مستقبل المحادثات النووية في ضوء المتغيرات الجديدة… سيناريوهات متوقعة وتأثيرات محتملة على الملف السوري
ورقة تحليلية صادرة عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
أعطى الاتفاق النووي لعام 2015 فرصاً لإيران لتوسيع نفوذها ولتمددها إقليمياً، لاسيما وأنَّ الاتفاق حينها غضّ الطرف عن دور إيران الإقليمي والدولي؛ ما عنَى تحرُّر المشروع السياسي الإيراني من الكثير من العقبات أمام نشاطاته الإقليمية التوسعية، وأطلق يد إيران للتمدد إقليمياً عبر ميليشياتها المختلفة؛ إذ استغلت إيران رفع العقوبات الاقتصادية عنها ورفع الحظر عن بعض أصولها المالية المجمدة في البنوك الأجنبية في زيادة دعمها لوكلائها وتكريس نفوذها وهيمنتها في المنطقة، وهو ما انعكس سلباً على المنطقة، خصوصاً في سوريا[1].
بناءً على إمكانية تكرار الحالة مع أي اتفاق جديد تسعى هذه الورقة إلى الوقوف على السيناريوهات المحتملة بشأن مستقبل محادثات فيينا النووية، وتأثير ذلك في مجريات الأوضاع في سوريا؛ نظراً لما قد يجرُّه الاتفاق النووي ـــــ في حال حدوثه ـــــ من تداعيات سلبية على الملف السوري كالتي جرّها اتفاق عام 2015م، وهو الذي وُصف بأنه ثاني أسوأ اتفاق أجرته الإدارة الأمريكية من حيث انعكاساتُه على الملف السوري بعد الاتفاق على تسليم أسلحة نظام الأسد الكيماوية[2].
تطرح الورقة الأسئلة الآتية:
- ما هو مستقبل المحادثات النووية في ضوء المقترح الأوروبي؟
- ما هي العوامل التي تؤثر في مواقف أطراف المحادثات؟
- ما هي أبرز العوائق الداخلية والخارجية التي تؤثر سلباً في مسار المحادثات؟
- هل ثمّة تأثيرات متوقعة فعلية في الملف السوري وتوازن القوى المنخرطة فيه؟
تعتمد الورقة المنهج الوصفي التحليلي من خلال استعراض الأحداث والتطورات المرتبطة بمسار محادثات فيينا، بهدف تحليل الأحداث والتطورات المرتبطة بمسار محادثات فيينا، وربطها بالتغيرات والمواقف الدولية، في محاولةٍ للوصول إلى صورة شاملة متكاملة للسياق والأسباب والنتائج، وذلك بالاعتماد أيضاً على المنهجي الاستنباطي والتحليلي الموضوعي الذي يركز على النقاط الخلافية والمتوافق عليها بين أطراف المحادثات، بحسب الواقعة المراد تحليلها.
تفاؤل حذر بالعودة إلى الاتفاق بعد تعثُّرات:
تبدو أجواء المحادثات السياسية النووية في فيينا متفائلة مع تعاظم الرهان الدولي على إحداث خرق مهم وإنهاء مسلسل المفاوضات، بعد تعاضُد المؤشرات الإيجابية التي تشي بقرب التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين القوى الدولية المشاركة في المفاوضات وإيران، يمكن من خلاله إعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015م وعودة إيران والولايات المتحدة إلى الالتزام ببنود الاتفاق، بعد وصول المحادثات إلى طريق مسدود عند بلوغ المفاوضات “النواة الصلبة” للخلافات؛ حيث طُرحت أهم القضايا الخلافية، وعلى رأسها إخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية، وقضية الضمانات السياسية التي تطالب بها إيران[3].
تأتي هذه التطورات في ظل تقلبات جوهرية دقيقة ومعقدة تشهدها الساحة السورية؛ مما يجعل الملف السوري ضمن دائرة التأثير المحتمل لنتائج المفاوضات النووية في فيينا، لاسيما وأنَّ القوى الدولية المنخرطة في الشأن السوري لا تنظر إلى الصراع في سوريا بوصفه ملفاً مستقلاً بحدِّ ذاته؛ بل بكونه جزئية من جزئيات تشكّل صورة أوسع عن طبيعة علاقاتها وصراعها ضمن المعادلة السورية[4].
“الاتفاق النهائي” .. تفاؤل حذر ونقاط خلافية:
تحدثت أوساط إعلامية عن مسودة أوروبية مقترحة لاتفاق وُصف بـ “النهائي” لإنعاش المفاوضات النووية وإحياء الاتفاق النووي لعام 2015م؛ يتضمن الاتفاق رفع العقوبات الاقتصادية تدريجياً عن إيران خلال أربع مراحل وفترتين زمنيتين تستغرق كل منهما 60 يوماً، ورفع العقوبات عن 17 بنكاً إيرانياً و150 مؤسسة اقتصادية إيرانية، بالتزامن مع الإفراج عن 7 مليارات دولار من أموال إيران المجمدة في كوريا الجنوبية، والسماح لها بتصدير 2.5 مليون برميل نفط يومياً بعد 120 يوماً، مقابل تراجعها عن خطوات تخصيب اليورانيوم[5]، كما يتضمن المقترح دفع الولايات المتحدة غرامة مالية في حال انسحبت مجدداً من الاتفاق النووي، إضافة إلى إمكانية تفعيل آلية “سناب باك” التي تسمح بإعادة فرض العقوبات في حال إخلال إيران ببنود الاتفاق[6].
سلكت جولة المحادثات النووية مساراً متعرجاً يشوبه بعض التفاؤل الحذر من مختلف الأطراف، في ظل شدٍّ وجذبٍ مستمرٍ بين الولايات المتحدة وإيران مع وصول المحادثات إلى مربعها الأخير قبل مرحلة صياغة الاتفاق النهائي؛ فبعد إعلان الولايات المتحدة موافقتها المبدئية على المقترح الأوروبي قدّمت إيران بعض التعديلات على المقترح وقدّمت ردّها للولايات المتحدة[7]، التي أعلنت بدورها أنها تدرس الرد الإيراني واصفةً إياه بـ “غير البنَّاء”[8].
ورغم التقدم اللافت الذي حصل فعلاً في خط المفاوضات بعد تنازل كلا الطرفين عن بعض المطالب المتعلقة بمسألة العقوبات الاقتصادية والأموال الإيرانية المجمدة، والتراجع الإيراني عن خطوات التخصيب فإن الواقع يشير إلى أنَّ ثمّة عقباتٍ فعليةً تقف عائقاً أمام بلوغ الاتفاق، تدفع نحو تأزُّم الوضع السياسي بين الولايات المتحدة وإيران مجدّداً، مع تمسك إيران بشروطٍ تعدّها الولايات المتحدة غير قابلة للتطبيق؛ إذ تطالب إيران بضمانات سياسية أمريكية ثابتة تتعهد بموجبها الولايات المتحدة بعدم انسحاب أي إدارة أمريكية مستقبلاً من الاتفاق مرّة أخرى[9]، وتطالب بإقرار آليات واضحة لمعالجة موضوع الخروقات النووية، وتسعى لإغلاق ملف تحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة[10].
عوامل محركة للمواقف التفاوضية:
يمكن القول بداية: إنَّ التلويح بالخيار العسكري للتعامل مع إيران وملفها النووي لم يعد مطروحاً فيما يبدو على طاولة صانع القرار الأمريكي مع قدوم إدارة بايدن[11]، لاسيما مع حساسية منطقة الشرق الأوسط وتشابك مصالح القوى الإقليمية والدولية فيها، وإمكانية تهديد سوق النفط العالمي، فضلاً عن الحضور القوي للتجارب الأفغانية والعراقية المريرة في الذهن الأمريكي، في ظل لجوء إيران لأساليب ردعية غير مباشرة باستخدام وكلائها من المليشيات في المنطقة. كما يحفل تاريخ العلاقات الإيرانية ـــ الأمريكية بالتسويات والمفاوضات والعلاقات البراغماتية، والتي أتاحت تجاوز مواقف توتر عالٍ بينهما على امتداد عقود من الزمن[12].
إلى جانب ذلك يبدو أنَّ إيران تراهن على تلهُّف إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي معها مجدداً في خضم انشغال الولايات المتحدة في صراعها الاستراتيجي مع الصين وفي حلحلة مشاكلها الداخلية، وتستثمر إيران أيضاً في الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها السلبية على سوق الطاقة العالمية بما فرضته من ضغوطاتٍ مباشرة على الولايات المتحدة والغرب؛ وذلك في سبيل تحقيق تنازلات أمريكية فيما يتعلق ببعض القضايا التي ما زالت عالقة بينهما، وأهمها: قضية اختبار جدّية إزالة العقوبات عنها، وملف تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما تسعى لانتزاع تنازل مزدوج من الإدارة الأمريكية ومن القوى الأوروبية يضمن لها هامشاً أوسع من المكاسب والامتيازات، في ظل تصاعد أزمة الطاقة التي تهدد أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء بعد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية شاملة على قطاع الطاقة الروسية ووضع قيود على شراء النفط والغاز الروسيين، الأمر الذي ينذر بارتفاع شديد في أسعار الطاقة[13]؛ وبالتالي فإنَّ التوصل لاتفاق مع إيران من شأنه أن يخفض أسعار البترول ويدخل النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية، مما قد يخفف من ضغط الطاقة على الأوروبيين.
كما يبدو أنَّ ثمّة حاجة فعلية لدى إدارة بايدن الديمقراطية لاحتواء أزمة التضخم التي تضرب الولايات المتحدة مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية الأمريكية للكونجرس، والتي تترافق مع حالة تململ شعبي أمريكي واسع تجاه الإدارة الأمريكية مع ازدياد حدة موجة التضخم وارتفاع أسعار السلع والوقود وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا؛ مما يعني أن الإدارة الأمريكية قد تسعى إلى تحصيل إنجاز سياسي في السياسة الخارجية قبيل الانتخابات، لتعزيز موقف الديمقراطيين في الانتخابات النيابية المقبلة، وهو ما يبدو أنَّ إيران تدركه؛ فتستثمر ذلك جيداً عبر التمسك بدبلوماسية متأنية طويلة النفس لتحقيق مكاسب جديدة قبل التوقيع على أي اتفاق.
في المقابل ترفض إدارة بايدن ــــ إلى الآن ــــ إبداء ليونة في موقفها تجاه ما تبقى من قضايا عالقة بين الطرفين[14]؛ وأهمها: ملف التحقيق الذي تجريه وكالة الطاقة الذرية، وإزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب، والضمانات السياسية التي تطالب بها إيران.
ويبدو أنَّ إدارة بايدن تواجه صعوبات وضغوطات حقيقية تمنعها من تقديم تنازلات جديدة في حال أرادت ذلك؛ بسبب المعارضة التي يبديها الكونغرس الذي ينشط فيه الجمهوريون، فضلاً عما قد تثيره من امتعاض بعض التيارات الديمقراطية في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين. فعلى الرغم من المكاسب العديدة التي قد تجنيها إدارة بايدن من توقيع الاتفاق النووي مع إيران على صعيد الانتخابات النيابية المقبلة؛ فإنَّ ذلك قد ينقلب عليها في حال أقدمت على تنازلات أخرى، فيثير غضب بعض التيارات الديمقراطية المعارضة، مما يعني إمكانية خسارة الأغلبية في الكونغرس وسيطرة الجمهوريين مجدداً، وهو ما يجعل أي اتفاق مع إيران هشّاً وعرضة للانهيار؛ ولعل هذا يفسّر الإصرار الإيراني على مسألة الضمانات.
من جهة أخرى عزّزت إيران من أوراق قوتها للضغط على الولايات المتحدة والقوى الغربية عبر زيادة التخصيب عالي النسبة وتقدُّم قدراتها النووية وتفعيل عدد أكبر من أجهزة الطرد المتطورة “IR6” في منشآتها النووية، فضلاً عن إرباك عملية رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على برنامجها النووي منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018م، وهو ما جعل إيران على أعتاب صناعة قنبلة نووية بحسب مراكز مراقبة دولية[15].
في المقابل تؤثر العقوبات الاقتصادية الغربية/الأمريكية المتراكمة المفروضة على إيران بعمق في قرار الحكومة الإيرانية فيما يخصّ الاتفاق النووي والحوار مع الولايات المتحدة وتقديم بعض التنازلات؛ لـِمَا سببته من اهتزازات عديدة حقيقية أصابت الاقتصاد الإيراني، إذ تسببت العقوبات في ارتفاع كبير في نسب التضخم الاقتصادي، وأدت إلى ازديادٍ مطردٍ في الأسعار وتدهورٍ في سعر الريال الإيراني، إضافة إلى ازدياد نسب البطالة في شرائح المجتمع كافة؛ وهو ما كان له تداعيات سلبية على الداخل الإيراني[16].
معوقات تمنع اكتمال الاتفاق النووي:
رغم بلوغ المفاوضات مرحلة متقدمة إلا أنَّ ثمة معطيات من شأنها أن تجعل تمرير “الاتفاق النووي” أمراً صعباً وأكثر تعقيداً؛ إذ يُعد ملف التحقيقات الذي تجريه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد العثور على آثار ليورانيوم مخصب في ثلاثة مواقع إيرانية غير معلنة[17] أحد أبرز الملفات التي تعقّد عملية المفاوضات وتمنع التوصل لاتفاق، فالولايات المتحدة ترفض مطلب إيران إسقاط تحقيق الوكالة، وتدعم استمرار ممارسة الوكالة مهامها في مراقبة النشاطات النووية الإيرانية، وتشترط إثبات إيران التزامها بتعهداتها النووية لإسقاط التحقيق[18]. فيبدو أنَّ ثمّة عدم ثقة أمريكية /غربية بإيران، لاسيما وأنَّها أصبحت على مقربة من مستوى تصنيع أسلحة نووية كما سبق[19]. وفي المقابل تصرّ إيران على إنهاء التحقيقات قبل التوقيع على أي اتفاق، وترى أنَّ الولايات المتحدة والقوى الغربية تتعنّت في هذا الملف تحديداً بهدف ممارسة الضغط عليها بعد توقيع الاتفاق، وتعتقد فيما يبدو أنَّ بقاء هذا الملف مفتوحاً يعطي الولايات المتحدة الحجة القانونية مستقبلاً للتنصل من التزاماتها[20].
وتمثّل العقوبات الاقتصادية المفروضة حالياً على إيران جزءاً من الخلاف بين الطرفين؛ إذ إنَّ رفع كامل العقوبات المفروضة على إيران-وهو مطلب إيراني أساسي- ليس بالأمر السهل الذي تستطيع إدارة بايدن القيام به إن أرادت ذلك، بسبب ارتباط جزء من العقوبات بملفات أخرى، كالبرنامج الصاروخي الإيراني وملف حقوق الإنسان و”الإرهاب” وملف النفوذ الإقليمي الإيراني، وهو الأمر الذي يلاقي معارضةً من الكونغرس الذي ينشط فيه الجمهوريون، ومعارضةً أيضاً من قبل بعض التيارات الديمقراطية في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، كما أنَّ شبكة العقوبات الموسعة التي فرضتها إدارة ترامب على إيران تمثّل مكسباً حقيقياً، ورأس مال دبلوماسي سياسي لا يمكن لإدارة بايدن التفريط فيه بسهولة؛ لما تشكّله من ورقة تفاوضية إضافية بيد الولايات المتحدة[21].
ورغم التأييد الروسي الظاهري المعلن لاستعادة الاتفاق النووي مع إيران وتأكيد روسيا مراراً أنها لا تعارض إحياء الاتفاق فحسب بل ترحّب به[22]؛ إلا أن الاتفاق يحمل في جنباته حسابات مختلطة متناقضة بالنسبة إلى روسيا، لأن ثمّة خشية روسية فعلية من تبعات الاتفاق النووي السلبية المحتملة على روسيا، وذلك من نواحٍ عدة؛ حيث يعمل الاتفاق ــــ في حال حدوثه ــــ على خفض أسعار الطاقة (النفط والغاز)، وتعزيز قدرة إيران التنافسية على صعيد الطاقة[23]، وهو ما قد يضرّ بسوق النفط والغاز الروسيين من حيث تأثيراتها السلبية على العائدات الروسية، ويزيد من حجم أعبائها المالية في ظل تصاعد وتيرة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا إثر اجتياحها أوكرانيا، كما أن الاتفاق سيضعف في الغالب من قدرة روسيا على المناورة الاستراتيجية مع الغرب فيما يتعلق بورقة ملف الطاقة الذي تستخدمه روسيا ورقة سياسية واقتصادية للضغط على الغرب[24]؛ إذ من المحتمل أن يصبح الغاز والنفط الإيرانيان في المدى المتوسط والبعيد بديلاً للأوروبيين عن الغاز الروسي.
لذا فإنّ من المرجح أن تلعب روسيا دوراً سلبياً خلال الجولة الأخيرة من المفاوضات، من نحو إقدامها على عرقلة الاتفاق أو تعقيده، لاسيما وأنَّها قد ترغب في إلحاق الضرر بالولايات المتحدة التي يشكّل إحياء الاتفاق النووي أولوية لها على صعيد السياسة الخارجية والداخلية والاقتصادية.
ويبدو أنَّ العامل “الإسرائيلي” يأخذ حيزاً في سياق التأثير على مسار العملية التفاوضية النووية وعرقلة الاتفاق؛ إذ تقوم “إسرائيل” ولوبياتها بجهود موازية في العاصمة الأمريكية لحثِّ إدارة بايدن على عدم رفع العقوبات عن إيران[25] وتوقيع اتفاق يشمل برنامج إيران الصاروخي وأنشطتها الإقليمية، ولطالما طالبت القوى الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة -دول الخليج العربي (السعودية والإمارات) و”إسرائيل”- بمنح هذه الملفات المستوى نفسه من الأهمية التي يحظى بها الاتفاق النووي.
إلى جانب ذلك رفعت “إسرائيل” نبرة التهديد والوعيد، وأبدت معارضة واضحة للتقدم الحاصل في المفاوضات[26]، مع احتمالية قيامها بخطوات عملية لعرقلة الاتفاق؛ فقد صعّدت في الآونة الأخيرة من مستوى ضرباتها ضد إيران، لتشمل اغتيالات طالت قيادات في الحرس الثوري من الصف الأول وخبراء يعملون في وزارة الدفاع الإيرانية[27]، مع التهديد بنقل ساحة الصراع إلى قلب إيران واستهداف المنشآت النووية الإيرانية، وقيام “الجيش الإسرائيلي” بنشر منظومة رادارية في الإمارات والبحرين مؤخراً ضمن رؤية للتعاون المشترك في مواجهة تهديدات إيران الصاروخية وخلق منظومة للإنذار المبكر، وتوسيع مجال ضرباتها العسكرية في سوريا ضد أهداف إيرانية[28]؛ وهو ما ردّت عليه إيران بتبنّيها ما ادّعت أنه قصف “مركز استراتيجي إسرائيلي” في مدينة أربيل العراقية باستخدام صواريخ باليستية انطلقت من الأراضي الإيرانية مباشرة[29].
سيناريوهات واحتمالات التوصل لاتفاق نووي مع إيران:
يصل الطرفان الأمريكي والإيراني إلى عتبة الاتفاق بعد مسار طويل من المفاوضات والشد والجذب؛ لكن يبدو أن لكلا الطرفين حسابات خاصة وموانع وضغوطات تجعل من التوصل لاتفاق شامل ونهائي أمراً صعباً، رغم جملة التنازلات التي قدمها الجانبان، مما يجعلنا أمام عدة سيناريوهات تبقى عُرضة لتأثيرات ومتغيرات من شأنها إخراج العملية التفاوضية من سياقاتها أو إعادة المحادثات إلى نقطة الصفر، كحصول الجمهوريين على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات النيابية المقبلة، أو عودة إدارة جمهورية إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية لعام 2024م، أو تصعيد عسكري “إسرائيلي” مباشر ضد بعض المنشآت النووية الإيرانية، على الرغم من أنه خيار مستبعد في ضوء الظروف الحالية نتيجة الرفض الأمريكي.
ونظراً لتحييد الخيار العسكري في الرد على المشروع النووي الإيراني عن قائمة الخيارات المحتملة للإدارة الأمريكية في الوقت الحالي يبقى طريق الدبلوماسية والحوار (رغم كل المنغصات) هو المسار المعتمد لدى صانع القرار الأمريكي؛ ولذا فإن من الصعب جداً التنبؤ بتاريخ محدد للتوصل إلى اتفاق أو البتّ بانهيار كامل للمحادثات.
يمكن رصد عدد من الاحتمالات التي قد تتمخض عن المحادثات، وهي على النحو الآتي:
- العودة لاتفاق 2015 النووي: قد يتوصل مختلف الأطراف إلى تفاهم معين للعودة إلى اتفاق 2015م؛ الذييقضي برفع العقوبات الاقتصادية والمصرفية الدولية عن إيران، مقابل تقليص قدرات برنامجها النووي وتعزيز الإجراءات والضمانات الرقابية الصارمة على الأنشطة والمنشآت النووية الإيرانية، ويضع قيوداً على مستوى تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم، ويحدّد عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران.
يبقى هذا الخيار مستبعداً؛ لاسيما مع وجود العديد من العقبات السياسية والفنية، خاصة تلك المتعلقة بقضية الضمانات التي تصرّ إيران على تضمينها داخل اتفاق 2015 وتأطيره بضمانات سياسية تمنع الولايات المتحدة من الانسحاب مرة أخرى في حال تم الاتفاق، والمرتبطة كذلك بقضية تحقيقات الوكالة الدولية التي تصرّ على حل تقني للأنشطة النووية الإيرانية قبل التوقيع على أي اتفاق، فضلاً عما حققه المشروع الايراني النووي من تقدم كبير بعد أن تراجعت إيران عن التزاماتها التي تعهدت بها بموجب الاتفاق النووي في عام 2015م بعد انسحاب ترامب منه، ومعاودة استئناف أنشطتها النووية لتصبح على أعتاب الحصول على قنبلة نووية.
إضافة إلى ذلك، ولكي يُعاد العمل بالاتفاق النووي لابدَّ من حلحلة القضايا العالقة الكفيلة بإفشال المحادثات كلياً؛ إذ تقتضي العودة للاتفاق تقديم إيران إجابات كافية عن مخاوف الوكالة الدولية المتعلقة بالنشاطات النووية الإيرانية، أو أن تقبل إيران بالعودة إلى الاتفاق والتنازل عن مطلبها في إغلاق ملف تحقيقات الوكالة، أو إقدام الوكالة الدولية بإغلاق التحقيقات دون الحصول على تنازلات وإجابات إيرانية، أو تقديم الولايات المتحدة ضمانات سياسية على المستوى المطلوب إيرانياً، أو قبول إيران العودة للاتفاق دون الحصول على الضمانات المطلوبة؛ وكل ذلك يبدو أنه صعب التحقق في المدى القريب والمتوسط.
- انهيار المحادثات: رغم حرص مختلف الأطراف (الولايات المتحدة وإيران والقوى الغربية) على تجنُّب هذا السيناريو؛ إلا أنَّه يبقى خياراً محتملاً في ظل جملة المعوقات التي ذكرناها آنفاً، لاسيما وأنَّ تجربة انسحاب إدارة ترامب عام 2018م من الاتفاق تثبت أنه لا يمكن استبعاد هذا السيناريو نهائياً.
ويبدو أنَّ تداعيات فشل الاتفاق ـــــ في حال حدوثه ـــــ والمتمثلة بالانعكاسات السلبية على أسعار الطاقة، والآثار السلبية المحتملة التي قد تنعكس على اقتصاديات أطراف المفاوضات نتيجة التطورات والمتغيرات الدولية تحول دون الإعلان عن إخفاق المفاوضات، وتبقي أطراف التفاوض متمسكة بمسار المحادثات والدبلوماسية رغم العوائق الجوهرية التي تحيط بالمحادثات.
- التهدئة النووية: قد يكون التوصل إلى تفاهم معين مرحلي/مؤقت، وتأجيل الخلافات الجوهرية العالقة (الضمانات والخروقات النووية) أحد السبل لحلحلة وتفكيك عقدة الاتفاق، والالتفاف على التوقيع على اتفاق شامل ملزم لكلا الطرفين؛ وذلك بتراجع إيران عن بعض خطواتها النووية التصعيدية، والسماح للوكالة الدولية بمراقبة بعض أنشطتها النووية، مقابل حصولها على بعض الامتيازات الاقتصادية فيما يتعلق بالأموال المجمدة وبيع النفط الإيراني والتراخي في مسألة العقوبات الاقتصادية على إيران، مع بقاء المفاوضات على النقاط العالقة جارية.
يبدو أنَّ واقعية هذا السيناريو تتجلى في عدم رغبة أطراف التفاوض في الإعلان عن إخفاق المفاوضات، مع عدم قدرتها فعلياً على حسم الخلافات. كما أن الولايات المتحدة والغرب قد يرغبون في تحصيل مكاسب اقتصادية فيما يتعلق بخفض أسعار الطاقة ولو مرحلياً، فضلاً عن أنَّ إدارة بايدن المقبلة على انتخابات نيابية حساسة قد تلجأ لهذا السيناريو لتجنّب التصادم مع الجمهوريين والتيارات الديمقراطية المعادية لتوقيع اتفاق شامل مع إيران؛ وهو ما قد يلقى قبولاً إيرانياً مبدئياً، لاسيما وأنَّه لا يفرض عليها التزامات طويلة وحاسمة.
تأثيرات محتملة على الملف السوري:
يغيب ملف النشاطات الإقليمية الإيرانية عن طاولة المحادثات النووية؛ فبعد أن تبنّت إدارة بايدن استراتيجية مغايرة إلى حدٍّ ما عن إدارة أوباما في التفاوض مع إيران بشأن أنشطتها الإقليمية التوسعية، من خلال إعلانها السعي لتحصيل اتفاق جديد يكون “أطول أمداً وأقوى من ناحية المضمون”[30]؛ فيأخذ بعين النظر معالجة الثغرات التي تضمنها اتفاق عام 2015م، ويشمل قضايا أخرى كبرنامج إيران للصواريخ البالستية والتمدد الإيراني الإقليمي؛ فإنَّ الإدارة الأمريكية تخلّت فيما يبدو عن مطلب وضع حدٍّ للتحركات الإيرانية الإقليمية مقابل تركيزها على الحدّ من قدرة إيران النووية، وهو الهدف الأهم بالنسبة للإدارة الأمريكية في ضوء تطورات ومتغيرات دولية، لاسيما ما خلّفته الأزمة الأوكرانية من تداعيات على مختلف الأطراف.
وفي السياق ذاته يعدُّ العامل الإيراني الذي فرض حضوره الثابت ضمن المعادلة السورية هو الأبرز في حسابات مختلف القوى الإقليمية المنخرطة، التي تخشى من أن تراجع الحضور الروسي في سوريا، واحتمالية إحياء الولايات المتحدة الاتفاق النووي مع إيران قد يؤدي إلى تعزيز موقف إيران ووكلائها الإقليميين في المنطقة، خاصة مع ما أسلفنا من تغييب واضح لملف النشاطات الإيرانية في محيطها الإقليمي، ما قد يعني تحرّر المشروع السياسي الإيراني من الكثير من العقبات أمام نشاطاته الإقليمية التوسعية في حال تم الاتفاق، وإطلاق يد إيران مجدداً للتمدد إقليمياً عبر ميليشياتها المختلفة؛ حيث ستستغل إيران رفع العقوبات الاقتصادية عنها ورفع الحظر عن بعض أصولها المالية المجمدة في البنوك الأجنبية في زيادة دعمها لوكلائها وتكريس نفوذها وهيمنتها في المنطقة، وهو ما سينعكس سلباً على سوريا، والتي تسعى فيها إيران في الآونة الأخيرة فيما يبدو لملء الفراغ الروسي المحتمل على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، عبر مدِّ شبكة ميليشياتها في مواقع جديدة تم إخلاؤها من قبل القوات الروسية إثر انشغال روسيا المتزايد في أوكرانيا، إلى جانب تركيزها على تثبيت حضورها العسكري في مناطق الجنوب السوري وتعزيزه، في الوقت الذي تغضّ روسيا الطرف عن تحركات إيران النشطة في الجغرافية السورية[31].
في المقابل قد يؤدي فشل المفاوضات إلى زيادة الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية على إيران، ما يعني تأثيراً مباشراً على حضورها وتموضعها في سوريا؛ لاسيما في ظل الضغوط التي يواجهها النظام الإيراني مع توسع دائرة الاحتجاجات المناهضة للنظام في مختلف المحافظات الإيرانية بعد مقتل فتاة تعرضت للتعذيب في مركز أمني في طهران[32]، ومع إمكانية زيادة التنسيق الأمريكي “الإسرائيلي” لضرب المصالح الإيرانية في سوريا.
وإذا تعثرت المفاوضات مجدداً وطال أمدها وزادت تعقيداً فقد نشهد تمتيناً للعلاقات الروسية الإيرانية، وارتفاعاً في مستوى التنسيق والتعاون السياسي والعسكري والاقتصادي بين البلدين في سوريا والمنطقة. وفي ظل استبعاد إمكانية تخلّي روسيا عن نفوذها في سوريا فإنَّ تداعيات الحرب الأوكرانية وتأثيراتها تضعف القبضة الروسية في سوريا؛ مما يجبرها على إعادة ترتيب تموضع قواتها وإجراء بعض التسويات مع القوى المنخرطة، خاصة تركيا وإيران؛ وعليه فقد نشهد تبادلاً للأدوار بين روسيا وإيران في سوريا، مع فسح روسيا المجال أمام إيران وتجاوز تحفظاتها القديمة حيالها نكايةً بالولايات المتحدة و”إسرائيل”، وربما التضييق على الهجمات الجوية “الإسرائيلية” ضد المواقع الإيرانية في سوريا، وهو ما سوف تستثمره إيران أيضاً في زيادة تغلغلها العسكري والاقتصادي داخل مؤسسات نظام الأسد، وما سيؤدي في المقابل إلى انخراط “إسرائيلي” أكبر ضمن المعادلة السورية؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى جنوح “إسرائيل” عن موقفها الحذر تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، لاسيما في ظل تزايد الضغوط الأمريكية/ الغربية على “إسرائيل” لأخذ موقف واضح من الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد يؤثّر سلباً في التفاهمات والتنسيق الأمني “الإسرائيلي” الروسي بعد أن اتخذت “إسرائيل” موقفاً “محايداً نسبياً” نتيجة تخوفها من انهيار تلك التفاهمات المتعلقة بالضربات الجوية “الإسرائيلية” ضد التموضع الإيراني في سوريا، لرغبتها في الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع روسيا.
ومن جانب آخر فإن من المرجح أن ازدياد مستوى التناغم والانسجام الإيراني الروسي المحتمل -في حال تعثر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي- قد ينعكس على تحركات تركيا وأنشطتها السياسية والعسكرية في سوريا، وهو ما كان واضحاً في تأثير العامل الإيراني في قرار روسيا ومحادثاتها مع تركيا فيما يتعلق بعمليتها العسكرية شمالي سوريا؛ إذ بدا تزايد الاهتمام الروسي بدور إيران وفاعليتها ضمن حسابات روسيا الاستراتيجية والجيوسياسية في صراعها الأوسع مع الغرب، وتزايدت مظاهر التعاون السياسي والعسكري والاقتصادي بين البلدَين، فضلاً عن التقارُب المتصاعد في الرؤى وتبادل الأدوار ورفع مستوى التنسيق والتعاون في سوريا، وتخلّي روسيا تدريجياً عن مهمة ضبط النفوذ الإيراني، بعد أن كانت معنية ضمنياً أمام القوى الدولية والإقليمية التي تربطها بها تفاهمات أو اتفاقيات معينة بإضعاف تأثير إيران ووكلائها في سوريا؛ و أدى كل ذلك في نهاية المطاف إلى عرقلة العملية العسكرية التركية ضد قوات “قسد”[33]. ولكنْ قد يحصل تساهُل روسي مستقبلاً مع تركيا في عملية عسكرية في الشمال السوري أو سماح روسيا باستهداف تركيا لقيادات “قسد” في مناطق نفوذها غرب الفرات؛ مما يعني زيادة التنسيق الروسي التركي الإيراني في ضوء توتر العلاقات التركية الغربية واقتراب تركيا أكثر فأكثر من المحور الروسي.
خاتمة:
على وقع الانزياحات الاستراتيجية للقوى الدولية المتنافسة، وتصادمها في منطقة تضجُّ بحالة من فوضى الاصطفافات والتجاذبات وتصفية الحسابات والنزاعات الإقليمية والدولية المعقّدة؛ تتشكل فراغات استراتيجية تتسابق القوى الإقليمية للبحث عن دورٍ جديد لها تملأ فيه هذه الفراغات، وتوسّع دائرة نفوذها وتأثيرها الإقليمي والدولي للوصول إلى أهدافٍ مرحلية واستراتيجية، بعد أن بدأت بتطوير خطابها السياسي تجاه محيطها الإقليمي وترتيب أوراقها الداخلية والخارجية، وإعادة تشكيل شبكة علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية القديمة، بحيث تتناسب مع إفرازات المواجهة الجديدة وتطورات المرحلة في بيئة دولية متغيرة.
تسعى إيران لاستغلال أي حدث والاستفادة من أية متغيرات دولية وإقليمية لتثبيت نفوذها وتوسيع دائرة توغلها، وملء الفراغات المتشكلة نتيجة انسحابات أو تراجعات الفاعلين الدوليين أو الإقليميين لتحقيق مكاسب عديدة؛ لاسيما على صعيد تطلعاتها للحصول على دور القيادة الإقليمية، والذي توليه إيران أولوية على باقي الأهداف الاستراتيجية، ويخضع لمسارٍ ونهجٍ ثابتٍ غير قابل للتغيير، بغضّ النظر عن تقلبات السياسة الداخلية الإيرانية. وفي سبيل ذلك تستخدم إيران أوراقاً تعدّها قوّة داعمةً تمكّنها من تحقيق مكانة ريادية ونفوذ واسع في المنطقة واعتراف دولي بمكانتها وتأثيرها، ومن هذه الأوراق امتلاك سلاح نووي.
وعليه: فإنَّ التوصل لاتفاق نووي جديد لا يأخذ بعين الاعتبار تحركات إيران ومشروعها الإقليمي من شأنه أن يهدّد استقرار وأمن المنطقة عموماً، وأمن سوريا خصوصاً؛ وهو ما يحثّ بدوره قوى الثورة والمعارضة على القيام بخطوات لبلورة رؤية ومنهج سياسي واضح المعالم بعد ترتيب أوراقها التي تبعثرت، وتعزيز حضورها في المحافل السياسية والإقليمية والدولية، بعد تعزيز شرعيتها الداخلية لحُسن استغلال تقلبات البيئة السياسية واستثمارها بما يخدم الملف السوري، وقد يكون التواصل المستمر مع الهيئات والمؤسسات الإقليمية والدولية -خاصة القوى العربية التي تعاني من التمدد الإيراني بشكل مباشر- أحد أهم الأوراق التي ينبغي على قوى الثورة والمعارضة التركيز عليها.
لمشاركة الورقة:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة