطورة في الشرق الأوسط إثر توتر الأوضاع مع روسيا^[10].

ويمكن القول: إن تلك المؤشرات ليست وليدة اللحظة، بل بدأت مع تصاعد وتيرة عمليات التحالف الدولي بقيادة أمريكية ضد تنظيم “داعش” منذ العام الماضي في شمال شرق سوريا بشكل غير مسبوق منذ انتهاء آخر معركة ضد التنظيم في بلدة الباغوز بدير الزور عام 2019^[11]، مع توسيع الولايات المتحدة نشاطها في مناطق شرق سوريا وإعلانها استئناف الدوريات والنشاط المشترك مع “قسد” عقب تبدُّد ملامح الهجوم التركي البريّ ضد “قسد”، فضلاً عن محاولتها التمدد إلى مناطق تقع تحت النفوذ الروسي، بعد زيارات أجراها وفد من التحالف الدولي لمنطقتَي عين العرب ومنبج^[12].

ضمن هذا الإطار تأتي تحركات الولايات المتحدة الأخيرة تأكيداً لتزايد حضورها في الملف السوري، واستمراراً لسياستها الرافضة للتمدد الروسي الإيراني شرقي الفرات، ولتمسّكها بالحقول النفطية في المنطقة، ورفضها الانسحاب حتى من قاعدة حقل العمر النفطي الواقعة على خط تماس مع مليشيات الحرس الثوري الإيراني في منطقة الميادين شرقي دير الزور، رغم المضايقات وعمليات القصف التي تتعرض لها القاعدة بين الفنية والأخرى^[13]، بالتزامن مع استمرار موقفها  الغامض تجاه نظام الأسد؛ فقد نشطت الولايات المتحدة مؤخراً في مساعي الحدّ من أنشطة تجارة مخدرات نظام الأسد بعدما باتت تُشكّل مصدر تهديد عالمي، وضمّنت الحراك ضد مخدرات نظام الأسد في ميزانية الدفاع لعام 2023^[14]، وإقرار “لجنة العلاقات الخارجية” في مجلس النواب الأميركي بأغلبية ساحقة مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع نظام الأسد^[15]. في المقابل يُلاحظ موقف أمريكي غامض ومُوارب لإعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية قبل تحقيق الحل السياسي، مقابل عدم إبداء اهتمام بالغ في قضايا مثل تطبيق الحل السياسي في سوريا، بل حتى تهميش مسألة الحل السياسي وفق القرار 2254 المتضمّن عملية انتقالية^[16].

توترات روسية أمريكية؛ تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا تنعكس على الملف السوري: 

يبدو أنَّ تطورات الوضع في أوكرانيا بدأت تُلقي بظلالها أكثر على الملف السوري^[17]، وتؤثّر سلباً على التنسيق والتوافق الروسي الأمريكي في سوريا، بالتزامن مع ازدياد حجم الفجوة والانقسام الأمريكي الروسي، واتخاذ الولايات المتحدة موقفاً تصعيدياً تجاه السياسة الروسية مع زيادة حجم ونوعية مساعدتها العسكرية لأوكرانيا، التي صبّت بشكل مباشر في صالح أوكرانيا وزادت من الضغوطات على روسيا، وكان آخرها الحديث عن عزم الولايات المتحدة تزويد الجيش الأوكراني بقنابل عنقودية^[18]؛ ليأخذ مسار العلاقة منحى أقرب إلى التشدد والتعنّت، وهو ما يمكن تلمُّسه في ارتفاع نسبة الاستفزازات والمناكفات المتواصلة بين الطرفين في سوريا^[19].

ففي وقت سابق أعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي في سوريا عن توفر أدلة لدى روسيا تفيد بأن الولايات المتحدة تعزّز قواتها شمال شرق سوريا وفي قاعدة التنف^[20]، بالتزامن مع إرسال قوات نظام الأسد و”الفيلق الخامس” المدعوم روسياً تعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس مع “قسد”^[21]؛ حيث أجرت قوات نظام الأسد تدريبات عسكرية في محيط قرية خربة عمو في ريف القامشلي^[22]، في ظل تصاعد حدة التوتر والمناكفات والاستفزازات بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا. وفي وقت سابق أعلن جنرال أمريكي عن تحرُّش طائرات روسية بطائرات مسيرة أمريكية في سماء مدينة الباب بريف حلب، عبر إطلاقها قنابل ضوئية أمام المسيرات الأمريكية، واصفاً ذلك بـ”السلوك غير الآمن وغير المهني”^[23]. كما أشار مسؤولون أمريكيون إلى وجود زيادة ملحوظة في انتهاك روسيا لآلية عدم التضارب في سوريا وصلت إلى 60 مرة منذ آذار العام الجاري حتى نيسان من العام نفسه^[24]، واعتبروا أن روسيا تتقصّد تنفيذ “مناورات عدوانية” في مناطق العمليات الأمريكية، وهو ما ردّت عليه روسيا باتهامها قوات التحالف الدولي في سوريا بانتهاك بروتوكولات عدم التضارب^[25]، كما اعتبر سفيرها في الولايات المتحدة أن الاتهامات الأميركية للقوات الروسية “تتجاوز حدود اللياقة”، معتبراً انتشار القوات الأميركية في سوريا “يخالف القانون الدولي”^[26].

الحشود والتحرشات الإيرانية؛ التهديد الأكبر للنفوذ الأمريكي:

تتزامن التحركات الأمريكية مع ازدياد نشاط الميليشيات الإيرانية مؤخراً ضد القوات الأمريكية باستخدام الطائرات المسيرة والقصف الصاروخي، وكان أبرزها استهداف إحدى قواعد التحالف الدولي، مما أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي وإصابة 5 جنود آخرين^[27].

وفي سياق تصاعد وتيرة الحشود الإيرانية العسكرية في مناطق شرقي سوريا ذكرت مصادر إعلامية عديدة نقل الميليشيات الإيرانية صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى وعشرات الآليات العسكرية ومئات من عناصرها إلى المناطق الواقعة على خط التماس مع “قسد” وقوات التحالف الدولي شرقي سوريا^[28]، إلى جانب الحديث مؤخراً عن تخطيط إيران لتصعيد هجماتها ضد القوات الأميركية في سوريا، كجزء من استراتيجية مدعومة من روسيا لمواجهة الولايات المتحدة وفقاً لما نقلته صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤولين استخباراتيين أميركيين ووثائق سرية مسربة، مؤكدين أن إيران تسعى لتجنيد وكلاء لها لشنّ هجمات بواسطة عبوات ناسفة ضد القوات الأمريكية^[29]؛ يتوافق هذا ما ذكرته مصادر محلية من أن إيران تعمل على تجنيد مخبرين لها ضمن مناطق سيطرة “قسد” وتحويلهم فيما بعد إلى خلايا تابعة للميليشيات الإيرانية تقوم بتنفيذ عمليات عسكرية وبتزويد الميليشيات الإيرانية بمواقع وتحركات القوات الأمريكية وقيادات “قسد”^[30].

وبالنظر إلى خريطة توزع النفوذ شرقي سوريا يُلاحظ أن إيران أيضاً ترغب فعلياً في توسيع دائرة سيطرتها على ضفتَي نهر الفرات بما يؤمّن طريقها البري الوحيد إلى المتوسط عبر منطقة البوكمال الحدودية، فضلاً عن رغبتها في الضغط على الولايات المتحدة لإجبارها على الانسحاب، خاصة مع توسع هامش مناورتها في سوريا إثر انشغال روسيا المتزايد في أوكرانيا، في الوقت الذي تغضّ الطرف عن تحركات إيران النشطة في الجغرافية السورية.

وتنسجم التحركات الإيرانية والاستهداف الإيراني المتواصل للقوات الأمريكية مع الهدف الاستراتيجي الإيراني على الصعيد الإقليمي في سوريا والمنطقة، المتمثل برفض الوجود الأمريكي في سوريا والضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من المنطقة؛ بما يسمح لإيران بالتغلغل لملء الفراغ الأمريكي على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، لاسيما وأنها تمتلك شبكة ميليشياوية ضخمة تضمن لها نفوذاً إقليمياً واسعاً، إضافة إلى رغبة إيران في إظهار عضلاتها وقوتها في مقارعة القوة الأمريكية باعتبارها الأقوى بهدف ردع وإرهاب القوى الإقليمية المجاورة ودفعها إلى التسليم بالهيمنة الإيرانية.

خاتمة:

تندرج التحركات الأمريكية تجاه الملف السوري عموماً، ومناطق نفوذها شمال شرق سوريا خصوصاً ضمن زيادة الفاعلية الأمريكية في الملف السوري^[31]، والحرص على تثبيت وجودها وحضورها في المعادلة السورية، على خلاف التكهنات حول قرب انسحاب قواتها من سوريا على غرار الانسحاب الكبير من أفغانستان^[32]، وسط زيادة الشرخ مع مصالح الفواعل الأخرى التي تسعى إلى مضايقة القوات الأمريكية ودفعها إلى الانسحاب من الأراضي السورية، خصوصاً إيران التي تُعد رأس الحربة ضمن القوى الرافضة للوجود الأمريكي في المنطقة.

ولذا فإن زيادة النشاط العسكري الأمريكي في سوريا مؤخراً يُعد -كما يبدو- ردة فعل على تحرشات إيران ومحاولاتها المتكررة التشويش على الوجود الأمريكي في سوريا، ومدّ نفوذها إلى مناطق تقبع تحت سيطرة التحالف الدولي، في ظل تقلُّص حجم التأثير الروسي على الميدان السوري عقب تطورات الوضع الأوكراني والتمرد الأخير لقوات “فاغنر” الروسية، والذي استفادت منه إيران في تعزيز وجودها العسكري في سوريا^[33].

ورغم كل ما سبق فلا تبدو الولايات المتحدة في وارد القيام بعمل عسكري يقلص حجم ونفوذ إيران شرقي سوريا؛ نظراً لعدة أسباب؛ لعل أهمها: مقاربة إدارة بايدن الديمقراطية العامة تجاه إيران عبر اعتمادها الدبلوماسية والحوار والتفاوض المباشر معها بدلاً من التلويح بالخيار العسكري، وهو ما كان واضحاً في مسار تفاعل العلاقة بين الطرفين في عدة ملفات عالقة بينهما، خاصة برنامج إيران النووي؛ إذ كانت الإدارات الديمقراطية في العموم أكثر ميلاً إلى التعامل التفاوضي والحلول الوسط مع إيران.

ومن جهة أخرى قد لا ترغب الإدارة الأمريكية في تسخين الوضع مع إيران إلى حد نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، ستكون لإيران فيها أفضلية من ناحية لجوئها إلى أساليب ردعية غير مباشرة باستخدام وكلائها من المليشيات في المنطقة، وعدم إبدائها حساسية تجاه الخسائر البشرية الفادحة المحتملة في حال نشوب مثل هكذا صراع، على العكس من الولايات المتحدة التي تُبدي حساسية أكبر تجاه أي خسائر بشرية نظراً لحساسية هذا الملف الشديدة في الداخل الأمريكي، لاسيما مع اقتراب الإدارة الديمقراطية من الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٤، والتي تحدُّ من مقدرة الولايات المتحدة على اتخاد قرار استراتيجي كهذا، فضلاً عن حساسية منطقة الشرق الأوسط وتشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية فيها، وتصاعد حدّة نزاعات دولية وإقليمية حساسة بالنسبة للولايات المتحدة كما في أوكرانيا، وإمكانية تهديد سوق النفط العالمي، فضلاً عن الحضور القوي للتجارب الأفغانية والعراقية المريرة في الذهن الأمريكي.

بناءً على ذلك: يُعتقد أن بعض الأوراق أو التقارير التي تحدثت عن تلويح الولايات المتحدة الأمريكية بإمكانية شنّ عملية عسكرية هجومية تصل بها مناطق نفوذها شرقي الفرات بمنطقة التنف لا تبدو متماسكة بما يكفي، فضلاً عن عدم وجود ما يدعمها من تقارير ومعلومات^[34].

ويبدو أن الاستراتيجية الأمريكية تبقى مبنية على التمسك بمناطق نفوذها، مع استبعاد سيناريو القيام بعمل عسكري شامل أو حتى محدود ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا على المدى القريب، مع البقاء على الردود المحدودة المعتادة على المليشيات الإيرانية.

---