الأبحاث والدراساتالإصداراتالتوافق الوطنيوحدة الهوية المشتركة والتوافق

الموقف الشعبي من طريقة إدارة الشمال السوري: إضاءة في ضوء الأزمات المتتابعة

تقرير صادر عن وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري

مقدمة:

في كثير من الأزمات المعيشية والاضطرابات الأمنية التي يعيشها السوريون في مناطق قوى الثورة والمعارضة وما يرافقها عادة من احتجاجات ومطالب إصلاحية، كما حصل في “الاحتجاجات على زيادة أسعار الكهرباء[1]، واحتجاجات مدينة الباب ضد الفساد[2]، والاحتجاجات ضد الدعوة للتصالح مع نظام الأسد[3]” يكثر الحديث عن مسببات تلك الأزمات، ويُستحضر نموذج إدارة المناطق عبر “مجالس محلية” أشبه ما تكون بدويلات مستقلة دون وجود دور حقيقي لحكومة مركزية[4] على أنه الخلل البنيوي الرئيس الذي يسبّب الأزمات الأخرى الاقتصادية والأمنية والإدارية والخدمية، وانطلاقاً من ذلك كانت دعوات إيجاد دور حقيقي لحكومة مركزية فعلية تدير “مناطق النفوذ التركي” تحديداً حاضرةً على مدار السنوات السابقة، لاسيما في المرحلة الأخيرة الأكثر اضطراباً[5].

في إطار سعيه لتحقيق التوافق حول القضايا المحلية خاصة في مناطق قوى الثورة والمعارضة قام مركز الحوار السوري عبر باحثين ميدانين باستطلاع آراء عيِّنة من السوريين في تلك المناطق لمعرفة مدى تأييدهم لهذا النموذج؛ وهو إيجاد حكومة مركزية، وذلك عبر توجيه السؤال التالي:

ما هو موقفك من إدارة مناطق قوى الثورة والمعارضة عبر حكومة قوية بدلاً من حكم المجالس المحلية؟[6]

جُمعت الإجابات في المدة بين تموز – أيلول من عام 2022، وبلغت 600 عيّنة، مناصفة بين الذكور والإناث من كل المناطق وهي: مناطق إدلب وريف حلب الغربي (مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام “هتش”)، وعفرين (غصن الزيتون)، وشمال حلب: منها الباب واعزاز ومارع وجرابلس (مناطق درع الفرات)، إلى جانب منطقتَي رأس العين وتل أبيض (مناطق نبع السلام).

الشكل رقم (1) يوضح صفات العيّنة المستطلعة آراؤها

توجُّه عام لتأييد حكم عبر حكومة مركزية قوية في الشمال:

تُظهر نتائج الاستطلاع وجود غالبية كبيرة توافق على إيجاد نموذج إداري عبر حكومة مركزية قوية بديلاً عن آلية المجالس المحلية الحالية، ولعل أسباباً كثيرة أسهمت في وجود هذا التوجُّه؛ يأتي في مقدمتها: تعدُّد المرجعيات الفصائلية وإدارة الملفات الأمنية وفق هذه المرجعيات، إلى جانب الاختلاف في التعاطي مع الملفات الخدمية من منطقة إلى أخرى كما حصل في ملفَّي التعليم والكهرباء؛ كل ذلك يدفع المقيمين في هذه المناطق لتأييد نموذج الحكم المركزي سبيلاً وحيداً للخروج من فوضى الإدارة.

الشكل رقم (2) يوضح توزُّع آراء العينة المستجيبة للاستطلاع

الإناث أكثر ميلاً للحياد على الرغم من توافقهنّ مع الذكور في تأييد وجود حكومة مركزية قوية في الشمال:

تُظهر نتائج استطلاع الرأي بشكل عام وجود تقارب في المواقف بين أفراد العينة بناءً على متغير الجنس؛ مع وجود ميل أكبر لدى الإناث لموقف الحياد من تأييد وجود حكومة مركزية في مناطق قوى الثورة والمعارضة؛ وهو ما قد يُفسَّر بأن عامة الإناث يكنّ أكثر ميلاً للحياد لضعف اهتمامهنّ بالشأن العام.

الشكل رقم (3) يوضح توزُّع آراء العينة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير الجنس

الشرائح الأكبر سنّاً أكثر تأييداً لوجود حكومة مركزية قوية في الشمال:

تُظهر نتائج استطلاع الرأي بشكل عام وجود علاقة طردية بين تأييد وجود حكومة مركزية والتقدم في العمر؛ إذ يشكّل مَن هم فوق الأربعين عاماً النسبة الأكبر من المؤيدين لهذه الصياغة، على الرغم من وجود نسبة ملحوظة من الشرائح الأصغر سناً (ما يقارب ربع العيّنة) معارضة أو محايدة تجاه الأمر. ولعل ذلك يعود إلى أن الشرائح الشابة لم تتأثر كالشرائح الأكبر سنّاً بنمط الحكم المركزي الذي كان سائداً قبل الثورة من جهة، فضلاً عن اعتيادها طريقة “الإدارة الفصائلية اللامركزية” -إن صحّت تسميتها كذلك- منذ خروج المناطق عن سيطرة نظام الأسد منذ عام 2012 من جهة أخرى.

شكل رقم (4) يوضح توزُّع آراء العيّنة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير العمر

المقيمون في مناطق رأس العين وتل أبيض (نبع السلام) أكثر تأييداً لوجود حكومة مركزية قوية في الشمال:

تُظهر نتائج استطلاع الرأي على أساس متغير المناطق الجغرافية أن أكثر المناطق تأييداً لتمكين حكومة مركزية هي مناطق رأس العين وتل أبيض (نبع السلام)، تليها مناطق الباب واعزاز (درع الفرات). في حين تُظهر النتائج وجود نسبة الثلث تقريباً في منطقة عفرين (غصن الزيتون)، والخُمس في مناطق إدلب وريف حلب الغربي (مناطق “هتش”) غير متحمسة (محايدة ورافضة) لهذا النموذج.

شكل رقم (5) يوضح توزُّع آراء العيّنة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير المنطقة الجغرافية

من الطبيعي أن تنعكس معاناة المقيمين في المناطق التي يُطبَّق فيها أسلوب حكم المجالس المحلية مع ما يرافقه من فوضى خدمية وأمنية في تأييدٍ واضحٍ لنموذج الحكم المركزي عبر حكومة قوية في كل (مناطق النفوذ التركي)، خصوصاً في مناطق (نبع السلام) التي كان من اللافت تأييد العينة كاملة لهذا النموذج، خصوصاً وأنها من أكثر المناطق تراجعاً في مجال الخدمات مقارنة ببقية المناطق، في المقابل قد يكون التضييق الأمني الذي تتعرض له العيّنة في مناطق إدلب وريف حلب الغربي على مستوى الحكم المركزي الذي تطبّقه “هتش” عبر “حكومة الإنقاذ” دافعاً لجزء منها “الخمس تقريباً” لعدم تأييد هذا النموذج (حياداً ورفضاً).

ميل الشرائح الأكثر تعليماً لتأييد نموذج الحكومة المركزية القوية في الشمال:

تُظهر نتائج الاستطلاع على أساس متغير المستوى التعليمي أن الأشخاص الأكثر تعليماً أكثر ميلاً لنموذج الحكومة المركزية القوية، في حين أظهر الأشخاص الأقل تعليماً حماساً أقل بنسبة (الخُمس تقريباً بين محايد ومعارض)؛ ولعل موقف هذه النسبة المحايد مرتبط بعدم معرفتها الكافية بالنموذج المراد مما يدفعها إلى الحياد تجاهه.

شكل رقم (6) يوضح توزُّع آراء العينة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير المستوى التعليمي

غياب الأثر الملحوظ لمتغيرات شكل الإقامة ومكانها (طبيعتها) ومستوى الدخل في مواقف العيّنة:

تُظهر نتائج استطلاع الرأي وجود تقارب كبير في المواقف بين المقيمين والنازحين من جهة؛ وبين مَن يقيم في مخيمات ومَن يقيم في مناطق سكنية من جهة أخرى، وكذلك بين أصحاب الدخل المرتفع والمتوسط والمنخفض. ولعل هذا التقارب في المواقف بين هذه الشرائح المتباينة يؤكد الشعور العام بالحاجة إلى حكومة مركزية قوية الناجم عن الآثار السلبية لحكم المجالس المحلية خدمياً وأمنياً.

شكل رقم (7) يوضح توزُّع آراء العيّنة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير شكل الإقامة

شكل رقم (8) يوضح توزُّع آراء العيّنة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير مكان الإقامة

شكل رقم (9) يوضح توزُّع آراء العيّنة المستجيبة للاستطلاع على أساس متغير الدخل

خاتمة:

توضّح النتائج السابقة أن التيار العريض من عيّنة الاستطلاع تؤيّد نموذج حكومة مركزية قوية في الشمال السوري، وأن أثر المتغيرات في هذا الموقف الغالب يبقى هامشياً؛ إذ لم تنزل نسبة تأييد هذا النموذج في جميع الحالات تقريباً عن 75%.

لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن قراءة هذا التأييد يفترض أن تكون في سياق الأوضاع القائمة في مناطق قوى الثورة والمعارضة؛ أي أن هذا الموقف محصور في نموذج الحكم المراد في هذه المناطق فحسب، سواءٌ في إدلب وريف حلب الغربي (مناطق سيطرة “هتش”) أو في مناطق شمال حلب وشرقها (مناطق النفوذ التركي) فحسب، وترجيحه على نموذج حكم المجالس المحلية القائم في المناطق الأخيرة منذ عام 2016.

بعد فشل نموذج الحكم في “مناطق النفوذ التركي” خدمياً عبر المجالس المحلية، وأمنياً وعسكرياً عبر الحالة الفصائلية؛ فإننا نعتقد أنه من الطبيعي أن يكون الرأي الغالب من الحاضنة الشعبية المقيمة في هذه المناطق هو تأييد نموذج الحكم المركزي عبر حكومة قوية. مع التنبيه أن النموذج الذي تؤيده الحاضنة يفترض قوة المؤسسات مع ضمان الحقوق والحريات السياسية والفردية؛ حتى لا يكون النموذج المراد هو بذرة لدكتاتورية واستبداد جديدَين.

كذلك يجب ألا يُربط تأييد بناء نموذج الحكومة المركزية القوية بتأييد المؤسسات “المركزية والرسمية” الحالية، على اعتبار أن الموقف هنا منصبٌّ على الأسلوب وطريقة الحكم والإدارة، أكثر من كونه استفتاءً على تأييد المؤسسات والنخب السياسية والخدمية القائمة؛ حيث إن كثيراً من المؤشرات تذهب إلى ضعف -إن لم نقل انعدام- الثقة بها من قبل الحاضنة[7].

لمشاركة التقرير:

https://sydialogue.org/dp8w


[2] يُنظر: الاحتجاجات في مدينة الباب: قراءة في العوامل والدروس المستفادة، مركز الحوار السوري، 26-5-2022، شوهد في: 29-10-2022.
[4] يقتصر دور الحكومة السورية المؤقتة على الوجود الشكلي في أغلب القطاعات؛ إذ لا تمتلك سلطات فعلية على الملفات السيادية، خاصة العسكرية والأمنية والاقتصادية؛ وهو الأمر الذي أكّده رئيس الحكومة المؤقتة “عبد الرحمن مصطفى” في كلمته المتلفزة يوم 27/10/2022: كلمة السيد عبد الرحمن مصطفى رئيس الحكومة السورية المؤقتة حول الأحداث الأخيرة وخطة الحكومة للمرحلة القادمة، الحكومة السورية المؤقتة، 27/10/2022، شوهد في: 28/10/2022.
[5] يُنظر على سبيل المثال: إعادة فتح المعابر مع نظام الأسد: قراءة في السياق والفرص والتحديات، مركز الحوار السوري، 14/10/2022. والسمات الأساسية لخطاب قوى الثورة والمعارضة تجاه التصريحات التركية والحراك الشعبي في الشمال السوري، مركز الحوار السوري، 26/9/2022. وقراءة في أزمة رفع أسعار الكهرباء في مناطق الشمال السوري، تحليل للعلاقة بين الحاضنة الشعبية وهيئات الحكم القائمة، مركز الحوار السوري، 14/10/2022. وثائر المحمد، مشاكل وأخطاء متراكمة تثير غضب سكان شمالي سوريا.. ما هي مطالبهم؟، تلفزيون سوريا، 17/8/2022، شوهد في: 28/10/2022.
[6] لابد من التنبيه إلى أنه لا ارتباط لصيغة السؤال وأهداف استطلاع الرأي بأية حكومة موجودة حالياً؛ وإنما السؤال يرتبط بالبينة “الحوكمية” للمنطقة وبشكله المجرد، أي أن إجابات العينة ترتبط بالطريقة الإدارية، ولا يمكن أن يُستنتج منها تأييدٌ أو رفضٌ للأشخاص والمؤسسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى