العلاقة بين الموقف السياسي وحيثياته، دراسة حالة مواقف من قوى الثورة والمعارضة السورية
مقدمة:
على الرغم من أهمية التوافق الوطني بين القوى السياسية المختلفة خصوصاً في القضايا الجوهرية والاستراتيجية التي تمسّ أمن الدولة القومي؛ فإن ذلك يبقى هو الاستثناء، وتبقى القاعدة الأساسية في إطار المواقف السياسية التكتيكية الآنية هو: الاختلاف في المواقف[1]. إذا كانت هذه الخلاصة هي السائدة في حالة الدول المستقرة فلعل الأمر يبدو مختلفاً في الحالات الاستثنائية وحالات الثورة والتحرر الوطني، كما هو الحال في سوريا الآن؛ حيث يتطلب الأمر توافقاً بنسب كبيرة، ليس في القضايا الجوهرية كتلك المتعلقة بمستقبل سوريا وشكل الدولة وهويتها فحسب، وإنما في المواقف السياسية التكتيكية أيضاً.
بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 كانت القوى السياسية غالباً ما تطالب بتوحيد مواقفها (الموضوعية) وصولاً إلى توحيدها هيكلياً (كإيجاد “هيئة أو جسم” يمثل قوى الثورة والمعارضة). وهو الأمر الذي لم يتحقق بدرجة كبيرة خلال السنوات العشر الماضية، مما كرّس انطباعاً عاماً لدى المتابعين بأن أحد العوامل الحاسمة في عدم توحيد الجهود والمواقف والوصول تبعاً لذلك لهذا الجسم التمثيلي هو “الاختلاف في المواقف”. غير أن نظرة تحليلية أولية لمواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه الأحداث، والتي كانت محلّاً للتحليل والقياس في مؤشر التوافق الوطني من جهة[2]، ولمواثيقها ورؤاها كما تم عبر أكثر من دراسة من جهة ثانية[3]، تُظهر العكس؛ فثمّة نسبة كبيرة من التوافق الموضوعي على المستويين التكتيكي والاستراتيجي فيما يخص الأحداث الجارية من جهة ومستقبل البلاد من جهة أخرى، مما يمكن أن تشكّل أرضية صلبة صالحة للبناء عليها في تجاوز النقاط الخلافية والإشكالية.
مع ذلك فإن تسليط الضوء على الموقف العام لقوة أو جهة معنية تجاه حدث سياسي ما قد يكون غير كافٍ، لاسيما وأنه يصعب في كثير من الأحيان تصنيف المواقف السياسية بصورة حدّية “مع أو ضد”، بل غالباً ما تكون هنالك مواقف متعددة “محايد، مع ولكن، ضد ولكن، متحفّظ، مشكّك، …إلخ”، الأمر الذي يتطلب مزيداً من التحليل لهذه المواقف لاختبار مدى التوافق والاختلاف فيما بينها.
من هنا تأتي هذه الورقة لاختبار فرضيتَين: الأولى: “التوافق في الموقف السياسي تجاه حدث ما يعني توافقاً بالمجمل فيما يتعلق بهذا الموقف من حيثيات السياق والأهداف والرسائل الموجهة…إلخ”، الثانية: “التخالُف في الموقف السياسي تجاه حدث ما يعني تخالُفاً فيما يتعلق بهذا الموقف من حيثيات كتحديد أسبابه ومبرراته والرسائل الموجهة عبره …إلخ”[4].
فالورقة تهدف إلى: تقديم قراءة أكثر عمقاً للمواقف السياسية محل التحليل، بما يساعد على تحديد مدى التوافق والتخالف فيها بعيداً عن المواقف العامة لهذه القوى، والتي يتم رصدها عادة من خلال مؤشر التوافق الوطني.
تبرز أهمية هذه الورقة في أنها تسهم في التعرف على المواقف السياسية لقوى الثورة والمعارضة بدقة من جهة نقاط التوافق والاختلاف، ليس على مستوى الموقف العام، وإنما في التفاصيل، وتساعد كذلك على استشراف نقاط التوافق والاختلاف في المواقف السياسية المتشابهة، وبالتالي تحديد المجالات الإشكالية على مستوى الموقف التكتيكي بدقة، بما يمكن أن يمهد لحوارات بينية بين هذه القوى لتجاوزها، أو على الأقل إدارتها.
المنهجية وعينة الدراسة:
من أجل اختبار الفرضيتَين أعلاه كان لابد من اختيار موقف تجاه حدث سياسي معين؛ لذا تم الاعتماد على مؤشر التوافق الوطني الأخير الصادر عن مركز الحوار السوري – الإصدار الخامس [5]، حيث تم اختيار أكثر موقف حاز على نسبة توافق: “تأييد الحراك الشعبي في السويداء”[6]، وأكثر موقف حاز على نسبة تخالف: “تفعيل قانون قيصر”[7].
اعتمد البحث منهجية دراسة الحالة لما تعطيه هذه المنهجية من عمق في تحليل الظاهرة محل الدراسة، والوقوف على حيثياتها. وذلك عبر منهجَين رئيسَين هما:
- منهج تحليل الخطاب: وهي منهجية مناسبة للتعاطي مع البيانات التي أصدرتها قوى الثورة والمعارضة، والوقوف على تفاصيلها من حيث اللغة المستخدمة والسياق والجهة المصدرة للبيان.
- المنهج المقارن: الذي يهدف إلى المقارنة بين البيانات محل الدراسة، والوقوف على النقاط التوافقية وتلك الخلافية.
تنقسم الدراسة قسمَين رئيسَين: الأول: نبحث فيه أبعاد التوافق في مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه الحراك الشعبي في السويداء “اختبار الفرضية الأولى”، والثاني: نستعرض فيه أبعاد التخالُف في مواقف هذه القوى تجاه تفعيل قانون قيصر “اختبار الفرضية الثانية”.
أولاً: أبعاد التوافق في مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه الحراك الشعبي في السويداء: توافقٌ مبدئيٌّ ينعكس على التفاصيل
شهدت محافظة السويداء جنوب سوريا في حزيران من عام 2020 حراكاً شعبياً استمر عدة أيام؛ حيث خرجت سلسلة من المظاهرات نادت بسقوط النظام ورحيل بشار الأسد وخروج روسيا وقواتها من سوريا، محمّلةً نظام الأسد بشكل مباشر مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا[8].
عبر استعراض بيانات قوى الثورة والمعارضة تجاه الحراك في السويداء عام 2020 (الملحق رقم 1) وجدنا أن نسبة التوافق بين هذه القوى (تأييد صريح وضمني للحراك) بلغت 42%، مقابل نسبة صمت 58%[9]؛ وهو الموقف الأكثر توافقاً من بين المواقف المرصودة في مؤشر التوافق الوطني[10].
لتحليل مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه الحراك الشعبي في السويداء قسمنا الموضوع أربع فقرات رئيسة، وهي: نظرة قوى الثورة والعارضة لأسباب الحراك، والرسائل الموجهة عبر هذه المواقف، ثم الحلول التي اقترحتها هذه القوى، إلى جانب توصيف الحراك.
1-1- نظرة القوى لأسباب الحراك الشعبي في السويداء: “الأزمة الاقتصادية” محرّك أساسي
أشارت بيانات قوى الثورة والمعارضة في معظمها إلى الأسباب التي أدت إلى حراك السويداء؛ ومن خلال تحليل هذه البيانات يمكن الوقوف على /10/ أسباب، وقد كان تقاطعها كالتالي:
- جاءت الأسباب التي تشير إلى الانهيار الاقتصادي والوضع المعيشي السيئ كأكثر الأسباب التي أشارت إليها قوى الثورة والمعارضة في بياناتها محل الرصد (6 بيانات من أصل 11)؛ ولعل أحد الأسباب التي دفعت القوى للإشارة إلى هذا السبب هو التوافق مع الواقع، لاسيما أن أحد أبرز الدوافع التي أدت إلى حراك السويداء هو سوء الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة نظام الأسد[11].
- أشارت بعض البيانات (3 من أصل 11) إلى حالة الفساد الموجودة في نظام الأسد، ومساهمتها المباشرة في تحريك الشارع في السويداء، وهذا الأمر مرتبط بشكل مباشر بالسبب الأول؛ لأن الفساد هو أحد الأسباب التي فاقمت الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد[12].
- ركزت بعض القوى في بياناتها (3 من أصل 11) على “غياب الحل السياسي للقضية السورية” كسبب للحراك في السويداء، وهو على ما يبدو محاولة من هذه القوى لتوظيف هذا الحدث من أجل تذكير الفواعل المؤثرة في المشهد السوري بأن جمود الحل السياسي سيبقي الأمور على ما هي عليه من جهة عدم الاستقرار، والأسباب التي أدت للثورة في 2011.
إلى جانب هذه الأسباب التي ركزت عليها بعض بيانات القوى المرصودة نلحظ أن ثمّة إشارات من بعضها لأسباب متعددة، كأفكار: التسلط العسكري، والضغط الأمني، والميليشيات الإيرانية، والوجود العسكري الروسي.
والجامع الأهم بين كل تلك الأسباب هو تحميل نظام الأسد مسؤولية هذا الحراك، بغضّ النظر عن الاختلاف في التركيز على أسباب دون غيرها، طالما أنه لا تبنّي من قبل أي منها لرواية نظام الأسد التي تركز على قضايا متعددة تبرّئ ساحته وتحمّل المسؤولية لأطراف خارجية، تطبيقاً لنظرية “المؤامرة الكونية”[13].
بالمجمل: نلحظ أنه على الرغم من تعدد الأسباب التي ذكرتها القوى في بياناتها فإن ثمّة محوراً أساسياً جامعاً لها يتمثل في تحميل نظام الأسد المسؤولية، والتركيز على الحالة الاقتصادية والفساد والاستبداد كمحركات أساسية لهذا الحراك.
2-1- الرسائل الموجهة من القوى: انعكاس الأيديولوجيا على المواقف
تضمنت بيانات القوى سلسلة من الرسائل الموجهة (كانت في معظمها تشمل كامل سوريا، ولا تخصّ السويداء وحدها)، بعضها حمل مفردات قلّ ما يستخدمها أو يُجمع عليها السوريون؛ إلا أن بعضها يشير إلى مدى تأثر تلك البيانات بأدبيات الجهات التي أصدرتها.
ويمكن الوقوف عند /12/ رسالة تقاطعت فيما بينها وفق الآتي:
- يُعدّ السعي إلى التحرر من الاستبداد من الموضوعات التي أشارت إليها القوى في بياناتها (4 من أصل 11)؛ ولعل من الأسباب التي دفعت القوى للتركيز على ذلك هو درايتهم بأن تغيير الوضع الراهن لسوريا عامة والسويداء خاصة مرتبط بتحرر الشعب من قبضة الاستبداد بكل أشكاله.
- لفتت بعض القوى (4 من أصل 11) إلى مبدأ المواطنة المتساوية لجميع السوريين؛ إذ ترى أن قيام سوريا الجديدة لا يكون إلا إذا تحقق مبدأ المواطنة، وأنه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بالالتزام الحقيقي بالحلول السلمية والعملية السياسية التي ستكون بوابة لحل غالبية الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
- ركزت بعض القوى (2 من أصل 11) على بعض الأفكار كـ “دولة القانون، ووحدة سوريا، ودولة العدالة” كأساس لنهضة سوريا وبنائها، إضافة إلى إشارة بعضها لأفكار أخرى كـ “الدولة العلمانية، والتآخي بين فئات الشعب وتماسك النسيج المجتمعي، والتغيير الديمقراطي، والوحدة الوطنية، ودولة الحرية، وسيادة سوريا”، وإذا كان معظم ما ذُكر هو محل توافق بين قوى الثورة والمعارضة فإن ثمة رسائل ليست كذلك كفكرة “الدولة العلمانية”[14].
على الرغم من الاختلاف النسبي في الرسائل الموجهة بين القوى محل الرصد، وعدم التوافق على قلة منها؛ إلا أنه تكاد تكون جميعها محلّ توافق وطني يعود السبب في التركيز عليها إلى رؤى القوى الصادرة عنها وأدبياتها.
3-1- رؤى القوى لإنهاء حرب نظام الأسد على شعبه: بين الحلول الوطنية والحلول المحلية
لم يقتصر خطاب القوى على توضيح أسباب الحراك في السويداء، أو رسائل موجهة تعبر بشكل أو بآخر عن رؤيتها لمستقبل سوريا؛ وإنما سعت إلى تقديم حلول ترى فيها وسيلة لإنهاء حرب نظام الأسد ضد السوريين، أو منع انزلاق المنطقة (السويداء) نحو التصعيد.
وركزت بيانات الجهات محل الرصد على /7/ حلول ومطالب وفق الآتي:
- تنحّي النظام وزواله وإسقاط حكمه: كان من بين الحلول التي حظيت باهتمام القوى في بياناتها (3 من أصل 11)، فيما ذُكرت كلمة “إسقاط النظام” في بيانات 3 قوى أخرى في سياق إيضاح هدف المتظاهرين في السويداء[15].
- الإفراج عن المتظاهرين، والدعوة إلى حراك شعبي في باقي المناطق دعماً للمتظاهرين في السويداء: هما ثاني وثالث الحلول التي حصلت على ثاني نسبة إجماع من قبل القوى (2 من أصل 11)؛ ولعل تركيز القوى على الشق الأول من الحل اعتقادها أن الإفراج عن المتظاهرين قد يكون بادرة لعدم التصعيد في المنطقة، وأما الدعوة لتحرك باقي المناطق فهو يندرج ضمن وسائل الضغط على النظام ومنح المتظاهرين دفعة معنوية للاستمرار في حراكهم.
- دعت بعض القوى أبناء السويداء خاصة وسوريا عامة للانحياز للثورة السورية، ولعدم الاستماع لخطاب الطائفية الذي يسوّقه نظام الأسد لكسب الطوائف والأقليات إلى جانبه.
- ركزت بعض قوى الثورة والمعارضة في بياناتها على بعض الحلول المحلية كتدخل وجهاء السويداء لخلق بيئة آمنة للتظاهر.
يُظهر لنا المعيار الكمّيّ “وجود أغلبية مؤيدة لرؤية معينة للحلول” عدم وجود توافق بين القوى المرصودة في رؤيتها للحلول للخروج من الأزمة التي وضع نظام الأسد محافظة السويداء فيها، فنلحظ أن ثمّة تبايناً نسبياً بين القوى؛ فالبعض يرفع سقف الحلول ليرى أن الحل هو في إسقاط النظام وتنحّيه أو في انحياز السويداء للثورة السورية، فيما يتجه البعض الآخر إلى حلول “محلية” -إن صح التعبير- كتدخل الوجهاء؛ وإن لم يكن من تعارُضٍ بين الأمرين فإن إفراد أحدهما بالتركيز دون الآخر يمثّل نقطة خلافية.
4-1- توصيف القوى لطبيعة الحراك: صباغ السلمية الطاغي
أطلقت بيانات قوى الثورة والمعارضة خمسة أوصاف على الحراك في السويداء؛ إلا أن الملاحظ خلال تحليل البيانات هو: اتفاق أكثر من نصف القوى على وصفه بـ “الحراك الثوري” (6 من أصل 11)، وهذا يشير إلى البُعد الوطني وابتعاد خطاب القوى عن الفئوية والطائفية، ولعل إطلاق هذا التسمية غايته إيصال رسالة إلى أبناء السويداء أن الثورة السورية حاضنة لجميع فئات الشعب، وإن اختلفت مطالبهم وأسباب حراكهم، على عكس ما يروّج له نظام الأسد ومحاولاته وسم الثورة بالطائفية.
كما وصفته بعض القوى (4 من أصل 11) بـ “المظاهرات السلمية”؛ ولهذا الوصف خصوصية لدى قوى الثورة والمعارضة باعتباره يعود إلى الفترة الزمنية التي كانت فيه هذه المظاهرات الشرارة التي أدت إلى الانتفاضة ضد نظام الأسد، ولعل تأكيد القوى على سلمية ما يجري في السويداء غايته دحض ادعاءات النظام بوجود مجموعة تحاول إشعال فتيل الفتنة في المحافظة[16].
يشير ذلك كله إلى وجود توافق كلّي بين القوى التي صرّحت بمواقفها على توصيف الحراك في السويداء بأنه سلميّ، بغضّ النظر عن نعته بثورة أو مظاهرات أو حراك أو انتفاضة..إلخ.
ثانياً: أبعاد التخالُف في مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه تفعيل قانون قيصر:
دخل قانون قيصر الأمريكي حيز التنفيذ يوم 17 من حزيران 2020، بعد أن وقّع عليه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو يعاقب نظام الأسد وداعميه على الانتهاكات التي ارتكبوها في سوريا[17].
من خلال استعراض بيانات قوى الثورة والمعارضة تجاه تفعيل قانون قيصر (الملحق رقم 2) وجدنا أن نسبة التوافق بين هذه القوى (تأييد صريح وضمني لتفعيل القانون) بلغت 24%، مقابل نسبة تخالُف (الحياد والرفض الجزئي) 5%؛ وهو الموقف الذي حاز على أعلى نسبة تخالف من بين المواقف المرصودة في مؤشر التوافق الوطني[18].
للوقوف على النقاط الخلافية في مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاه تفعيل قانون قيصر نستعرض النقاط التالية: مواقف القوى من سياق تفعيل قانون قيصر، والنتائج المتوقعة وتأثيرها على السوريين، والرسائل التي وجهتها القوى عبر بياناتها المتعلقة بهذا الخصوص، ثم الموقف العام من تفعيل قانون قيصر.
1-2- رُؤى القوى حول سياق تفعيل قانون قيصر: الضغط… على النظام أم على الشعب؟
أشارت بيانات قوى الثورة والمعارضة في معظمها إلى سياق فرض قانون العقوبات الأمريكي “قيصر” على نظام الأسد وداعميه؛ حيث يمكن الوقوف عند /10/ أسباب ودوافع أشارت لها بيانات هذه القوى، ويمكن أن تندرج ضمن سياق فرض القانون، واكتسب بعضها توافقاً بين القوى المرصودة، وفق الآتي:
- ركزت ثلثا القوى (7 من أصل 10) في بياناتها على جرائم نظام الأسد وداعميه بحق السوريين؛ إذ ترى هذه القوى أن القانون فُرض ليعاقب النظام على الجرائم التي ارتكبها وما يزال بحق السوريين، وفي هذا السياق أشارت بعض البيانات (6 من أصل 10) إلى جرائم التعذيب بحق السجناء والمعتقلين في سجون نظام الأسد، إذ ترى القوى في هذه الأسباب الدوافع الرئيسة لفرض القانون[19].
- أشارت بعض القوى (2 من أصل 10) إلى أن القانون جاء لحرمان نظام الأسد من دعم حلفائه ودفعهم للتخلي عنه، وحرمانهم من جني ثمار تدخلهم في سوريا؛ وبالتالي زيادة الضغط على النظام، واستمرار عزلته سياسياً، وتقليص موارده. وهو ما قد يؤدي إلى تغيير سلوكه أو تفككه من الداخل، لاسيما أن القانون يمكن أن يستهدف حرمان نظام الأسد من تحويل “النصر العسكري” الذي حققه على الأرض بدعم حلفائه إلى مكسب سياسي[20]. إلى جانب إحباط محاولات روسيا -أحد حلفاء الأسد الرئيسين- من تحريك ملف إعادة الإعمار والاستفادة منه دون حل سياسي[21].
- أشارت بعض القوى إلى أن القانون فرض لـ “تعطيل” الحل العسكري، ودفع نظام الأسد للانصياع للقرارات الدولية، والانخراط في الحل السياسي، والكفّ -في الوقت ذاته- عن قتل السوريين، وأداة ضغط للإفراج عن المعتقلين وحماية المدنيين[22].
على الرغم من التوافق الحاصل بين القوى المصرحة تجاه سياق فرض القانون وأهدافه، إلا أن ثمة جهة اختلفت في تقييم سياق فرض القانون عن بقية القوى؛ فقد أرجعته إلى “التدخل الخارجي والتضييق على السوريين تحت ذريعة الضغط على نظام الأسد ومعاقبته”؛ ولعل رؤيتها هذه عائدة لما ألزمت نفسها به من أدبيات ترفض أي تدخل إقليمي أو دولي في الشأن الداخلي السوري[23]. ولعل هذا يقدم تفسيراً منطقياً لوجود التخالف بين هذه الجهة وبقية القوى في الموقف النهائي من القانون؛ فالاختلاف في تقييم السياق وفي الرؤى السياسية “في حالتنا رفض التدخل الخارجي في سوريا، بما في ذلك التدخل ضد نظام الأسد” سيقود غالباً إلى الاختلاف في الموقف السياسي ذي الصلة.
2-2- النتائج المتوقعة للقانون وتداعياته على السوريين: خلاف في التقييم
بعد استعراض سياق فرض القانون وما تضمنه من أسباب ودوافع أشارت إليها بيانات قوى الثورة والمعارضة محل الرصد لم تُغفل القوى الحديث عن نتائج القانون وتداعياته على نظام الأسد السوريين، ومن خلال تحليل بياناتها لُوحظ نقطتان رئيستان ركزت عليهما بعض البيانات؛ الأولى: أن القانون قد يكون أداة ضغط على النظام وحلفائه وأنشطتهم، فيما الثانية: توقفت عند تأثير القانون على السوريين في الداخل.
ويمكن الوقوف عند ثلاث نتائج للقانون تقاطعت فيما بينها وفق التالي:
- على الرغم من أن غالبية البيانات (6 من أصل 10) أشارت إلى أن القانون قد يتسبب بتداعيات سلبية على شريحة من السوريين[24]، وربما يزيد من معدلات البطالة، خاصة في ظل تحكم نظام الأسد بعجلة الاقتصاد وقدرته على تحميل السوريين تبعات القانون؛ إلا أن أنهم حمّلوا نظام الأسد مسؤولية الوضع الاقتصادي السيئ الحالي بإصراره على الحل العسكري، وعدم تعاطيه مع أي مسار سياسي حقيقي يمكن أن يمثل مخرجاً لسوريا وشعبها.
- توقعت بعض البيانات (3 من أصل 10) أن يؤدي القانون إلى الضغط على حلفاء نظام الأسد الدوليين (روسيا وإيران)، وبالتالي إمكانية تخفيف الدعم المقدم له أو حتى انقطاعه، فيما رأت بعض القوى (4 من أصل 10) أن العقوبات ستدفع بنظام الأسد إلى المزيد من الضعف والتفكك؛ لأن القانون سيجمّد ولو جزئياً آلته الاقتصادية.
- تنبأت بعض بيانات القوى (2 من أصل 10) أن يدفع فرض القانون جميع الأطراف السورية وعلى رأسها نظام الأسد للانخراط بالعملية السياسية وإعادة إنعاشها عبر الالتزام بتطبيق القرارات الدولية، وبالتالي فرصة للوصول إلى حل يضمن عودة آمنة وطوعية للاجئين.
عموماً: يبدو أن سبب عدم إجماع القوى على أن القانون سيكون له تأثير جوهري على نظام الأسد هو اعتقادها أنه يمتلك خبرة في التأقلم مع العقوبات التي بدأ يتعرض لها منذ عام 1979، عبر استحداث آليات للتعامل معها وتخفيف تأثيرها[25].
كما هو الحال في اختلاف القوى المتخالفة في تفسيرها حول سياق تفعيل القانون فإن هـذا الاختلاف ينسحب إلى النتائج المتوقعة؛ فالقوى المتحفظة على تفعيل القانون ترى أن تأثيره سيكون في غالبه سلبياً على عموم الشعب السوري وليس على نظام الأسد، على عكس القوى المؤيدة لتفعيله التي ترى العكس[26]، وهذه نقطة إضافية خلافية بين هذه القوى.
3-2- الرسائل الموجهة في بيانات القوى: أسس مشتركة
تضمنت بيانات قوى الثورة والمعارضة محل الرصد مجموعة من الرسائل التي سعت لتوجيهها للسوريين، وعلى الرغم من عدم ارتباطها المباشر بقانون قيصر إلا أن بعضها يخدم سياقه.
ويمكن الوقوف عند أربعة رسائل وجهتها القوى، وهي:
- يُعد الانتقال السياسي من الموضوعات التي أشارت إليها بعض القوى في بياناتها (3 من أصل 10)، وقد أكدت على أهميته؛ ولعل ذلك يعود إلى قناعتها أن “محنة السوريين” لن تنتهي في ظل استمرار نظام الأسد، ومن دون تحقيق انتقال سياسي.
- حاولت بعض القوى محل الرصد (2 من أصل 10) الإشارة إلى سلطة الاستبداد التي أسسها نظام الأسد وكان ضحيتها الشعب السوري على مدى عقود، وفي السياق ذاته لُوحظ في بيانات القوى استخدام العديد من المصطلحات الأخرى، كـ “النفوذ التسلطي والمنظومة الفاشية والاستغلال القمعي والسلطة القمعية والنظام الباغي والمخطط الامبريالي – الصهيوني”.
- أكدت بعض القوى على مفهومَي العدالة والحرية (3 من أصل 10) إلى جانب مفهومَي دولة المساواة والمواطنة؛ وهـذه المفاهيم من النقاط المتوافق عليها بين قوى الثورة والمعارضة[27].
على خلاف الموقف من رؤى القوى تجاه تفعيل قانون قيصر والنتائج المتوقعة منه فقد كان ثمّة توافق بين القوى في الرسائل الموجهة؛ حيث إن أفكاراً من قبيل “الانتقال السياسي، ودولة المواطنة والعدالة والحرية والمساوة، والتخلص من الاستبداد” تمثل أهدافاً مشتركة.
4-2- الموقف النهائي من تفعيل قانون قيصر: مستويات ثلاثة
أظهرت بيانات قوى الثورة والمعارضة محل الرصد انقساماً في المواقف تجاه فرض قانون قيصر، لاسيما وأنه تزامن مع أزمة اقتصادية خانقة في مناطق سيطرة نظام الأسد وانهيار في قيمة الليرة السورية؛ فقد ذهب القسم الأكبر من القوى لتأييده والترحيب به، ووضع قسم آخر محددات لتأييده، فيما أدانته إحدى القوى وحذرت من نتائجه.
ويمكن الوقوف عند ثلاثة أقسام رئيسة تقاطعت فيما بينها وفق التالي:
- تأييد القانون: (3 قوى من أصل 10) أعلنت تأييدها لفرض القانون الأمريكي على نظام الأسد وداعميه، وهي نفسها توقعت أن يؤدي القانون لإضعاف نظام الأسد والتضييق عليها ودفعه للانخراط في العملية السياسية، فيما لُوحظ مواقف لم تبلغ مرحلة التأييد المطلق، إلا أنها تندرج ضمن إطاره (4 من أصل 10) من خلال استخدام القوى عبارات “الترحيب بأي جهد يضعف النظام، أو توجيه الشكر لكل مَن ساهم بإصدار القانون، أو تأييد فرض عقوبات بحق مرتكبي الجرائم، أو تأييد أي جهد يعيد العدل للسوريين”.
- التأييد ضمن محددات: أشارت عدة قوى (3 من أصل 10) إلى جملة من المحددات التي بنوا عليها تأييدهم للقانون والعقوبات، فهي برأيهم ستحدد ما إذا كان القانون سيحقق أهدافه وغايته المنشودة، وقد ركزت القوى على (4) شروط لتأييد القانون، وهي:
- أن يكون القانون مدخلاً لمحاسبة المجرمين.
- ألا يكون القانون وسيلة لحماية المجرمين ونجاتهم من العقوبة.
- ألا يزيد من معاناة السوريين في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة[28].
- منع النظام من تفادي العقوبات ونقل تأثيرها الى السوريين.
- الموقف المتوجس والرافض: اقتصر هذا الموقف من القانون على قوة واحدة من القوى محل الرصد[29]؛ إذ رأت القانون مصدراً لزيادة معاناة السوريين، وسيفاً مسلطاً على رقابهم إضافة لإدانته بشكل مباشر؛ ولعل موقفها المنفرد من القانون يعود إلى رؤيتها في إدارة الملف السوري إذ ترفض التدخل الخارجي بكل صوره[30].
من الطبيعي أن ينعكس الاختلاف في الرؤى وتقييم النتائج على الموقف النهائي للقوى، وأن نجد هـذا التنوع. وإذا كان بإمكاننا تصنيف الموقفين الأوليين في خانة التأييد؛ فإن ثمّة فرقاً واضحاً بينهما من الناحية السياسية من جهة أن الموقف الثاني “التأييد المتحفظ” علق تأييده على عدة شروط، أي أن عدم تحقق أي منها يعني ضمنياً الرفض.
خاتمة:
مما تقدم نلحظ أن التوافق بين القوى المرصودة التي صرحت بمواقفها تجاه الحراك الشعبي في السويداء لم يقتصر على الموقف العام المؤيد لهذا الحراك؛ وإنما امتد ليشمل أكثر من قضية، كالتوافق حول أسباب الحراك والرسائل والتوصيف؛ إذ ثمّة توافق بين غالبية القوى على أن العامل الاقتصادي كان المحرك الأساسي لهذا الحراك، وعلى الرسائل الموجهة التي تكاد تكون محل إجماع وطني، وعلى توصيف ما حدث بأنه “حراك سلمي”؛ غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض النقاط الخلافية في مواقف القوى المصرحة، والتي يمكن تلخيصها في نقطتَين أساسيتَين:
الأولى: الرسائل ذات البعد الأيديولوجي التي تمثل طرحاً متفرداً من إحدى الجهات بما يخالف عموم بقية القوى، كفكرة الدولة العلمانية.
الثانية: الحلول المناسبة للخروج من الحالة السيئة التي وصلت إليها الأمور في السويداء؛ فالبعض يرى الحل في إسقاط نظام الأسد أو رحيله، والبعض يرى الحل محلياً في تدخل الوجهاء لتأمين بيئة آمنة للتظاهر، وآخرون في الإفراج عن المعتقلين.
كل ذلك يشير إلى أنه في المواقف المتوافق عليها، كما هو الحال في تأييد الحراك الشعبي في السويداء كان ثمة توافق في غالبية الحيثيات المتعلقة بالحدث، كالرسائل الموجهة والنظرة إلى السياق وتوصيفه، مع وجود استثناءات متعلقة ببعض الجزئيات؛ مما يؤكد صحة الفرضية التالية: “التوافق في الموقف السياسي تجاه حدث ما يعني توافقاً بالمجمل فيما يتعلق بهذا الموقف من حيثيات، من سياق وأهداف ورسائل موجهة…إلخ”، من دون أن ينفي ذلك إمكانية وجود بعض النقاط الخلافية في ثنايا المواقف[31].
وبالنسبة إلى الموقف من تفعيل قانون قيصر فقد وجدنا أن الخلاف في الموقف النهائي من القانون كانت له أسبابه من جهة اختلاف القوى المرصودة في رؤاها للسياق والنتائج المتوقعة من القانون، والذي بدوره انعكس على الموقف النهائي، إلا أن ذلك لم ينفِ وجود توافق بين القوى في الرسائل الموجهة عبر بياناتها من جهة تأييد الانتقال السياسي ومفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة ورفض الاستبداد. ويشير ذلك كله أيضاً إلى صحة الفرضية التي أشرنا إليها في المقدمة “التخالُف في الموقف السياسي تجاه حدث ما يعني تخالُفاً فيما يتعلق بهذا الموقف من حيثيات، كتحديد أسبابه ومبرراته والرسائل الموجهة عبره …إلخ”.
بناءً على كل ما تقدم فإنه يمكن التقدم بالتوصيات التالية لقوى الثورة والمعارضة:
- التركيز في المواقف السياسية التكتيكية على الرسائل المبدئية والفكرية التي تمثل توافقاً وطنياً عاماً[32]، كما لمسنا في الرسائل التي وجهتها القوى من خلال موقفها من تفعيل قانون قيصر. وفي الوقت نفسه الابتعاد عن تلك الرسائل التي تمثل قضايا خلافية قد تؤثر سلباً حتى على الموقف السياسي التكتيكي التوافقي، كما لمسنا في الموقف من الحراك في السويداء، من خلال إشارة إحدى القوى مثلاً إلى “الدولة العلمانية”.
- تقديم دراسات تحليلية واستشرافية من قبل مراكز الدراسات والأبحاث السورية إلى قوى الثورة والمعارضة، بما يساعدها أكثر على تحديد مواقفها بناءً على مقاربات وتحليلات موضوعية. فعلى سبيل المثال: وجود اختلاف بين قوى الثورة والمعارضة حول تأثير قانون قيصر وتداعياته على نظام الأسد وبنيته، وعدم التوافق فيما بينها على نتائج محددة وواضحة ضده قد يشكل أحد الأسباب المهمة التي تدفع نحو إجراء دراسات وتقييمات شاملة ودقيقة للدور الذي تلعبه مثل هذه العقوبات على سلوك نظام الأسد، إلى جانب إجراء دراسات أخرى تقيّم أثر العقوبات على سلوك الداعمين الدوليّين للنظام، وعلى وجه الخصوص روسيا وإيران.
لمشاركة الورقة: https://sydialogue.org/c7bu
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة