عام من الصمود … كيف أتمّ اتفاق موسكو عامه الأول دون أن ينهار؟
ورقة تحليلية
مقدمة:
بدأت الحملة العسكرية الأخيرة التي شنَّتها قوات نظام الأسد والميلشيات الداعمة له تحت الغطاء الجوي الروسي على محافظة إدلب شمال غرب سوريا أواخر عام 2019م، واستمرت حتى 5 مارس من عام 2020م؛ حين وقَّع الطرفان الروسي والتركي اتفاقاً يقضي بوقف إطلاق النار وإنشاء منطقة آمنة على طرفَي الطريق الدولي “M4” والبدء بتسيير دوريات روسية-تركية مشتركة عليه بدءاً من منتصف آذار/ مارس من العام نفسه[1].
كان هذا التفاهم “الهشّ” -حسب وصف كثير من المراقبين[2]– نهايةً لواحدة من أعنف الحملات العسكرية التي شنَّتها قوات نظام الأسد والمليشيات الداعمة له تحت الغطاء الجوي الروسي، وقد أشارت بنوده المقتضبة وابتعاده عن الخوض في التفاصيل الدقيقة إلى طبيعة كونه اتفاقاً بُني على عجل؛ يرمي إلى الحد من انزلاق الأوضاع العسكرية المتأزمة وتحوُّلها إلى حرب مفتوحة بين الطرفَين، خصوصاً بعد إطلاق القوات التركية عملية “درع الربيع”[3]، والتي استهدفت فيها عشرات المواقع التابعة لنظام الأسد في محافظة إدلب وكبدته خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، وأسهمت في الحد من تقدُّمه العسكري في المنطقة، وذلك بعد تعرُّض نقطة عسكرية تركية إلى قصف جوي أدى إلى سقوط عدد من الجنود الأتراك[4].
ويبدو أن عدداً من العوامل المركبة أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في الصمود النسبي لهذا الاتفاق والحفاظ عليه على غير العادة، على الرغم من الخروقات والتصعيدات العسكرية المتكررة التي أشعرت الكثيرين بقرب انهياره[5]، ولاحتوائه كذلك على الأسباب الموضوعية ذاتها التي أدت إلى انهيار التفاهمات السابقة بين الطرفين في إدلب[6]، وكان يُتعامَل معها بمبدأ الترحيل وتأجيل النقاش حولها إلى جولات أخرى من المفاوضات.
وقد خلَّفت تلك العمليات العسكرية وراءها واحدة من أكبر موجات النزوح في سوريا منذ العام 2011؛ حيث اضطر مئات الآلاف من السوريين إلى ترك مدنهم وقراهم هرباً من عمليات القصف والتدمير الممنهج التي شنَّها الطيران الروسي جوّاً، وعمليات القتل العشوائي التي نفّذته مليشيات وقوات نظام الأسد برّاً[7]. كما أسهمت في إضعاف فصائل المعارضة المسلحة واستنزافها إلى حدّ كبير؛ فقد خسرت جرّاء المعارك المتواصلة على مدى شهور عدداً كبيراً من المقاتلين، وتقلصت مساحة سيطرتها إلى مستويات غير مسبوقة بعد قضم نظام الأسد لمساحات واسعة ومدن استراتيجية.
وبناءً على ما سبق تبرز أهمية البحث في طبيعة العوامل التي أدت إلى الصمود النسبي لوقف إطلاق النار حتى هذا اليوم، وللدفع في اتجاه استدامته على المدى المتوسط في انتظار الوصول إلى التسويات النهائية بين الأطراف الكبرى، وذلك بهدف إيقاف الاستنزاف الإنساني الهائل، وإطالة فترة الهدوء والتقاط الأنفاس في محاولة لتأمين القَدْر الأدنى من الاستحقاقات والمكاسب لقوى الثورة والمعارضة ضمن التسويات النهائية للقضية السورية.
تسعى هذه الورقة إلى محاولة استقصاء العوامل التي رسخت التهدئة حتى الآن، وصولاً إلى محاولة استشراف مآل هذا الاتفاق، ومصير المناطق الواقعة تحت سيطرة قوى الثورة والمعارضة والنفوذ التركي.
إدلب؛ اتفاقات متكررة ولا ثابت إلا الصراع:
منذ مؤتمر “أستانا4” عام 2017م وتوقيع اتفاق “خفض التصعيد” بين الدول الراعية لمسار أستانا، روسيا وتركيا وإيران، شهدت محافظة إدلب جولات متتالية من الحملات العسكرية رغم وجود فترات متقطعة من الهدوء النسبي، ومع انتهاء نظام الأسد وحلفائه من استعادة السيطرة على المناطق المحاصرة في ريف حمص وريف دمشق، وتكراره سيناريو التهجير الممنهج لمعارضيه وعوائلهم نحو الشمال السوري؛ توجهت أنظار الفرقاء الثلاثة نحو محافظة إدلب، وبدأت قوات نظام الأسد وحلفائه بالتحشيد على أطراف أرياف حماة الشمالية وأرياف إدلب، في تصعيدٍ جديدٍ دفعَ رؤساء الدول الضامنة إلى الجلوس على طاولة المفاوضات في طهران[8].
لا يُخفي نظام الأسد ولا داعموه رغبتهم المستمرة باستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، كما لا يتوانى الروس والإيرانيون في دعم حليفهم وقواته على الأرض في تنفيذ هذه الرغبة[9]، ولكنّ تركيا أعلنت من جهتها في مناسبات متعددة عن الأهمية الإستراتيجية لمحافظة إدلب بالنسبة إليها، وضرورة تجنُّب إراقة الدماء وعدم التسبب بمأساة إنسانية كبرى[10]، وبين هذه المواقف المتباينة رزحت المحافظة تحت شبح المعارك وموجات النزوح خوفاً من اشتعالها وهرباً من القصف الجوي.
نجحت الجهود الدبلوماسية التركية في الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار مع روسيا تم توقيعه في “سوتشي” منتصف أيلول 2018م، كرَّس اتفاق منطقة خفض التصعيد، ونصَّ على إقامة منطقة منزوعة السلاح على خطوط التماس، تتولى أنقرة فيها إفراغها من الجماعات المتطرفة والأسلحة الثقيلة، كما أكد ضرورة فتح الطريقين الدوليين “M4” و “M5” ومحاربة “الإرهاب”[11]، تلا هذا الاتفاقَ لقاءٌ رباعيٌّ في إسطنبول شدَّد على أهمية استدامة وقف إطلاق النار والاستمرار بأعمال “اللجنة الدستورية” التي دعت إليها موسكو بشدة[12].
استطاع هذا الاتفاق أن ينزع فتيل المعارك مؤقتاً مع بقاء حالة الخروقات المتنوعة والهجمات الجوية، وقد اتخذت موسكو من قضية وجود التنظيمات المصنفة إرهابياً ذريعة مستمرة لنقض اتفاقاتها المبرمة مع أنقرة، وفتح المجال أمام قوات الأسد لشنّ الهجمات العسكرية لاستعادة السيطرة على المنطقة، على الرغم من انتشار عدد من النقاط التركية وفق اتفاق خفض التصعيد، وكانت الصيغ الفضفاضة الغامضة التي وسمت بنود الاتفاق تعكس حقيقة عدم التوافق بين الأطراف، وهو ما أبقى المجال مفتوحاً لخرق الاتفاق بشكل مستمر من قبل الروس بذريعة عدم التزام تركيا واستمرار وجود “التنظيمات الارهابية” كلما لاحت لها الفرصة مع تغير موازين القوة[13]، لتعود المعارك إلى الاشتعال مرة أخرى منتصف عام 2019م.
لتخسر قوات المعارضة مزيداً من المناطق والمدن، أبرزها خان شيخون[14]، ثم ليتجدد مسلسل قضم المناطق من قبل قوات النظام بعد هدنة قصيرة، ليقضم مناطق ومدناً جديدة مثل معرة النعمان وكفرنبل وسراقب في الحملة الأخيرة[15]، ولتتغير إثر ذلك خريطة السيطرة بشكل كبير، قبيل مرحلة التدخل الحاسم من قبل القوات التركية، الذي أوقف تقدُّم قوات نظام الأسد وثبَّت قواعد جديدة للاشتباك في المنطقة.
وإذا أردنا مما سبق أن نلخص أسباب انهيار الاتفاقات المتكررة في إدلب جازَ لنا القول: إن السبب الأساسي يكمن في عدم الرغبة الحقيقة في الالتزام بها من قبل موسكو، فضلاً عن غياب الاتفاق الحقيقي على أهم القضايا العالقة بين الطرفَين في الوقت الذي تتطلع فيه موسكو لأن تكون صاحبة القرار الأعلى عسكرياً وسياسياً في سوريا، وبالتالي دعم رغبة النظام المعلنة باستعادة السيطرة على كامل سوريا[16]، مما يؤهلها لفرض رؤيتها حول الحلول النهائية للأزمة، و بالطبع تمرر موسكو هذه الرغبة تحت ادعاءات “مكافحة الإرهاب” وحماية مصالحها التي تتعرض للتهديد في سوريا من قبل “الجماعات الإرهابية”[17]، إضافة إلى اتهام أنقرة بعدم الوفاء بتعهداتها حول القضاء على الإرهاب وتفكيك “هيئة تحرير الشام”[18].
في المقابل يبدو أن صانع القرار التركي يميل للاعتقاد أن عملية تفكيك “هيئة تحرير الشام” مكلفة عسكرياً وخطيرة من ناحية المآلات على المنطقة؛ إذ إن إجراءً كهذا قد يتسبب بانفلات الوضع الأمني وتسرُّب عدد كبير من المقاتلين المتشددين مع موجات النزوح واللجوء[19]، يضاف إلى ذلك عدم ثقة الأتراك بنوايا وجدية موسكو في إيقاف الهجمات إذا ما قامت الأولى بتفكيك “هيئة تحرير الشام”، خصوصاً وأن موسكو لا تميز كثيراً بين المعارضة المعتدلة وغير المعتدلة، إضافة إلى دعمها المفتوح لرغبة نظام الأسد باستعادة كامل السيطرة على جميع الأراضي السورية، باستخدام ذريعة وجود “هيئة تحرير الشام” أو بذرائع أخرى.
درع الربيع واتفاق موسكو؛ ما الجديد الذي أطال عُمر التهدئة؟
استمرَّ التوتر الروسي التركي في التصاعد مع اشتداد الحملة العسكرية لقوات نظام الأسد وحلفائه أواخر 2019م وبداية 2020م، وكررت أنقرة تشديدها على ضرورة توقف العمليات العسكرية وإلزام قوات النظام والميليشيات المساندة له بالعودة إلى خطوط اتفاق سوتشي، الأمر الذي لم تستجب له روسيا ولا حلفاؤها؛ مما أدى إلى تفاقم الأوضاع من الناحية العسكرية، وإلى تعزيز الشعور التركي بعدم مبالاة الطرف الروسي لمصالحها في إدلب.
في مواجهة ذلك أدركت أنقرة أنه لابد من إحداث تغييرات في المشهد العسكري تضمن لها مصالحها بعد تعطيل فاعلية نقاطها العسكرية في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الشرقي؛ جرّاء حصارها من قبل قوات نظام الأسد، فبدأت مطلع 2020م بتوجيه أرتال عسكرية إلى مناطق خارج تلك المنصوص عليها ضمن اتفاق سوتشي[20]، وأطلق الرئيس التركي حينها تهديداته لقوات الأسد بضرورة التوقف والتراجع إلى حدود اتفاقية سوتشي، معطياً مهلة مدتها شهر حتى نهاية شباط من العام ذاته[21]، وذلك بعد تعرُّض جنود أتراك لقصف مدفعي من قبل قوات نظام الأسد ردّت عليه تركيا باستهداف مباشر لمواقع نظام الأسد في أكثر من موقع؛ معلنةً بذلك تغيير قواعد الاشتباك وعزمها مهاجمة قواته بشكل أكبر إذا تعرض جنودها للخطر[22]، طالبةً من موسكو عدم الحيلولة بينها وبين قوات الأسد[23].
مع تصاعد العمليات واستمرار التقدم من قبل قوات نظام الأسد كثَّفت تركيا إرسال الأرتال العسكرية إلى نقاط جديدة على حدود التماس، ثم انفجر الوضع بعد تعرُّض قوات تركية للقصف في جبل الزاوية سقط على إثرها العديد من الجنود الأتراك[24]، فسارعت موسكو إثر ذلك إلى تبربر الهجمات مجدداً[25]، لتقوم تركيا بنفي التصريحات الروسية وإطلاق عملية درع الربيع؛ التي كبّدت قوات النظام والميلشيات المساندة له خسائر كبيرة في العتاد والأرواح، وأنذرت بتفجُّر الأوضاع بين روسيا وتركيا، مما دفع البلدين إلى توقيع مذكرة موسكو التي جمَّدت خيار الحسم العسكري، وفرضت هدنة ما تزال قائمة حتى اليوم.
أعلن الطرفان الروسي والتركي عزمهما على إنفاذ الاتفاق، وقاما بتسيير أول دورية مشتركة في 15 آذار/ مارس[26]رغم غياب الاتفاق حول المسائل التفصيلية على الأرض؛ في إشارةٍ لجدّية الطرفَين في ضرورة الالتزام بوقف إطلاق النار، وعلى الرغم من توقف الدوريات المشتركة لاحقاً، وزيادة التصعيد الروسي من خلال الغارات الجوية. يمكن القول: إن عوامل موضوعية معينة كرّست منع اجتياح جديد لقوات نظام الأسد بدعم روسي، أبرزها:
1) تغيُّر ميزان القوى وقواعد الاشتباك بعد التدخل التركي المباشر إلى جانب المعارضة:
لم تكن العمليات العسكرية للقوات التركية ضد قوات نظام الأسد وحلفائه مجرد ردود بسيطة بعد تعرُّض جنودها للخطر والقتل؛ فقد مثَّل هذا التحوُّل العسكري فاتحةً لتبدُّل في قواعد الاشتباك وإيذاناً ببدء مرحلة جديدة من مراحل الصراع في إدلب شمال سوريا، وهو ما تمثل في الإعلان بشكل رسمي عن عملية درع الربيع ضد قوات نظام الأسد، وكان لافتاً النشاط الواضح للطائرات التركية المسيرة في إضعاف قوات النظام على الأرض[27]، وقد أسهمت القوات التركية على الأرض كذلك في عميات القصف والتمهيد لاقتحام عناصر المعارضة بعض المناطق المهمة التي خسرتها[28].
هذا الدخول الصريح في المعارك مع قوات النظام رافقه كذلك دعم لقوات المعارضة ببعض الأسلحة النوعية، مثل مضادات الطائرات المحمولة على الكتف، والتي أسفرت بدورها عن إسقاط عدد من الطائرات والمروحيات التابعة لنظام الأسد. وفي تطوُّرٍ لافتٍ يشبه “إعلان الحرب” قامت وزارة الدفاع التركية بتبنّي إسقاط هذه الطائرات[29]، وقامت “وكالة الأناضول” الرسمية التابعة للحكومة التركية أيضاً بإطلاق وصف “المجموعات الإرهابية”[30] على الميليشيات الإيرانية الداعمة لقوات النظام، مما يدل على التغيُّر الحادّ في الموقف تجاه قوات النظام وحلفائه.
ورغم التكهنات العديدة جرّاء قيام تركيا لاحقاً بسحب نقاطها العسكرية التي كانت واقعة ضمن نفوذ قوات النظام في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي[31]؛ فإنه بدا تقويةً للنقاط التركية الأخرى الواقعة على حدود التماس مع قوات النظام كخطوط دفاع. وبعد هدوء المعارك وبدء سريان وقف إطلاق النار عزّزت أنقرة من وجودها العسكري وخطوط الدفاع في إدلب، وكذلك حرصت تركيا على اجتماع قوات المعارضة المسلحة ضمن ألوية عسكرية منظَّمة تحت قيادة مجلس عسكري[32]، لتسهيل عملية التنظيم والمقاومة في حال استئناف العمليات العسكرية من قبل قوات النظام، ولم تستثنِ منه أحداً من الفاعلين وأصحاب النفوذ على الأرض في إدلب، ودون هيمنة فريق بعينه[33].
كل التطورات العسكرية السابقة تلقي بظلالها مباشرة على أي قرار روسي محتمل لاستئناف العمليات العسكرية مجدداً في إدلب، وتفرض معادلة جديدة على الأرض تدرك معها روسيا وقوات النظام أن التكلفة العسكرية والسياسية لأي هجوم قادم لن تكون كسابقاته، وبالتأكيد لا تروق التفاهمات الروسية التركية بعد مذكرة موسكو للنظام وحلفائه من الميلشيات الإيرانية؛ إلا أنهم يعلمون مغبّة الإقدام على شنّ هجوم جديد بشكل منفرد بعيداً عن التغطية الجوية الروسية[34]، أو مع التدخل الجوي التركي إلى جانب قوات المعارضة[35].
من جانبها تدرك روسيا أيضاً ارتفاع التكلفة العسكرية لأي عمل محتمل قائم في إدلب؛ لذلك تحاول الضغط الآن من خلال بعض الأوراق التي تملكها، مثل ابتزاز الحكومة التركية بملف “هيئة تحرير الشام” والجماعات المتطرفة الأخرى، أو عن طريق رفع عتبة التصعيد العسكري بشكل جزئي من خلال الغارات الجوية لتقوية فرص التفاوض، أو حتى المضايقات المباشرة للنقاط التركية كما فعلت مع تلك التي كانت محاصرة من قبل قوات النظام. ولكن روسيا ستجد صعوبة كبيرة فيما يتعلق بالذهاب نحو خيار الحسم العسكري، وقد تضطر إلى نشر قوات برية تقليدية والمشاركة في القتال بشكل مباشر إذا ما أرادت خلط الأوراق وتحييد القوات التركية عن المشاركة في عملية الدفاع عن إدلب، أو الانزلاق نحو مواجهة شاملة بين الطرفين[36].
2) الرغبة الروسية بعدم التصعيد العنيف مع تركيا:
إلى جانب ملفات أخرى في سوريا[37]وخارجها أيضاً، يبدو أن روسيا تعوّل على التفاهم مع الطرف التركي منذ بدء التقارب بُعيد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وتعتبر روسيا الحكومة التركية الضامن الرئيسي لقوى الثورة والمعارضة في مسار اللجنة الدستورية وتستطيع التأثير والضغط عليها، وبالنسبة لروسيا فإن مسار اللجنة الدستورية يمثّل مكسباً إستراتيجياً مهماً تسعى للحفاظ عليه وقطف ثماره، وهي بحاجة إلى الشريك التركي فيه؛ مما يدفعها لمراعاة نسبية لمصالح الأتراك.
وفي سياق العلاقات الروسية التركية كذلك فإن العام الماضي شهد توترات بين الطرفين خارج الملف السوري، في كل من ليبيا وفي الصراع على إقليم “قره باغ” بين أرمينيا وأذربيجان، لم يخلُ من رسائل متبادلة وجَّهها الطرفان في مناسبات مختلفة؛ فقد أوقف الدعم التركي لحكومة الوفاق في ليبيا تقدم قوات حفتر، ثم أسهم بعد ذلك في تحرير قاعدة الوطية وتكبيد قوات “حفتر” خسائر كبيرة أوقفت العمليات القتالية، وأجلست الجميع إلى طاولة المفاوضات.
وفي “قره باغ” شكَّل الدعم التركي الكبير لحكومة أذربيجان عاملاً مهماً في تحقيق نصر عسكري وسياسي على حساب أرمينيا، ولم يهدد هذا النصر مجال المصالح الإستراتيجية الخاصة بروسيا بطبيعة الحال؛ إلا أنه فرض اختراقاً تركياً في المشهدَين اضطرت روسيا للاعتراف به. من جهتها كانت روسيا توجّه الرسائل التي تريد إيصالها للحكومة التركية عبر الضغط في ملف إدلب السورية، ولعل أبرز الأمثلة على هذه الرسائل الروسية تجسّد في عملية قصف مواقع تابعة “لفيلق الشام” التابع لفصائل “الجيش الوطني” الذي تشرف عليه تركيا بشكل مباشر[38].
ضمن هذه المقاربات العسكرية والسياسية، سواءٌ داخل سوريا أو خارجها، تحرص روسيا على المحافظة على علاقة معقولة مع أنقرة تضمن لها تحقيق المكاسب الاستراتيجية، دون التصادم المباشر معها، وفي الوقت ذاته الذي تستخدم فيه أدوات الضغط ضد تركيا؛ ويبدو أن توقف المعارك في أذربيجان والهدوء النسبي في ليبيا قد ألقيا بظلالهما على الوضع في إدلب.
3) عقوبات “قيصر” وصعود داعش وتوتر العلاقة مع قسد … ازدياد التحديات المنهكة للنظام:
يتوقف قرار استئناف العمليات العسكرية في إدلب مجدداً على القرار الروسي بشكل أساسي[39]؛ ومع ذلك فإن العوامل الميدانية والاقتصادية والانشغال بالتحديات الداخلية المختلفة تشكل عوائق بالنسبة لقوات النظام وميلشياته، وتنقص من جاهزيته العسكرية وقدرته على استئناف العمليات مجدداً حتى مع الغطاء الجوي الروسي، فضلاً عن أن يكون من دونه، مع ضغط نظام الأسد على موسكو لتنفيذ أجنداته[40].
وفي الحملة العسكرية الأخيرة تكبدت قوات النظام وحلفائه خسائر كبيرة بسبب التدخل العسكري التركي المباشر؛ حتى وإن نفت منابره الإعلامية ذلك[41]، لكنّ توقُّف المعارك العسكرية لم ينهِ تحديات النظام الأمنية والعسكرية أو نزيفه الاقتصادي؛ فقد شهدت الفترة السابقة وجود العديد من العوامل التي زادت من إضعاف بنية نظام الأسد ومؤسساته، مثل الآثار السياسية والاقتصادية لقانون العقوبات الأمريكية “قانون قيصر”، والتهديدات الأمنية جرّاء الصعود الجديد لخلايا “تنظيم الدولة” في البادية السورية، وأخيراً التوترات مع “قسد” في مناطق شرق الفرات.
في الوقت الذي كانت فيه المعارك على أشدّها في محافظة إدلب كانت الليرة السورية تسجل تدهوراً قياسياً في قيمتها لتسجل أرقاماً غير مسبوقة منتصف العام الماضي[42]، كما شهدت بنية النظام العميقة تصدعات كبيرة، تمثلت في الخلاف الحادّ الذي برز إلى العلن بين “رامي مخلوف” -واجهة النظام الاقتصادية- وأطراف أخرى في النظام كالتي تمثلها “أسماء الأسد”، وأظهر هذا الخلاف مأزق النظام الاقتصادي والصراعات الداخلية التي تحرّكها قوى دولية بحسب بعض المحللين[43]، إضافة إلى ذلك كانت آثار قانون العقوبات الأمريكية “قيصر” تلقي بظلالها على المشهد السوري، مما كرَّس حالة الضعف الشديد وتضييق الخناق على موارد قوات النظام المالية، وبذلك يكون من الصعب الفصل بين الواقع الاقتصادي المتقهقر الذي يمرّ به النظام وقدرته على شنّ حملات عسكرية جديدة تحتاج إلى دعم مالي وموارد مختلفة.
وفي البادية السورية مثّلت عودة العمليات العسكرية الخاطفة بأسلوب حرب العصابات التي شنّتها خلايا داعش تحدّياً جديداً في سوريا[44]، لم تكن الخسائر التي تعرضت لها أرتال النظام وميليشياته مُنهِكة لكاهل نظام الأسد فحسب رغم تصاعد معدلاتها[45]، بل وجَّهت كذلك من جهة أخرى ضربة قوية لسيناريو فرض الأمن وانتهاء الحرب التي تروّج له موسكو كواحد من أكبر انتصاراتها[46]، تمهيداً لعودة اللاجئين وقطف ثمار عقود إعادة الإعمار.
حاول نظام الأسد مستعيناً بسلاح الجو الروسي القيام بعدد من حملات التمشيط والقصف ضد معاقل خلايا تنظيم داعش في البادية لإيقاف نشاطها والقضاء عليها[47]؛ إلا أن تكتيكات التنظيم الجديدة وابتعاده عن أسلوب السيطرة على المدن والتمدد فيها حدّت من فاعلية حملات النظام وروسيا، وحافظت على وتيرة عملياته المتصاعدة، مما شكّل تهديداً أمنياً وعسكرياً حقيقياً تعاني منه قوات النظام وميليشياته، وقد يجرّه أيضاً إلى سحب قواته التي ترابط على بوابات إدلب باتجاه البادية، والتفرغ لعملية تطهير جيوب التنظيم هناك[48]، مما يعني تأجيلاً محتملاً لخيار الحسم العسكري في إدلب[49].
وفي سياق منفصل لا يبدو أن الجهود الروسية فعّالة في رأب الصدع بين النظام السوري و”قسد” وإيقاف التوترات بينهما، وشهدت نهايات عام 2020م ومطلع العام الحالي تصاعداً في التوترات بين الطرفين أفضت إلى قيام “قسد” بمحاصرة المربع الأمني لنظام الأسد في مدينة القامشلي للضغط عليه بعد فشل الوساطات الروسية بين الطرفين[50]. وتؤدي هذه التوترات بالمحصلة إلى انشغال نسبي لنظام الأسد وروسيا بعملية الصراع الدائرة هناك[51]، خاصة أن “قسد” هي المصدر الأساسي لمناطق النظام السوري من الموارد النفطية التي تعاني شحّاً فيها، سواء بسبب التوترات مع “قسد” أو بسبب قيام “داعش” بمهاجمة القوافل التي تنقل النفط إلى مناطق النظام السوري، ويضاف إلى ذلك تأثير أزمة كوفيد 19.
مع ذلك لا يمكن إغفال استمرار التصعيد الروسي بالقصف الجوي والخروقات المتعددة لقوات النظام؛ وهو ما يُنبئ باستمرار المحرّكات ذاتها التي أدت إلى انهيار الاتفاقات السابقة، وهنا لابد من وقفة مع أحد أبرز الذرائع التي تتذرع بها موسكو عند تجديد حملاتها، وهي معضلة “الإرهاب” ووجود “هيئة تحرير الشام”.
معضلة الإرهاب و”هيئة تحرير الشام”:
مثَّلَ وجود “هيئة تحرير الشام: هتش” -فرع القاعدة في سوريا سابقاً- و”الجماعات الجهادية” الأخرى المرتبطة بالقاعدة مثل “حرّاس الدين” وغيرهم من “الجهاديين” الذريعة الروسية الأولى لفتح المزيد من العمليات العسكرية على محافظة إدلب، ومنذ اتفاق خفض التصعيد 2017م ثم سوتشي 2018م كانت الاتفاقات تستثني بشكل مباشر “هيئة تحرير الشام” و”الجماعات الجهادية” الأخرى، ليشكل هذا الاستثناء البوابة التي تنقض منها تلك الاتفاقات[52].
بدأت مسيرة “التحولات” التي خاضتها “هتش” منذ إعلان انفصالها عن القاعدة، ثم التحالف مع فصائل محلية، والانتقال بعد ذلك إلى مساحة الحوكمة والإدارة عبر بوابة “حكومة الإنقاذ”، في أثناء ذلك أظهرت “هتش” تخلّيها عن أدبيات مؤسسة لعقلية “الجهاد العالمي”، وأظهرت انقلاباً على بعض رموزه[53]؛ الأمر الذي انعكس على تغيرات في الخطاب والسلوك والشكل[54].
تم التعبير عن هذه التوجهات الجديدة نحو الانفتاح الخارجي والانتقال إلى شكل “الفصيل الإسلامي المحلي” بطرق مختلفة؛ فقد عبّر عنها من ناحية الخطاب الإعلامي – من خلال منابر غربية وعالمية – قائدها “أبو محمد الجولاني”[55]، وكذلك شرعيها العام “أبو عبد الله الشامي”[56]، إضافة إلى التغير في شكل ومضمون البيانات الرسمية التي تصدر عنها في التعليق على حوادث مختلفة[57].
ويرى البعض أن السلوك الأهم الذي دلّل على التغيرات التي طرأت على سلوك “هيئة تحرير الشام” برز في توجهاتها نحو قتال وتفكيك “رفقاء الأمس” من “الجهاديين” المنتمين إلى القاعدة[58]، وجاءت هذه التوجهات ترجمةً لامتثال “هتش” للتفاهمات الروسية الإيرانية بعد مذكرة موسكو، وتأكيداً لرغبتها في التموضع بصفة الشريك الأمثل القادر على ضبط الأوضاع وتنفيذ الاتفاقيات وضمان المصالح الإقليمية في إدلب، ضمن مساعيها للخروج من “قائمة الإرهاب” وحجز مقعد في مسار الحل السياسي في سوريا.
لا تهتم موسكو كثيراً بهذا السلوك الجديد الذي تبديه “هيئة تحرير الشام”، وتستمر في حملتها الدعائية التي تلصق تهمة الإرهاب بها، في اتهامات متكررة باستهداف قاعدة “حميميم الجوية” وتنفيذ هجمات كيماوية، ومؤخراً اتهمتها بتدريب مقاتلين وإرسالهم لتنفيذ عمليات هجومية داخل الاتحاد الروسي[59].
عملياً على الأرض تتعاون “هتش” مع الدوريات التركية – الروسية، وتقدم نفسها كضامن محلي لحفظ الأمن وكبح جماح “الجهاديين” الذين انفرط عقدهم في إدلب.
ورغم الجدل الحاصل حول براغماتية وتكتيكية التغيرات التي تقوم بها “هتش”؛ إلا أن دراسات أكاديمية و قنوات خلفية لجهات دولية باتت تتحدث عن جدّية هذه التحولات[60]، وعن إمكانية اختبارها من قبل الأطراف الدولية إذا ما قبلت تنفيذ بعض الأمور؛ مثل استبدال بعض الرموز المتشددة وإبعادها، والالتزام بالعمل المسلح داخل الحدود المحلية، والانفتاح على المؤسسات المدنية وغيرها من الشروط[61]، وذلك فيما إذا أرادت هذه الدول تجنب مأساة إنسانية جديدة في إدلب؛ إذ إن رفع التصنيف عن “هتش” وإدراجها ضمن مسارات الحل السياسي في سوريا[62] بعد التأكد من صدق تحولها يسهم في دوام وقف إطلاق النار، وسحب الذرائع التي تتذرع بها روسيا لمهاجمة المنطقة[63].
خاتمة:
شكّل الوجود العسكري التركي في إدلب مع إرساء قواعد اشتباك عملية “درع الربيع” عاملاً أساسياً في الاستمرار النسبي لوقف إطلاق النار، ورادعاً مهماً ضد قوات نظام الأسد وداعميه الروس، كما تمثل عوامل التفاهم الروسية التركية داخل سوريا وخارجها عوامل مهمة في استمرار وقف إطلاق النار؛ حيث تنعكس التوترات في الملفات المختلفة على التصعيد في إدلب، بما يتسق في الوقت ذاته مع الرغبة الروسية في اجتذاب تركيا إليها وعدم التصادم المباشر معها، إلى جانب العوامل الأخرى المختلفة الأقل تأثيراً، كالتضييق الحاصل على النظام السوري بسبب العقوبات وهجمات تنظيم داعش في البادية.
مع ذلك يستمر وجود العوامل ذاتها التي أجهضت الاتفاقات السابقة، ومنها ملفات “هيئة تحرير الشام” والإرهاب، وهي الملفات التي تتذرع بها روسيا بشكل دائم؛ لذلك تبدو فرصة استمرار الاتفاق رغم التصعيد الجوي الروسي مرجَّحة في مسار قلق ما لم تطرأ تغيرات كبيرة على محرّكات العلاقات الروسية التركية في الملف السوري أو غيره من الملفات، خاصة مع الإشارات الأولية التي أبدتها إدارة بايدن من رغبتها في التعاون مع تركيا في الملف السوري[64]، وإحياء الخارجية الأمريكية ذكرى الجنود الأتراك[65]؛ مما يؤشر لإمكانية تطوير التنسيق التركي الأمريكي في ملف إدلب والشمال السوري عموماً. ومع ذلك يبقى احتمال تجدُّد الحملات البرية قائماً على المدى الطويل، الأمر الذي يوجب العمل بالوسائل كافة على ردع الروس وقوات نظام الأسد.
ولا يبدو أن قوى الثورة والمعارضة تمتلك الكثير من الأوراق التي من الممكن أن تستثمرها في الدفع باتجاه استمرار وقف إطلاق النار، خاصة فيما يتعلق بالوجود العسكري التركي في إدلب أو التفاهمات الروسية التركية في مختلف الملفات، مع ذلك يمكن لقوى الثورة والمعارضة أن تسهم في تأكيد شرعية الوجود العسكري التركي، مع العمل والضغط لدعمه وتغطيته دولياً، بما يردع روسيا عن اعتبار مناطق النفوذ التركي خاصرة رخوة للتمدد[66]، كما يمكن لقوى الثورة والمعارضة الإسهام البنَّاء بالمشاركة في النقاشات التي بدأت في الأروقة حول التعامل مع ملف “هيئة تحرير الشام”، بحيث تضع قوى الثورة والمعارضة مطالبها وشروطها على الطاولة، بما يؤدي إلى سحب ذريعة موسكو المتعلقة بوجود التنظيمات الإرهابية، ولكن في الوقت نفسه بما يؤدي أيضاً إلى التخلص من ممارسات التطرُّف والإقصاء، وإفساح الفرصة للانتقال إلى ممارسات الحوكمة الرشيدة.
لمشاركة الورقة: https://sydialogue.org/sz1w
لتحميل الورقة (PDF): https://sydialogue.org/mjl1
أمين العاصي، هل تمهد الضربة الروسية لـ “فيلق الشام” لتصعيد في إدلب؟ 28/10/2020، العربي الجديد.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
5 تعليقات