إضاءات على الأسباب والارتدادات المجتمعية للاقتتالات الفصائلية
تقرير تحليلي صادر عن الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري
أثارت الاشتباكات الفصائلية التي اندلعت في شهر تشرين الأول 2022 وامتدت قرابة أسبوع كثيراً من الانتباه والمخاوف؛ نظراً لتسارع أحداثها وتوسُّع رقعتها بشكل كبير، وشهدت تحليلات ومناقشات كثيرة ركّزت على الأجسام والفصائل العسكرية ومشاريعها وعلاقتها مع بعضها وتحالفاتها المصلحية.
وقد جاءت هذه الاقتتالات على خلفية اغتيال الناشط “محمد أبو غنوم” وزوجته؛ إذ ثبت تورُّط عناصر من فرقة الحمزة (المعروفة باسم الحمزات) وتلقيهم أوامر مباشرة بتصفيته، وقد قام الفيلق الثالث -الجبهة الشامية وجيش الإسلام – بملاحقة واعتقال الخلية المتورطة، ثم قام بالاستيلاء على مقرات فرقة الحمزة في مدينة الباب؛ وهو ما أشعل شرارة التوتر بشكل كبير[1].
استنفرت فرقة الحمزة بعد الاستيلاء على مقراتها في الباب وتحالفت مع عدد من الفصائل من أبرزها فرقة سليمان شاه (المعروفة باسم العمشات)، وانضمت إليهم “هيئة تحرير الشام- هتش” التي كان دخولها عاملاً فارقاً في الصراع؛ إذ استولت مع حلفائها على منطقة عفرين وضواحيها، وسيطرت على مقرات الفيلق الثالث هناك، وتحركت باتجاه اعزاز – معقل الفيلق الثالث – واندلعت اشتباكات شديدة في العديد من مدن ريف حلب الواقعة تحت الإشراف التركي، واستمرت الاشتباكات قرابة أسبوع انتهت بتدخل الجيش التركي وإجبار “هتش” على الانسحاب وتنفيذ بنود الاتفاقية التي وقعت عليها مختلف الأطراف[2].
كشف هذا الاقتتال بشكل غير مباشر عن المفاصل الرخوة في بنية العلاقات الاجتماعية التي سبّبتها البنية الفصائلية في المنطقة، وتأثير الاعتبارات المناطقية والاقتصادية كدوافع غير مباشرة للاقتتال وللصمود، ولزيادة الشروخ المجتمعية، وسنحاول في هذا التقرير الإضاءة على بعض هذه الجوانب المجتمعية والاقتصادية التي ظهرت كعوامل محرِّكة للقتال، أو التي ظهرت انعكاسات ونتائج له؛ في محاولةٍ لتتبُّع التغيرات المجتمعية الطارئة التي تعيد صياغة المجتمع وفق مراكز القوة الناشئة، حيث سيركز التقرير على تحليل الانعكاسات المجتمعية لبنية الفصائل العسكرية وأدائها على الحاضنة الشعبية، وتأثير دخول “هتش” على المنطقة، كما سيركز على ما يمكن تسميته “المناطقية الفصائلية” عاملاً مؤثراً في إعادة تشكيل الروابط الاجتماعية، ويتطرق التقرير إلى الحراك الشعبي والصراع على الحاضنة كأحد العوامل البارزة المؤثرة خلال الأحداث، وتأثير الاقتتال على الأمن والاستقرار المجتمعي، وارتداداته السلبية على قطاع التعليم بشكل خاص، بالإضافة إلى الإشارة إلى دور العامل الاقتصادي ضمن العوامل المحركة للصراع.
وتم بناء هذا التقرير وفق المنهج الوصفي التحليلي؛ إذ ارتكز على مدخلات مجموعة من المقابلات مع عدد من المدنيين المقيمين في المناطق التي اندلعت فيها الاشتباكات[3].
يسعى هذا التقرير للإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما هي الخلفيات والعوامل الاجتماعية التي كانت محرِّكة للاقتتال الفصائلي الأخير؟
- ما هي ارتدادات هذا الاقتتال وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية؟
فصائل الجيش الوطني؛ إشكاليات في البنية والأداء العسكري وانعكاساتها المجتمعية:
أظهرت الاقتتالات الفصائلية هشاشة الجيش الوطني السوري بصفته جسماً عسكرياً جامعاً لفصائل المعارضة السورية؛ فعلى الرغم من محاولات المأسسة والتحالفات الداخلية وغرف العمليات التي تشكلت وتكاثرت بحيث أصبح من الصعب التمييز فيما بينها وفكّ تشابكاتها فما تزال الحالة الفصائلية حاضرة بقوة، بل تكاد تكون الصفة الأوضح لهذا الجسم، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة والمتابعة لتحديد الأسباب وراء استمرار هذه الظاهرة رغم انعكاساتها السلبية.
فقد أظهرت الاقتتالات هشاشة العلاقات بين فصائل الجيش الوطني، وقيامها على تنازع المصالح والتصارع على مراكز القوة بالدرجة الأولى، وكانت هذه الدوافع العامل الرئيس وراء بناء تحالفات مصلحية مع جهات فصائلية قريبة، وتجاوزت ذلك لبناء تحالفات مع جهات كانت تُصنف “عدو” في وقت سابق مقابل إنهاء الخصم والاستفراد بالساحة[4].
كما أظهرت الاقتتالات هشاشة الروابط داخل الجسم أو التحالف أو حتى الفصيل الواحد؛ فقد نأت بعض العناصر أو المكونات ضمن الفصيل عن الدخول في الاقتتال بعدما تحولت المشكلة إلى صراع على المقرات وسعي للاستحواذ عليها وإنهاء وجود بعض الفصائل، في حين شارك عناصر آخرون في القتال رغم أن فصائلهم نأت بنفسها عن القتال لأسباب أخرى؛ وهو ما يعكس ضعف انتماء العناصر لهذه التشكيلات وعدم انضباطهم[5].
وقد أعادت المشكلة الأخيرة إبراز حالة “الحياد السلبي” لبعض الفصائل التي يُفترض أن تكون رأس حربة؛ فقد سكتت وتجاهلت البغي الحاصل ودخول “هتش”، كما تجاهلته في المرات السابقة، واتُّهمت بتسهيل مرور الأرتال من مناطق سيطرتها[6]؛ وهو ما قد يُفسَّر بتحالفات ضمنية مع أحد الأطراف، أو بوجود تواطؤ أو رغبة في إنهاء الخصوم وإضعافهم بشكل غير مباشر للتفرد بالساحة.
ومن جهة أخرى أظهرت الاقتتالات أيضاً هشاشة البنية الفصائلية من حيث التراتبية وإصدار الأوامر؛ إذ تشير بعض الشهادات إلى أن اقتحام الفيلق الثالث مقرات فرقة الحمزة في الباب بعد القبض على الخلية المتورطة بالاغتيال تم بقرار فردي لأحد القيادات ولم يُؤخذ بشكل مشترك، وهو ما فاجأ بقية القيادات في الفيلق التي لم تكن تنوي التصعيد، فأُجبروا على التحرك مع تداعيات الأحداث المتسارعة التي لم يكونوا مستعدين لها[7].
كما عكست تجربة القتال ضعف الاستعداد لدى بعض الفصائل؛ فلم تكن تملك من الأسلحة والمعدات القتالية أو من الذخائر ما يكفي، نظراً لانشغالها ببناء جناحها الاقتصادي وتأمين الحاضنة اللصيقة بها[8]، كما أظهرت عدم قدرتها على القتال على عدة جبهات؛ لذا فضّلت الانسحاب من بعض المناطق من أجل الدفاع عن مناطق أخرى، كما كان أداؤها العسكري يفتقر للاستراتيجية القتالية؛ في حين ظهرت “هتش” أكثر استعداداً وتسليحاً وتماسكاً بين أفرادها[9].
وقد انعكست كل هذه الإشكاليات المتعلقة بالحالة الفصائلية بشكل ما على الحاضنة المجتمعية، التي فقدت ثقتها بهذه الأجسام العسكرية، وبقدرتها على الصمود والمواجهة مع نظام الأسد، وبمدى انتمائها للمشروع الثوري، وبانتفاعها منها، لاسيما مع تكرار هذه الاشتباكات وما يرافقها من عمليات تجييش وانقسامات واصطفافات تزيد من تمزُّق النسيج الاجتماعي بدل توحيده.
ومما زاد الحنق المجتمعي على هذه الأجسام غيابُ أي اعتبار لوجود المدنيين من قبل فصائل تدّعي أنها حملت السلاح للدفاع عنهم، وإمكانية استخدام الأسلحة بكل أشكالها والتصعيد حتى الحد الأقصى، وعدم التحرُّج من إيقاع الخسائر البشرية، واستهلاك الشعارات الداعية لتوحيد الجهود والمؤسسات ويُقصد بها إفناء الخصوم، وإمكانية التحالف مع جهات تُعد خارج مشروع الثورة وسبق أن ألحقت بها الضرر في مقابل تثبيت مناطق النفوذ والسيطرة[10].
مطامع “هيئة تحرير الشام – هتش” التوسعية؛ تحضيرات على الأصعدة كافة:
عكسَ دخول “هتش” ساحة النزاع رغبة واضحة في الهيمنة والاستحواذ وإعادة سيناريو التغلب وابتلاع الفصائل، وتقديم نفسها للطرف التركي والحاضنة المجتمعية بديلاً أفضل وأصلح لإدارة المنطقة[11]؛ فقد ترددت الكثير من الإشاعات التي تشير إلى أن ” هتش” لعبت على هوامش تعدد الجهات التركية المشرفة على الملف السوري، وعملت على إقناع إحداها بقدرتها على الحسم السريع والسهل؛ إلا أن فشلها في تنفيذ ما وعدت به هو ما دفع الجهات التركية للتدخل وإنهاء الاقتتال بشكل حاسم[12].
وتشير تحليلات عدة إلى أن دخول “هتش” إلى المنطقة لم يكن إلا محاولة لتحجيم بعض الفصائل التي رُوِّج سابقاً أنها وراء تصعيد الاحتجاجات الشعبية التي انتقدت السياسات التركية في بعض الملفات الخاصة بإعادة العلاقات مع نظام الأسد؛ فقد كانت بعض تلك الفصائل تبحث عن حلفاء جدد بعد أن أسهمت جهات وفصائل سورية مقربة من تركيا بالترويج لمثل تلك الإشاعات لإيجاد ذريعة لإنهاء خصومها[13].
كما تؤكد بعض الوقائع أن دخول “هتش” لم يكن مفاجئاً، ولم يتم على عجل؛ وإنما كان -كالمرة الأولى- محضَّراً له عسكرياً بكل ما يتطلبه ذلك، فقد دخلت “هتش” بقوة عسكرية تزيد عن 5000 عنصر على وجه التقدير، مع عشرات المصفَّحات والعربات العسكرية التي اغتنمتها “هتش” من الفصائل التي تغلّبت عليها في وقت سابق[14]، وحملت الأرتال العسكرية التابعة لها كل ما تحتاجه من عدة وعتاد؛ ابتداءً بالبطانيات إلى بطاريات القبضات والموتورات الاحتياطية وحتى سيارات الاعتقال المجهزة بقضبان. فقد كانت “هتش” تريد تحقيق أكبر قدر من الاستفادة، سواءٌ أكان وجودها قصيراً أم طويلاً؛ إذ استطاعت استثمار الموضوع بأكبر قدر ممكن من المكاسب، فعلى الرغم من إجبارها لاحقاً على الانسحاب إلا أنها خرجت بغنائم وفيرة مما قامت بمصادرته من مقرات الفيلق الثالث في كفرجنة والمعبطلي وعفرين[15].
لقد أثار التدخل والتحالف بين “هتش” وفرقة الحمزة والسلطان شاه حالة من الرفض الشعبي؛ نظراً لقيام “هتش” بدعم فصائل لا تتمتع بسمعة جيدة بين المدنيين، وثبت تورطها في العديد من الجرائم والانتهاكات، حيث إن هذا التحالف أعاد لأذهان الناس تاريخ “هتش” والذرائع التي استخدمتها سابقاً في بغيها على فصائل المعارضة، لاسيما وأن الأرتال العسكرية المجهزة بالمعدات القتالية التي استخدمتها “ هتش” لم تظهر في المعارك والمواجهات مع قوات النظام، وإنما استخدمت في قتال الفصائل ما تمت مصادرته من فصائل أخرى في معارك سابقة[16].
ومما زاد من مخاوف المدنيين حركة الاعتقالات النشطة التي بدأتها “هتش” منذ الساعات الأولى لدخولها منطقة عفرين وطالت مدنيين[17] وعسكريين تابعين للفيلق الثالث وحتى مطلوبين لقضايا جنائية، وتمت الاعتقالات وفق قوائم محضَّرة مسبقاً، وأشرف على تلك الأعمال الأمنية في منطقة عفرين عناصر أجنبية غير سورية، وهو ما يشير إلى حضور الجانب الأمني لدى “هتش” بشكل أساسي، وكذلك حضور العناصر الأجنبية فيه[18].
وقد تسببت المواقف الرافضة لدخول “هتش” مناطق ريف حلب بتوترات مجتمعية بين سكان المنطقتين؛ فقد عدّ بعض الناشطين من سكان إدلب أن هذا الموقف الرافض لدخول “هتش” بسبب تصنيفها مجموعة إرهابية يعزّز فكرة صبغ منطقة إدلب بالسواد، فيما رأى آخرون أن رفض دخول “هتش” إلى ريف حلب هو من باب تحييد المنطقة عن الاستهداف الروسي الذي سيتذرع بوجود “هتش” المصنفة على قوائم الإرهاب لقصفها واجتياحها، إلى جانب مخاوفهم من الطريقة التي تدير بها “ هتش” مناطق نفوذها بقبضة من حديد[19].
المناطقية الفصائلية، وأثرها في صياغة انتماءات جديدة:
ظهر البُعد المناطقيّ في العوامل الحاضرة ضمن سياق النزاع، وفي الارتدادات الناتجة عنه؛ فقد أسهمت عملية التهجير في إعادة تشكيل الروابط والبنى الاجتماعية وفق روابط جديدة، لاسيما بعد أن عملت بعض الفصائل على إنشاء حالة من الارتباط والولاء مع العائلات المهجرة من منطقتها نفسها، وذلك من خلال تقديم خدمات تساعد حاضنتها المناطقية على الاستقرار، ككفالة والأيتام ورعاية العائلات عناصرها الذين استشهدوا، والتجمع في أحياء ومنازل متقاربة للتخفيف من آثار عملية التهجير[20].
ولذا ارتبط وجود الحاضنة بالفصيل بروابط مصلحية قائمة على المناطقية، وأصبح وجود الفصيل عامل الأمان الأساسي لهذه الحاضنة، لاسيما وأنه أسهم في تأمين إسكان هؤلاء المهجرين في بعض المنازل الفارغة[21]، لكنه في الوقت نفسه أسهم بإنشاء مجتمعات صغيرة منغلقة ضمن المجتمعات المضيفة، لم تتطور العلاقات فيما بينها لحالة اندماج، وإنما بقيت العلاقات المجتمعية مبنية على الحذر وعدم الثقة والارتياب من الجميع ومع الجميع[22].
لقد أدت هذه العلاقات المصلحية التي بُنيت على أساس مناطقي إلى إعادة تقسيم المجتمع وفق اصطفافات فصائلية ومناطقية، وحُسب المدنيون على فصائل معينة وفقاً لأصولهم المناطقية، سواءٌ كانوا على علاقة مع تلك الفصائل أم لا، خاصة مع وجود شبكات من العلاقات العائلية والتجارية المتداخلة، حتى أصبحت هذه الروابط سبباً لاعتقال بعض المدنيين خلال الاشتباكات وفقاً لهذا الانتماء المزعوم[23]، كما كان وجود غرباء في مناطق تتبع لفصيل ما سبباً في الاعتقال التعسفي لمدنيين آخرين[24].
ومن جهة أخرى بدت بعض المطالب التي تم تسريبها خلال اللقاءات التي كانت تسعى للتهدئة، وطالبت فيها بنقل فصيل “جيش الإسلام” الى تل أبيض وراس العين (مناطق نبع السلام) شكلاً من أشكال العقوبة والنفي؛ حيث إن مثل هذه المطالب لن تطال العسكريين فحسب، وإنما تعني بالضرورة انتقال عائلاتهم وحواضنهم المتشابكة والجهات الموجودة تحت رعايتهم أيضاً في عملية تهجير جديدة إلى منطقة عسكرية منعزلة ليس لها أي اتصال جغرافي مع بقية المناطق[25].
ومن جهة أخرى برز العامل المناطقيّ كأحد عناصر صمود الفصائل وثباتها في مناطق القتال؛ فقد شهدت المناطق التي كان عناصرها من أبناء المنطقة صموداً أكبر من غيرها، في حين انهارت دفاعات تلك الفصائل في المناطق التي كان أغلب عناصرها من المهجرين أو النازحين، وتم الانسحاب منها وتسليمها بشكل أسرع[26].
وقد انعكست تغييرات مناطق النفوذ والتوترات التي حدثت بين الفصائل على المدنيين بشكل واضح؛ فقد نأى العديد من المدنيين العالقين خارج مناطق الاشتباك والمحسوبين على أحد الأطراف المتنازعة بأنفسهم عن العودة إلى منازلهم خوفاً من عمليات انتقام أو إزعاج أو تضييق أو اعتقال بهدف تبادل الأسرى، خاصة المقيمين في عفرين ، كما عزف بعض المدنيين عن التنقل بين المناطق خوفاً من الحواجز الطيّارة التي تقيمها بعض الفصائل بحثاً عن مطلوبين، في حين مكث آخرون في بيوتهم حتى يتأكدوا من أن الوضع قد عاد إلى سابقه أو حتى يقوموا بتسوية أوضاعهم مع الفصيل الذي ثبتت سيطرته في المنطقة، أو بانتظار اتخاذ قرار بالانتقال إلى مناطق أخرى وفقاً للمتغيرات الجديدة[27].
ومن الجدير بالذكر أن هذه الاقتتالات قد خلقت اصطفافات اجتماعية اختلفت في حدتها وعمقها، وتنوعت من اختلاف في وجهات النظر إلى اختلافات في التحليل، إلى تبنّي مواقف حادة وإعلان الانتماء لطرف وإن كان ذلك على حساب قطيعة مع المحيط الاجتماعي[28].
الصراع على الحاضنة، وبناء السُّمعة والشعبية:
بالإضافة إلى الصراع على السلطة وعلى مناطق النفوذ شكّلت الحاضنة المجتمعية أحد عناصر التنافس بين الفصائل؛ فقد حاولت مختلف الأطراف تقديم رواياتها حول الأسباب والدوافع للتصعيد من أجل أن تحصل على التأييد الشعبي وتقدّم نفسها بصفة المدافع عن مصالح الحاضنة والساعي لحل مشاكلها، لاسيما بعد بروز الحراك الشعبي في المؤثّرين على صناعة الحدث والقرار.
فقد حاول تحالُف الحمزة -سليمان شاه – “هتش” تبرير تحرُّكه بأنه في إطار “ضبط المنطقة أمنياً وتوحيد المؤسسات”، في محاولةٍ للتأثير في الحاضنة التي تطالب بهذه المطالب، في حين كان تحرُّك الفيلق الثالث تحت عنوان “مكافحة الفساد والمفسدين”؛ إلا أن هذه الشعارات المرحلية لم تكن ذات تأثير في الحاضنة التي أظهرت نضجاً ووعياً في فهم الأسباب الحقيقية للصراع عند كل طرف.
يتمتع الفيلق الثالث -ونواته الجبهة الشامية- بسمعة أفضل من فرقة الحمزة؛ إذ تشير الشهادات إلى وجود بعض الشخصيات الثورية المُصلحة ضمن الفيلق الثالث تسعى لتدارُك الأخطاء، وتعمل بما يتناسب مع المصلحة العامة، وتسعى إلى ضبط الفساد، خاصة ما يتعلق بمكافحة المخدرات وملاحقة المتورطين في قضية أبو غنوم. في حين تناقصت حاضنة فرقة الحمزة نتيجة الانتهاكات والفساد الذي اتُّهم به عناصرها طوال سنوات، وكذلك بعد قيامها بقصف مدينة الباب عشوائياً، وقد وقفت القيادات المجتمعية في مدينة الباب بحزم ورفضت عودة فرقة الحمزة إلى المنطقة بشكل حاسم[29].
ومن جهة أخرى سعت “هتش” منذ فترة طويلة للتأثير وتغيير آراء الحاضنة الشعبية في ريف حلب خارج مناطق سيطرتها؛ فقد شنّت أدواتها الإعلامية حرباً إعلامية حاولت فيها شيطنة الخصوم باستخدام الحديث عن مصلحة الثورة ومشاريع التوحد، والإشادة بمشروع “هتش” المدني بإدلب، والحاجة لتعميم هذا المشروع؛ وهو ما ظهر بوضوح بالتزامن مع دخول “هتش” إلى عفرين[30].
ولم تكتفِ “ هتش” بالمنصات الإعلامية الرسمية والرديفة، وإنما قامت بخطوات عملية لاختراق الحاضنة والتأثير في رأيها؛ فقام الجولاني قائد “هتش” باستضافة مجموعات مصغرة من القيادات المجتمعية في ريف حلب خلال العام الماضي بدعوة منه، محاولاً تلميع صورته واستعراض قوته العسكرية والتنظيمية والإدارية وإجراءات “الشفافية” وضبط الفساد الذي يقوم به، في محاولة لإقناع بعض الشخصيات ذات الثقل والتأثير المجتمعي بكونه البديل الأفضل لإدارة المنطقة، وقد أدت هذه الخطوات إلى تغيير أفكار بعض الأفراد تأثراً بـ “البروبغاندا” التي يُروّج لها، ولكن من غير المعروف ما إذا كان هذا التغيير عن اقتناع حقيقي أو أنه نتيجة تحالفات وأموال ومصالح تمكّن الجولاني من عقدها مع بعض هؤلاء الأفراد[31].
كما استخدمت “هتش” في وقت سابق مجموعة من الأدوات الناعمة تمهيداً لدخولها شمال حلب؛ إذ أرسلت قادة عسكريين ومسؤولين اقتصاديين لعقد لقاءات مع قيادات في الجيش الوطني، وقامت بإنشاء نقاط عسكرية على خطوط النار مع قوات الأسد في مناطق ريف حلب الغربي بالتنسيق مع الفصائل هناك، وزرعت عملاء لها في مناطق الجيش الوطني[32].
ويرى ناشطون أن الوضع في إدلب ليس أفضل حالاً من مناطق الشمال السوري الأخرى؛ فعلى الرغم من وجود مرجعية إدارية واحدة، وحالة من التنظيم المؤسساتي في الدوائر التابعة لـ”حكومة الإنقاذ” إلا أن هناك حالة من قمع الحريات والإرهاب الفكري، والتخوف من الاعتقالات نتيجة الدخول بنقاشات أو انتقادات للواقع، ورغم ما تحاول “هتش” إظهاره من حراك شعبي يتجلى على شكل مظاهرات ثورية واحتفالات إلا أنه من غير المسموح أية اعتراضات جماعية أو إضرابات أو حتى رفع لافتات تنتقد أي مظاهر سلبية[33].
الحراك الشعبي؛ العامل الأشد حسماً للصراع:
كان الحراك الشعبي الذي طالب بمحاسبة قتلة الناشط “أبو غنوم” أحد العوامل الدافعة لتحرُّك الفيلق الثالث وسعيه لمعاقبة المتورطين، لاسيما وأن عملية الاغتيال قد كشفت هشاشة الواقع الأمني وإمكانية استهداف الناشطين من جهة، وتورُّط بعض الفصائل في خلق هذه الهشاشة من جهة أخرى، كما تجدَّد هذا الحراك الشعبي بشكل قوي ومستمر خلال عمليات الاشتباك مؤكداً رفضه التام لدخول “هيئة تحرير الشام – هتش” إلى ريف حلب أو حتى مرور أرتالها العسكرية بهدف الاستعراض[34].
وقد ظهر دور الحراك ضمن الفاعلين الأساسيين بعد أن قام بعض عناصر الفيلق الثالث بالاستيلاء على مقرات فرقة الحمزة في مدينة الباب؛ حيث حاول وجهاء المدينة احتواء المشكلة ونزع فتيل التوتر من خلال استلام المقرات وإبعاد عناصر الفيلق عنها والمطالبة بإعادتها إلى صفتها المدنية؛ إلا أن عناصر من فصيل أحرار الشام في الباب عاودوا الاستيلاء على المقرات. ويعتقد بعض المتابعين أن هذا حدث بتوجيه تركي بهدف إعادة تلك المقرات لفرقة الحمزة لاحقاً؛ إلا أن الحراك الشعبي المتجدد رفض بشكل قاطع عودتهم إلى المنطقة[35].
كانت الأسباب التي دفعت هذا الحراك الشعبي الكثيف تنبع من وعي وإدراك لمشروع “هتش”، بصفتها استنساخاً لنموذج سلطوي قائم على التغلُّب وقمع الحريات وإدارة المنطقة بيد من حديد، وهي وجه آخر لنظام الأسد، ويراها آخرون ذريعة جديدة تسمح لروسيا بزيادة معدلات القصف الجوي، وقد تكون خطوة من أجل إنهاء الثورة وإعادة ترتيب المنطقة بهدف المضيّ في مشروع تعويم نظام الأسد والمصالحة معه[36].
وقد كان للفعاليات المجتمعية ولسقف الحريات الممنوح في مناطق ريف حلب دور كبير في توعية المدنيين وتعريفهم بشكل مسبق بالتداعيات المترتبة على بعض الاحداث العسكرية المتوقعة، خاصة دخول “هتش”؛ ولذا كان للحاضنة رأي واضح ومستقل، وكانت قادرة على التمييز بين دوافع القتال لدى كل طرف وعواقبه[37].
ومن جهة أخرى سعت بعض الجهات الفصائلية أو المقربين منها عند فشل محاولاتهم في إقناع الشارع بوجهة نظرهم إلى توجيه تهديدات لبعض النشطاء وإيهامهم بأن تحركاتهم ما هي إلا تجاوب مع التوجيهات التركية، وأن اعتراض المدنيين على بعض القرارات معناه معاداة السياسات التركية والتصادم معها؛ وساعدهم على تلك الادعاءات غياب أية مرجعية أو ناطق عسكري باسم المرجعيات التركية المشرفة على المنطقة[38].
تهديد الأمن والاستقرار المجتمعي:
أسهم الاقتتال الفصائلي إلى جانب تعزيز الانقسامات المجتمعية بزيادة حالة الخوف والغضب الشعبي على الفصائل بعمومها، والمطالبة بإنهاء وجود سلاحها ضمن المدن أياً كانت، حتى إن البعض كان لا يمانع من دخول “هتش” إلى المنطقة إن كان بدخولها ضبط للمنطقة من الناحية الأمنية والعسكرية، على اعتبار أنهم بين خيارَين “سيئ” و”أسوأ”[39].
كما عزّز الاقتتال بين الفصائل الذي اندلع بشكل مفاجئ وتطور بشكل سريع حالة من عدم الاستقرار، ومن المخاوف حول مستقبل المنطقة، خاصة مع التوجهات السياسية التركية الأخيرة؛ إذ يعتقد البعض أن ما يجري هو إعادة تشكيل لمناطق النفوذ تمهيداً لتسليم المنطقة لنظام الأسد، كما ظهرت بعض الأصوات التي تروّج لفكرة انتهاء الثورة، وعدم جدوى التمسك بالأرض بعد ارتهان البنادق وانحرافها عن وجهتها، وأصبح الحديث الأكثر تداولاً بين الجموع حول الخيارات المحدودة للنجاة، ومنها الهجرة والسفر بحثاً عن ملاذ آمن للاستقرار[40].
وقد ارتفعت وتيرة الحنق الشعبي تجاه تركيا؛ لأن كثيرين يرون أن تركيا قد غضّت النظر عن تجاوزات الفصائل المحسوبة عليها رغم محاولات الجهات المدنية المستمرة تنبيه الطرف التركي إلى تداعيات هذه التجاوزات على سمعة تركيا بصفتها مشرفةً على المنطقة وحليفاً ضامناً، في حين رأى آخرون أن تأخُّر صدور الموقف التركي كان بسبب تضارُبٍ في رؤى الجهات التركية المشرفة على المنطقة وسياساتها فيها[41].
ارتدادات على القطاع التعليمي والإنساني:
تعرض القطاع التعليمي -سواءٌ في المرحلة الجامعية أو ما قبل الجامعية- لضربة قوية جراء الاشتباكات الفصائلية، لاسيما وأنه يشهد إشكاليات حادة تتمثل بموجة إضراب واسعة احتجاجاً على ضعف رواتب المعلمين، وإشكاليات في اعتماد المناهج التعليمية، بالإضافة إلى توقف الدعم المقدم لبعض المدارس، وهو ما حرم الطلاب -خاصة في المدارس العامة- من التعليم، وأخّرهم عن مقاعد الدراسة لمدة تزيد عن شهر، جاءت بعدها هذه الاقتتالات لتزيد المشهد تعقيداً[42].
وما كان يُحسب على الأفراد والحاضنة المقيمة في مناطق سيطرة فصيل معين امتد ليشمل جمعيات ومنشآت تعليمية مقامة في مناطق نفوذه؛ حيث كانت هناك محاولات لتصنيف بعض المنشآت التعليمية والجامعات والعاملين فيها ورهنها بفصيل ما لمجرد وجودها في مكان سيطرته[43].
لقد أثّر الاقتتال الفصائلي الأخير في قطاع التعليم، خاصة التعليم الجامعي الذي كان يعاني من ضعف إقبال واضح من قبل الطلاب؛ فقد اندلعت الاشتباكات في الأيام الأخيرة من مرحلة التسجيل، وحرمت الطلاب الذين كانوا ينوون التسجيل من إتمام العملية، كما أنها تسببت في تشريد ونزوح بعض العائلات التي اضطرت لتغيير أماكن سكنها نتيجة تغير مناطق نفوذ الفصائل، خاصة الطلاب الذين كانوا يقيمون في عفرين، وتغيرت أولويات تلك العائلة نحو البحث عن مكان استقرار بدل متابعة تعليم أبنائها، لاسيما مع الموارد المادية المحدودة[44].
ومن جهة أخرى فإن العديد من الطلاب فقدوا فرصتهم في تقديم الامتحان المعياري لبعض الكليات بسبب الاشتباكات وقطع الطرقات التي لم تفتح فوراً بعد الاشتباكات، في حين لم يتمكن كثير من الأساتذة من الحضور أيضاً للسبب ذاته، وقرّرت الجامعات الانتقال إلى التدريس الافتراضي، خاصة في الفروع النظرية[45].
وقد تأثرت الجامعات التي كانت تقع على خطوط ومناطق اشتباك بشكل واضح، وتراجع العديد من الطلاب عن التسجيل؛ لأنهم باتوا يفكّرون جدّياً بالهجرة بعد إحساسهم بعدم الجدوى من البقاء في المنطقة. كما أثّر تغيُّر السيطرة في بعض المناطق على الدعم الذي كانت تقدّمه بعض الفصائل للطلاب؛ فقد أوقفت بعض الفصائل المنح التي كانت تقدمها لطلاب الجامعات، وأوقفت بعض المساهمات التي تقدمها كالباصات التي كانت مخصصة لنقل الطلاب الجامعيين من بعض المناطق البعيدة إلى الجامعات، وذلك إثر خروجها من المنطقة التي توجد فيها تلك الجامعات[46].
كما أن بعض المنظمات والجمعيات العاملة في الشأن الإنساني قد تأثرت أيضاً؛ حيث تعرضت مقراتها ومكاتبها للمداهمة من قبل عناصر “هتش” الذين قاموا بمصادرة التجهيزات ونهب المواد الموجودة وإغلاق المقرات، خاصة المنظمات التي يديرها مهجرون محسوبون مناطقياً على بعض الفصائل، رغم أن هذه المنظمات كانت مقراتها في مناطق أخرى لا يتواجد فيها الفصيل المعني وتقدم خدماتها النوعية للمدنيين دون تمييز[47].
البُعد الاقتصادي أحد العوامل والتداعيات للصراع:
إلى جانب حالة الرعب وعدم الاستقرار تسبّبت الاشتباكات بإشكاليات اقتصادية، لاسيما للعائلات التي تعيش تحت خط الفقر، أو العائلات التي يعمل أفرادها بنظام “المياومة”؛ إذ فقدوا مصدر قوتهم اليومي خلال فترة الاشتباكات، فاضطرت هذه العائلات للاستدانة أو عاشت في حالة عوز وعدم قدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية، كما تضررت العديد من العائلات التي أُرغمت على النزوح من عفرين، حيث كان عليها تحمُّل كلفة الانتقال والنزوح مجدداً والبحث عن منزل جديد، بالإضافة إلى إغلاق أو تضرُّر مشاريع كانوا يتعيّشون منها[48].
وتسبّب الاقتتال الداخلي بحظر تجوال وانقطاع شبه كامل لوسائل المواصلات، فعلق بعض الأفراد والعائلات في مناطق غير مناطق سكنهم، وفي تلك الظروف نشطت عمليات التهريب -أي: نقل العالقين بين مناطق الاشتباك- من قبل بعض عناصر الفصائل بمقابل مادي[49].
ومن جهة أخرى يبدو العامل الاقتصادي أحد العوامل الخفية التي كانت وراء اندلاع الاشتباكات، لاسيما بعد الحديث عن عودة افتتاح معابر نظامية مع مناطق سيطرة نظام الأسد و”قسد”؛ فقد أظهرت حيثيات الاقتتال الفصائلي البعد الاقتصادي للصراع، من خلال تسريبات بمطالبة “هتش” بنسبة من عائدات المعابر وتوسيع دائرة نفوذها داخل المفاصل الاقتصادية والتجارية في المنطقة، وهو ما بدا واضحاً خلال مفاوضاتها مع الفيلق الثالث في منطقة الباسوطة بريف عفرين، والتي جاءت بعد فشل محاولات سابقة قبل الاقتتال لعقد شراكات تجارية مع الجبهة الشامية التي تحالفت لقتالها[50].
كما جاءت معارضة بعض الفصائل دخول “هتش” إلى المنطقة نتيجة دوافع اقتصادية؛ لأن ذلك يعني دخول منافس قوي على الموارد المتاحة، حيث إن وجود “هتش” في منطقة عفرين وسيطرتها عليها يسمح لها بالوصول إلى خطوط تماسّ مشترك مع “قسد”، وإنشاء معابر غير نظامية وإدارة عمليات التهريب معها ومع نُبّل والزهراء؛ ولذا سحبت “هتش” الأرتال العسكرية، وأبقت بعض الجيوب والعناصر التابعين لها في المنطقة[51].
وقد عكست عمليات اقتحام المقرات جانباً من المصالح الاقتصادية والعسكرية والإعلامية للفصائل؛ فقد كانت بمثابة محاولة لتعزيز السلطة والوجود وضرب مكامن قوة الخصم ومصادرة ما يملكه من الذخائر والتجهيزات، ولذا كان اقتحام مقرات الفيلق الثالث أحد أولويات “هتش” وسعت لمصادرة كل ما في مقرات الفيلق الثالث في عفرين وكفر جنة، ومنعت عناصر الفصائل المتحالفة معها كفرقة الحمزة والسلطان شاه من الدخول؛ لأنها رأتها غنائم صافية من نصيبها وحدها، ومن المكاسب الجاهزة التي تسعى إليها بغضّ النظر عن بقائها في المنطقة أو خروجها منها[52]، كما وردت معلومات من الصعب التأكد من صحتها تشير إلى أن فصائل تحالفت مع “هتش” قد دفعت لها مبالغ مالية كبيرة تحفيزاً على التحالف ودخول المنطقة لقتال الفصائل الأخرى[53].
كما أن العامل الاقتصادي كان حاضراً ضمن عوامل الصمود لدى بعض الفصائل؛ فقد كان من أحد الأسباب الرئيسة للقتال والصمود في بعض النقاط الحفاظُ على المصالح الاقتصادية وعلى المشاريع التي أنشأتها الفصائل تحت ستار مدني، حيث إن سقوط بعض المناطق بيد الخصوم كان يعني للفصائل خسارة موارد مالية غير مباشرة تم إنشاؤها واستثمارها لسنوات أكثر مما يعني تغيُّر مناطق النفوذ[54].
حتى لا تتكرر المشكلة:
مما سبق: تظهر الاقتتالات الفصائلية التي باتت مشهداً حاضراً في مناطق ريف حلب الخاضعة للإشراف التركي ضمن العوامل التي تعكس مدى تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية في صياغة علاقات الفاعلين في الاقتتال، وإن كان صورة الصراع بشكله العسكري طاغية على المشهد؛ إلا أن من الضروري الانتباه وتتبع آثاره الاجتماعية والاقتصادية ودراستها، لاسيما وأن لها تأثيرات ملاحظة في إعادة صياغة الروابط المجتمعية وفق اعتبارات جديدة، وأن لها تداعيات واضحة تنعكس على المدنيين بشكل خاص لا يمكن تجاهلها أو التقليل من آثارها.
ويُعد الأمن مسؤولية الجهات المسيطرة بالدرجة الأولى؛ إلا أن ذلك لا ينفي مسؤولية القيادات المجتمعية في تبيان الحق والقيام بعملية إصلاح مجتمعي بالدرجة الثانية، ومسؤولية المجتمع بكامل شرائحه وواجبه في التحرك والتدخل والضغط، لاسيما عند ضعف الجهات والمؤسسات الرسمية عن القيام بواجبها، ويُتوقع من كل شرائح السوريين -داخل سوريا وخارجها- السعي الحثيث لإصلاح الواقع وتحسينه بكل الطرق والأدوات الممكنة؛ كلٌّ حسب اختصاصه ودائرته، سياسيين كانوا أم إداريين أم ناشطين أم قيادات مجتمعية[55].
وإلى جانب ذلك من الضروري أن تقوم المنظمات والمراكز البحثية والمختصون بالتوقف أمام المشهد واستنباط الدروس، والسعي والضغط من أجل إيجاد تصور واقعي قادر على ضبط الوجود الفصائلي – باستثناء البغاة والمفسدين – ضمن جسم حقيقي، وإعادة صياغة الروابط بين أفراده وفق منطلق وطني يعبّر عن تطلعات الحاضنة، وتحديد أدوار هذا الجسم العسكري ومنعه من ممارسة أدوار أوسع تُعد من مهام هيئات أخرى.
ولعل تعزيز قوة الشرطة المدنية ونفوذها، ودعم استقلال المنظومة القضائية، والعمل على ملاحقة الانتهاكات والجرائم وتقديمها للعدالة بشكل واضح من شأنه نزع فتيل أي توتر مجتمعي، وتشكيل عامل ردع يمنع استغلال أي أحد لسلطته لتحقيق مكاسب شخصية، ويعزّز من بنية مؤسسات الدولة الناشئة ومن مرجعيتها الإدارية، وقدرتها على المحاسبة والـمُساءلة، ويحقق مبادئ العدالة والحرية والكرامة والمحاسبة التي كانت من مطالب الثوار السوريين التي قدموا لأجلها الكثير من التضحيات، والذي ينطلق من بناء منظومة إدارية ناجحة تحقق ما تتطلع إليه حاضنة الثورة من الحكم الرشيد الذي يحترم الحريات ويحمي كرامة المواطنين ويسعى إلى نشر العدالة والأمن[56].
لمشاركة التقرير:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة