إضاءات على إدارة التنوع في سوريا – في لزوم الوعي الوطني مع المواطنة
الملخص:
تمثّل هذه الورقة محاولةً للإضاءة على واقع التنوع وإدارته وإشكالياته في سوريا، والفرص التي يمكن العمل عليها فيه مستقبلاً، عبر استخدام المنهج الوصفي التحليلي والمنهج المقارن.
إدارةُ التنوعِ في أي مجتمعٍ متنوعٍ قضيةٌ جوهريةٌ في بناء هوية وطنية جامعة؛ إذ إن التنوع يتحول من دونها إلى عاملِ تفتيتٍ من الداخل، وقد نجحت بعض الدول في تحويل تنوعها إلى عامل قوة، كما حصل في التجربتَين الماليزية والكندية اللتَين ركزت عليهما الورقة.
في الحالة السورية لم يكن التنوع العرقي والطائفي والمذهبي تاريخياً في حدّ ذاته عاملاً سلبياً يؤثر في التعايش السلمي بين مختلف المكونات؛ إلا أن عوامل أخرى متعددة أسهمت في إفشال إدارته، يأتي في مقدمتها السياسات التي اتبعتها السلطة الحاكمة؛ بدءاً من الانتداب الفرنسي والسياسات التمييزية التي اتبعها، ثم ليكمل نظام الأسد تدمير هذا التنوع عبر حزمة متعددة من السياسات سياسياً واجتماعياً وثقافياً أدت من حيث النتيجة إلى زيادة الشروخ الاجتماعية بين مختلف المكونات.
جاءت الورقة في سبعة محاور؛ بُحث في الأول والثاني اللذان مثلا إطاراً نظرياً وتمهيدياً للموضوع، أدوات إدارة التنوع التي يمكن اللجوء إليها وسياق تطبيقها في تجربتين هما: التجربة الماليزية والتجربة الكندية؛ فتبيّن اعتماد التجربة الماليزية على أدوات وآليات متعددة في إدارتها للتنوع، إذ ركّزت على أدوات الاستيعاب عبر نموذج الحكم الائتلافي، في حين ظهر أن التجربة الكندية ركّزت بصورة أساسية على الأدوات التي تستهدف المجتمع، كالتعليم وتفعيل المشاركة العامة.
أوضح المحور الثالث واقع التنوع في المجتمع السوري من منظور العلاقة بين المجالَين العام والخاص؛ فكشف عمق الأزمة في مجال التنوع السياسي بصورة خاصة، فقد غابت التعددية السياسية شيئاً فشيئاً من الفضاء العام، في حين أن التنوعات العرقية والدينية كان لها نسبياً هامشٌ يسمح بحريتها في المجال العام، وإن لم يكن يشجع عليها.
تحدث المحور الرابع عن مطالب “الأقليات” السورية؛ فأشار إلى أنها تركز على الهوية أكثر من المطالب المتعلقة بسياسات النظام السياسي المتعلقة بتوزيع الخدمات، وأنها لا تركز على احترام خصوصياتها بقدر ما تركز على محاولة تحصيل تنازلات من “الأغلبية” خصوصاً في مجالي “العروبة والإسلام” اللذين شكلاً المرجعية المكونة للهوية الجماعية السورية تاريخياً.
جاء المحور الخامس ليفصّل في العوامل التي أسهمت في فشل إدارة التنوع السوري، ومن أبرزها: غياب الطابع الوطني الحقيقي عن الدولة، وإشكالية النخب، وضعف المؤسسات الوسيطة، إلى جانب الظروف الخارجية؛ فأوضحت الورقة أن “الوعي الأقلّويّ” الذي ساهمت التدخلات الخارجية في تغذيته وتكريسه قد أسهم بشكل مباشر في دفع “الأغلبية” إلى التفكير بطريقة “أقلّوية” للمساواة مع بقية المكونات “المحاصصة الطائفية عملياً”.
أوضح المحور السادس أن جهود إدارة التنوع التي بذلتها قوى الثورة والمعارضة أقرب إلى الشكلية لأسباب متعددة أهمها: السياق الموضوعي. ومع ذلك فقد حاولت التركيز على الخطاب، وإلى حد ما على أدوات تقاسم السلطة وفق الهامش المتاح لها، مع ضعف واضح فيما يتعلق ببذل مساهمات أكبر في مجال الثقافة العامة التي تركز على الهوية الوطنية داخل المجتمع أكثر من الخطاب النخبوي.
ركز المحور السابع والأخير على الخطوات التي يمكن العمل عليها لإدارة التنوع وطنياً؛ فأكّد أن الشرط اللازم غير الكافي هو تحقيق انتقال سياسي يسهم في التخلص من نظام الأسد المسبب الأبرز لفشل إدارة التنوع، وأنه بعد ذلك يمكن أن تُتاح للمجتمع السوري والنخب السورية مساحة مناسبة لإيجاد حلول فعالة لمشكلة “الأقليات” والطائفية، عبر أدوات منها: التركيز على الثقافة الاجتماعية المشتركة، ومن ثم الانتقال إلى معالجة النصوص القانونية التي كان لها دور سلبي في هذا المجال.
أوصت الدراسة بضرورة توجيه المؤسسات التعليمية والجامعات في الداخل إلى إدراج مواضيع عن التنوع السوري في المناهج، وتشجيع اللاجئين السوريين في مختلف بلاد اللجوء على تشكيل منصات حوارية، وتعزيز فكرة اللامركزية في إدارة التنوع، ودفع منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية للقيام بدورها في مجال تعزيز ثقافة التنوع والتعايش مع الآخر.
مقدمة:
عقب أي “نزاع داخلي” -دون النظر في مسبباته ومظاهره- تتعرض المجتمعات المتنوعة إثنياً وطائفياً وعشائرياً إلى هزّات عنيفة سياسية واجتماعية تُودِي بجزء كبير من الثقة بين مكوناتها؛ هذا إن كانت هذه الثقة قائمة، ليأتي السؤال الأبرز في المراحل الانتقالية أو أثناء هذا النزاع عن الآليات والأدوات المناسبة لاستعادة هذه الثقة واللُّحمة بين المكونات.
برزت مصطلحات كثيرة في الإطار الأكاديمي والتجريبي لمعالجة هذه المظاهر، لعل من أبرزها: مفاهيم إدارة التنوع، وأدوات التعايش السلمي، التي تعددت تطبيقاتها في كثير من الدول كماليزيا والبرازيل والهند ولبنان والعراق.. إلخ؛ لتنجح تارة وتفشل تارة أخرى[1].
يشير المجتمع المتنوع إلى وجود عدة مكونات داخل المجتمع ثقافية وعرقية ودينية وسياسية …إلخ[2]، بما يعنيه ذلك من وجود مجتمع واحد ولكن بأعراق وطوائف وثقافات مختلفة، وهو بذلك يختلف عن المجتمع المتعدد “الذي يتكون من مكونات ثقافية مغلقة تشمل كل منها هوية خاصة، وتتسم بأنها مكونات مغلقة لا تلتقي إلا في السوق ولأغراض اقتصادية غير شخصية”[3].
مثّلت الحالة السورية -نتيجة الصراع الذي يخوضه الشعب السوري ضد الطغمة الحاكمة- حالة واقعية في خصوصيتها من حيث قدرة السلطة على تحويل التعايش السلمي الذي كان قائماً في سوريا إلى بذور للصراع المجتمعي، الأمر الذي أنشأ تحديات كبيرة أمام السوريين لمواجهة تبعات تطور هذا الصراع، وأثار الكثير من الأسئلة والاستفسارات حول أفضل السبل والآليات لمواجهة التدهور الذي أصاب التنوع السوري، خصوصاً بعد عشر سنوات من “النزاع” تعمقت فيه الشروخ بين مختلف المكونات السورية[4].
تسعى الورقة البانورامية هذه للإجابة عن السؤال الآتي: كيف آلَ التنوع السوري بعد عقد من حرب نظام الأسد على الشعب السوري؟
وتتفرع عن هذا السؤال الرئيس عدة أسئلة فرعية:
- هل ثمّة تجارب في إدارة التنوع يمكن الاستفادة منها في السياق السوري؟
- ما هي الإشكاليات التي يعاني منها التنوع السوري؟
- ما هي ماهية المطالب التي تنادي بها بعض المكونات السورية؟ وكيف يمكن تفسيرها؟
- ما هي الأدوات المتاحة لإدارة التنوع السوري بصورة فعّالة؟
- ما هي الوسائل والأدوات التي يمكن لقوى الثورة والمعارضة استخدامها لإدارة التنوع السوري بطريقة إيجابية؟
تبرز أهمية الورقة في أنها تسهم في تحديد أبرز النقاط -سلوكياً وخطابياً- التي تؤثر سلباً في إدارة التنوع السوري، وتحليل تعاطي قوى الثورة والمعارضة معها، بما يُظهر نقاط القوة والضعف، وتقدّم مجموعة من التوصيات التي يمكن أن تنعكس إيجاباً على إدارة التنوع في هذه المرحلة الصعبة من التاريخ السوري.
بما أن هدف الورقة هو تحليل إدارة التنوع في سوريا والوقوف على مظاهرها ونقاط قوتها وضعفها كان اختيار المنهج الوصفي التحليلي، وكذلك اعتُمد المنهج المقارن بما يساعد في الاستفادة من بعض التجارب المقارنة في مجال إدارة التنوع.
تضمنت الورقة سبعة محاور: خُصّص الأول والثاني للحديث عن الإطار النظري والقواعد العامة الخاصة بأدوات إدارة التنوع وبعض التجارب المقارنة، فيما خُصّص الثالث لتوصيف واقع التنوع في المجتمع السوري من منظور الفضاءين العام والخاص، وتناول الرابع والخامس ماهية مطالب “الأقليات” في الحالة السورية وتفسيرات نشوئها، وبحث السادس دور مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، وختم السابع بما يمكن العمل عليه لتعزيز إدارة التنوع على المستوى الوطني السوري.
أولاً: أدوات إدارة التنوع[5]: أدوارٌ مأمولةٌ من السلطة والمجتمع المدني
تتميز مجتمعات دول “الشرق الأوسط” بتنوعها العرقي والديني والطائفي بحكم تعاقب الحضارات عليها، لاسيما في سوريا التي تُعد من أكثر المجتمعات الشرق أوسطية تنوعاً. وعلى الرغم من تزايد الانقسامات وظهور ملامح الصراع الهوياتي داخل بعض الدول لأسباب متعددة؛ إلا أن السمة التعددية التي تستوعب مختلف الأجناس والأعراق والأديان ما تزال السمة الرئيسة لهذه المجتمعات[6].
تشير الأدبيات السياسية إلى وجود عدة أدوات يمكن للمجتمعات والدول اللجوء إليها لتحقيق إدارة التنوع، حيث تُقسم إلى: استيعابية، وقسرية، وآليات تقاسم السلطة، وسياسات عامة[7].
- الآليات الاستيعابية: تركز هذه الآليات على القواسم المشتركة، وذلك عبر السعي لإذابة الخلافات من أجل بناء مجتمع موحد، بحيث يستهدف الاستيعاب إنشاء هوية وطنية مشتركة؛ فالاستيعابُ عادةً يمثل فقدان مجموعة ما جزءاً من هويتها الأصلية -كاعتمادها لغة الأكثرية- لصالح المجموع الأكبر. وتتنوع السياسيات الاستيعابية المتبعة، فمنها: تبنّي لغة رسمية للأكثرية، وبناء نظام قومي تعليمي يتبنى رواية الأكثرية وأفكارها، ومركزية الحكم السياسي، ونظام قضائي بلغة الأكثرية وتراثها القانوني، ونشر ثقافة الأغلبية، وتبنّي سياسات هجرة واستيطان لمصلحة الأغلبية… إلخ.
- آليات تقاسم السلطة: تهدف إلى إرساء التعايش ضمن أطر مؤسساتية تسمح بالحفاظ على الخصوصية لكل مكون؛ لذلك تقوم هذه الآليات أساساً على الاعتراف بالتعددية، وتقوم بمجملها على نوعَين من الأطر والصيغ: التوافقية والتكاملية، وتتمثل آليات تقاسم السلطة في كل من[8]:
- آليات اللامركزية السياسية الفدرالية: تمثل بديلاً عن فكرة الهيمنة والسيطرة؛ فهي تركز – ضمن ما تركز لإعطائها فرصة للنجاح- على الحوار بين الهويات وتقاسم الفرص والثروات بين المكونات، وتتمثل أبرز إيجابيات هذه الآليات في: الاعتراف الدستوري بوجود المكونات، والسماح للأقاليم بإجراء تجاربها الخاصة، ودعم ترابط الأجزاء في العلاقات الخارجية.
- الآليات التوافقية[9]: تركز على مجموعة من الآليات والنظم التي تسمح بتمثيل المكونات في السلطة، من أبرزها: الحكومة الائتلافية الكبيرة التي تضم عادة عدة أحزاب، ونظام التمثيل النسبي بدلاً من الأغلبية، والفيتو المتبادل خاصة في القرارات ذات الأهمية، والإدارة الذاتية للمكونات في الشؤون المحلية (ثقافية واجتماعية واقتصادية)، أي: “الاستقلال القطاعي”.
وُجّه النقد إلى هذه الآليات بوصفها لا تحقق “التعددية السياسية” بسبب إسقاط فكرة “المعارضة الفاعلة”، لعدم خلوّها من مسحة دكتاتورية؛ كما أنها قد تعجز عن تحقيق استقرار سياسي، وتعطي في الوقت نفسه وزناً أكبر لـ “الأقليات” من خلال الفيتو، وقد تؤدي إلى تعايش مؤقت ثم تتفكك الدولة في حال الفشل.
-
- الآليات التكاملية: يطرح أنصار هذه الآليات فكرة “المؤسساتية” أساساً للآليات التكاملية لإدارة التنوع، من خلال ضبط القواعد المؤسسية وتفعيلها، وإدخال نظم سياسية تشجّع على الاعتدال وتسهّل عملية الاتصال وتعزّز الحوار، ويراهنون على أن عمل المؤسسات بالطريقة المثلى سيؤدي إلى زوال الاضطرابات تدريجياً، وأبرز آلياتها: تكوين ائتلافات عابرة للطائفية، ونظام انتخابي يدعم الاعتدال، واللامركزية الإدارية.
على الرغم من التشابه بين هذه الآليات وتلك الاستيعابية (المشار إليها في الفقرة أعلاه) إلا أن الفارق الأساسي هو: تركيز الآليات التكاملية على فكرة “المؤسساتية”؛ أي تحقيق التكامل عبر المؤسسات التي تضم مختلف المكونات، في حين أن الآليات الاستيعابية تشمل الأدوات المؤسساتية وغيرها كقضية اللغة والقوانين.. إلخ.
- الآليات القسرية: تستخدمها بعض الدول، خاصة الشمولية، وتتمثل بعدة آليات منها: هيمنة الدولة عبر استقطاب الولاءات، وتشجيع سياسة فرض اللغة والتعليم والثقافة، وسحق التنوع عسكرياً، والتطهير الإثني عن طريق التهجير والتعديل السكاني، والإبادة بأنواعها الجسدية والثقافية؛ كما هو الحال في روسيا والصين[10].
- آليات السياسات العامة[11]: يُعد نجاح السياسات العامة في تنمية المجتمع ككل وتحقيق الاستقرار لجميع المكونات تعبيراً عن حسن إدارة التنوع، وتنقسم هذه السياسات إلى أربعٍ رئيسةٍ: استخراجية؛ تشير إلى قدرة النظام على تعبئة الموارد كتحصيل الضرائب. وتوزيعية؛ يُقصد بها توزيع القيم سواءٌ المادية أو المعنوية مع مختلف مكونات المجتمع. وتنظيمية؛ تتمثل في رقابة النظام السياسي على سلوك الأفراد والمكونات في المجتمع. إلى جانب سياسات رمزية؛ عبر إنشاء أو استخدام الرموز السياسية التي تدعم الشعور بالمواطنة وتغذي الإحساس بالولاء[12].
شكل (1) يوضح آليات إدارة التنوع
تُظهر الأدبيات التي تم استعراضها وجود فلسفتَين رئيستَين لإدارة التنوع:
الأولى: تقوم على إضعاف الهويات الفرعية لمصلحة هوية جامعة قوية وصلبة، من خلال مسارَين؛ الأول: يركّز على الأدوات الناعمة، وهنا تبرز الآليات الاستيعابية التي تسعى لامتصاص الاختلافات، ولذا يُدافع فيها عن التدريس بلغة واحدة، وتقديم الخدمات على أسس موضوعية، بعيداً عن فكرة المكونات والتوزيع بما يشجع التعايش بدلاً من التمييز تحت شعار هوية وطنية واحدة، وهذا ما يتقاطع مع الآليات الاندماجية نسبياً، وتبرز فرنسا مثالاً على تطبيق هذا النموذج[13]. والثاني: يركّز على الأدوات الخشنة -إن صح التعبير- ذات البُعد الأمني والعسكري، ويصل إلى درجة انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك عبر الآليات القسرية التي تسعى لإلغاء التنوع والحد منه[14].
الثانية: تسعى لتحقيق التناغم بين الهويات المستقلة، مع الحفاظ عليها في ظل إطار جامع من دون إلغاء الخصوصية للمكونات، وهو ما يبرز من خلال نظريات التوافق التي تركز على تجاوز فكرة الأغلبية، وإيجاد التوازن بغضّ النظر عن العدد للمكونات، ونظرية الاندماج عبر السعي لتنظيم الحياة السياسية بشكل دامج للمكونات برؤى برامجية ووطنية من دون السماح بالتكتلات والتعطيل، وفي كلا الحالتين تبرز آلية الفدرالية؛ سواءٌ أكانت على أساس عرقي أو إداري لتقاسم السلطة والنفوذ ومنح الشعور لجميع المكونات بالقدرة على حكم نفسها في إطار وطني جامع، وهو ما يتطلب تبعاً تطبيق آليات السياسات العامة، خصوصاً التوزيعية على مستوى الإنتاج المادي والمعنوي.
كذلك تشير التقسيمات السابقة إلى أن ثمّة تركيزاً في مجال إدارة التنوع على أجهزة الدولة ومؤسساتها والأدوات التي تستخدمها، سواءٌ على المستوى المؤسساتي ممثلاً بالسلطات والمؤسسات أو على المستوى الموضوعي ممثلاً بالقوانين والقرارات؛ ولعل ذلك يعود إلى مستوى الهيمنة الذي وصلت إليه الدولة الحديثة بأجهزتها وبيروقراطيتها[15].
مع ذلك فثمّة توجهات أخرى تشير إلى الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني بمختلف تخصصاتها وأنواعها في مجال إدارة التنوع، عبر قيامها بمجموعة من الإجراءات، منها: إنشاء مؤسسات تُعنى بالتنوع، وتشكيل منصّات للحوار والتواصل.
شكل (2) يبين أبرز أدوات إدارة التنوع[16]
يبين الشكل السابق مدى الارتباط بين موضوع إدارة التنوع والمؤسسات الوسيطة بين الفرد والمجتمع “منظمات المجتمع المدني”؛ حيث إن قلة من هذه الأدوات يدخل في مجال السلطة، مثل “سنّ قوانين تجرم التمييز”[17]، أو يكون مشتركاً بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، مثل: نشر ثقافة التنوع والقبول بالآخر، وإنشاء مؤسسات تُعنى بالتنوع… إلخ، في حين أن أهمها يدخل عادة في مجال نشاط المجتمع المدني، مثل التدريب والتأهيل، وإنشاء المنصات الحوارية، وإنْ دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على أهمية الدور المناط بالمجتمع المدني في إدارة التنوع؛ غير أن ذلك قد لا ينطبق على الواقع في البلاد النامية، بما فيها سوريا؛ نظراً للطابع المركزي للسلطة الذي يسود فيها[18]، ولإحكامها قبضتها على كل الملفات، بما يجعل هامش حركة المؤسسات الوسيطة ضعيفاً أو شبه معدوم[19].
ثانياً: تجارب دولية مقارنة في إدارة التنوع: أدوات مع بعد الانتماء الوطني
يساعد استعراض تجارب بعض الدول في إدارة التنوع على أخذ دروس يُستفاد منها في الحالة السورية، ولعل أبرز التجارب التي يُشار إليها في مجال إدارة التنوع هما: التجربتان الماليزية والكندية.
1- التجربة الماليزية في إدارة التنوع: الاستيعاب عبر الائتلاف
أسهم الوضع الإثني المعقد الذي ورثته ماليزيا بعد الاستقلال -خصوصاً بعد أحداث عام 1969م[20]– في استشعار خطورة الموقف[21]؛ حيث شرع القادة الماليزيون بنظرة في وضع آليات استراتيجية لإدارة هذا التنوع قبل أن يتحول إلى معضلة حقيقية يصعب حلها، لذا لم يعتمد صنّاع القرار في ماليزيا على نموذج واحد، وإنما اتبعوا توليفة مركبة من مجموعة من الآليات التي تتناسب مع الخصوصية الماليزية، وهي[22]:
1- الاستيعاب: حاولت الدولة الماليزية كغيرها من الدول حديثة العهد بالاستقلال تطبيق آلية الاستيعاب في مختلف النواحي الثقافية والمادية والمؤسساتية، إذ كان الهدف منها التخفيف من حدّة الاختلافات بين المكونات الإثنية، ومحاولة تكوين هوية وطنية على المدى المتوسط والبعيد، عبر تطبيق آلية الاستيعاب الثقافي من خلال التعليم بناءً على توصيات تقرير” رزاق”[23]، ومن خلال تفعيل الاحتفالات والطقوس المشتركة، ومن خلال الاستيعاب المؤسسي عبر المؤسسات والتحالفات العابرة للمكونات.
2- تطبيق آليات تقاسم السلطة: عمدت ماليزيا إلى الدمج بين الآليات الثلاث لتقاسم السلطة: الفدرالية، والتوافقية، والتكاملية (الاندماجية)، وذلك على النحو التالي:
- تطبيق آلية اللامركزية السياسية “الفدرالية”: تضم ماليزيا 13 ولاية و3 أقاليم، وقد تم التوافق بين القوى الرئيسة في البلاد على هذه الآلية بسبب تنوع أعراق الشعب الماليزي وتناثره في جزر متباعدة، وانضمام ولايات صباح وسرواك للاتحاد شريطة الحفاظ على حكمهم الذاتي.
وتبعاً لذلك تم إقرار مجموعة مبادئ للنظام الدستوري للبلاد تنص على حكومة مركزية قوية مع ولايات مستقلة ذاتياً، وإنشاء قومية عامة لكل البلاد، وحماية مصالح مكون الملاوي والمجتمعات المحلية في الوقت نفسه، وعبر هذه المبادئ تم إيجاد حالة التوازن لمصالح المكونات الثلاث ىالأغلبية من جهة، وللأقليات في إطار تقاسم للسلطة عبر النظام الفدرالي من جهة أخرى[24]، والذي لم يكن على سوية واحدة؛ حيث مُنحت ولايتا “سباه” و”ساراواك” سلطاتٍ تقع عادةً ضمن نطاق الصّلاحية الفدرالية، بما يُظهر أنّهما متميّزتان إثنياً؛ إذ تمتعت هاتان الولايتان البورنيتان باستقلاليّة أكبر بكثير من الولايات الإحدى عشرة المتبقيّة، في مجالات مثل الضّرائب (خاصة الجمارك والرّسوم)، والهجرة والتّجارة، والنّقل والمواصلات[25].
- تطبيق الآليات التوافقية: اتبعت ماليزيا بعض الأدوات التوافقية لإدارة التنوع، وذلك عبر منح الأغلبية الحق في إدارة الشؤون المحلية من خلال “الفيدرالية” أو ما يُطلق عليه: “الاستقلال القطاعي” في المناطق الشرقية “سارواك وصباح” ذات الأغلبية من المالاي، واعتمدت على المستوى المركزي الفيدرالي آلية الائتلاف الكبير الذي يتيح فرص المشاركة في السلطة لأغلب المكونات المجتمعية في الدولة على أسس عرقية[26].
- تطبيق الآليات التكاملية: عمدت ماليزيا لتطبيق نظام انتخابي تعددي يرتكز على نظام الفائز الأول، مع عدم الاعتماد على آلية الفيتو المتبادل ونظام الحصص بين العرقيات[27]؛ بهدف تجنُّب الابتزاز السياسي، ودعم مسار التنمية وتحقيق الاستقرار. وعمدت إلى تطبيق فدرالية إدارية (الفيدرالية غير الإثنية) في القسم الغربي من ماليزيا، مع قوة الحكومة المركزية فيها، بسبب تقارب الأقاليم وقوة شخصية رئيس الوزراء في عهد مهاتير محمد، وبسبب التداخل الجغرافي فيها بين العرقيات الثلاث (المالاي – الصينيون – الهنود).
3- آليات قسرية: وُضعت قوانين صارمة ضد الأفراد والمكونات التي تحاول تهديد الوحدة الوطنية، منها: قانون الأمن الداخلي الذي يجيز الاحتجاز دون محاكمة أو مذكرة قضائية، والذي أُلغي عام 2011 بسبب الانتقادات لجهة تناقضه مع حقوق الإنسان، وحلّ محلَّه قانون التدابير الخاصة كنسخة معدلة ومخففة، وقانون مكافحة التحريض.
4- آليات السياسة العامة: من خلال سياسات توزيعية وسياسات تنمية اقتصادية جديدة، تهدف لحفظ حقوق الجميع وعلاج الاختلالات، ومن خلال السياسات القومية والسياسات الرمزية التي تجمع كل الشعب من خلال أيديولوجيا قومية تقوم على (الإيمان بالله والإخلاص للملك والدولة وإعلاء الدستور والقانون وثقافة الحوار)[28].
لعل أبرز ما يميز التجربة الماليزية هو اعتمادها على أدوات وآليات متعددة في إدارتها للتنوع؛ فمن أجل تعزيز الهوية الوطنية الجامعة اعتمدت بصورة استثنائية على الآليات القسرية، في حين كان تركيزها الأكبر على أدوات الاستيعاب عبر نموذج الحكم الائتلافي، واعتماد سياسات عامة وتوزيعية وتنموية شاملة لكل المناطق، وأدوات ناعمة في مجال الثقافة والتعليم عبر تكريس الاحتفالات والأعياد المشتركة وإعلاء الرموز الوطنية. أما في مجال الحفاظ على الخصوصيات فكان اعتمادها على الفيدرالية بصورة أساسية ما بين جغرافية في المناطق التي تحتوي عدة مكونات، وعرقية في المناطق التي يغلب عليها أغلبية كبيرة من مكوّن عرقي ما.
إن عوامل المشاركة في السلطة، واحترام الخصوصيات على مستوى العادات والأعياد[29]، إلى جانب عدم التدخل الخارجي، وحتى الخشية من الانزلاق إلى نزاعات داخلية[30]؛ قد شكّلت دافعاً لمختلف المكونات الماليزية -خصوصاً من غير السكان الأصليين “ذوي الأصول الهندية والصينية”- للقبول ببعض الإجراءات التمييزية والاستيعابية لصالح أغلبية الملايو وفق معادلة “ربح-ربح”؛ لأنهم يعلمون أن انفجار الملايو نتيجة الشعور بالظلم والاستغلال سيدمّر كل ما بنوه، ولأن النصيب الذي سيأخذه الملايو سيكون ناتجاً عن عملية التوسع والنمو الاقتصادي، وهو ما يعني أنه ستُتاح الفرصة للصينيين والهنود أيضاً لزيادة ثرواتهم[31].
لا شك أن التجربة لم تكن مثالية تماماً؛ فثمّة العديد من المآخذ عليها بحسب البعض، ومن أبرزها: قوانين التمييز الإيجابي لصالح السكان الأصليين[32]، وهو ما لقي معارضة من قبل بقية المكونات[33]، “بالإضافة للقوانين القسرية التي تحدّ من الحريات، وانتقاد النظام الانتخابي الذي لا يسمح بتمثيل عادل للمكونات الصغيرة”[34].
2- تجربة كندا في إدارة التنوع أولوية الثقافة والتعليم
يُشار عادة إلى أن ملف إدارة التنوع في كندا يمثل سياسة حكومية ناجحة؛ فقد نجحت في تشجيع الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي من خلال وضع جميع الثقافات في مستوى واحد، فعلى الرغم من تنوع الثقافات فيها بحكم أنها بلد يحوي أعلى معدلات الهجرة[35] فهي تقوم بإيجاد قيم مشتركة، وتبنّت التنوع من خلال قانون التعددية الثقافية سياسة رسمية عام 1971م، وهي ترتكز على الاحترام المتبادل بين الكنديين من الخلفيات كافة، ويهدف قانون التعددية الثقافية إلى الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي للمجتمع الكندي، وفي الوقت نفسه دعم فكرة أن التعددية الثقافية بحدّ ذاتها هي ميزة أساسية للتراث والهوية الكندية.
انعكست هذه السياسات الاستراتيجية على مستوى سياسات التعليم من خلال مجموعة إجراءات عملية، من أبرزها: التخطيط الإستراتيجي لإدارة التنوع، وذلك من خلال تصميم نُظم تعليمية تستوعب التنوع بعمومه، مع بعض الاستثناءات بخصوص المدارس الدينية الإسلامية واليهودية[36]، والرقابة لضمان تنفيذ سياسات التنوع، إلى جانب استخدام الفيدرالية كإحدى الآليات لتطبيق مبدأ سيادة القانون وإدارة التنوع، وليس طريقة إجبارية؛ وذلك لمنع تفكك الدولة كما حدث في بعض الدول النامية كالعراق[37]. بمعنى آخر: كانت هنالك رغبة في التعايش المشترك بين المكونات، خصوصاً الإنكليزية والفرنسية، ثم تم التوافق على استخدام الفيدرالية حلاً لتحقيق هذا التعايش. بالإضافة إلى وجود علاقة واضحة بين النجاح في إدارة التنوع في كندا وتكريس حرية إبداء الرأي في الفضاء العام الفعلي والافتراضي[38]، وهو ما ساعد في الالتزام بميثاق التعددية الثقافية وتطبيقه بين مختلف مكونات المجتمع الكندي[39].
نلحظ أن نجاح كندا في إدارة التنوع يعود بصورة أساسية إلى تركيزها على الأدوات الخاصة التي تستهدف المجتمع، كالتعليم وتفعيل المشاركة العامة إلى جانب الأدوات المتعلقة بتقاسم السلطة؛ غير أن الأخيرة أيضاً ناتجة عن ثقافة عامة حريصة على التعايش السلمي المشترك[40]، وهو ما قد يُنبئ بأن نجاح هذه الأدوات مرتبط بصورة أو بأخرى بالقبول المجتمعي[41].
ثالثاً: واقع التنوع في المجتمع السوري: العلاقة بين الفضاءَين العام والخاص
يصف الكتّاب تنوع المكونات التي يتشكل منها المجتمع السوري عادة بأنه “الفسيفساء السورية”[42]، ويفترض أن ينعكس هذا التنوع على المجالين العام والخاص؛ فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا التنوع أن يكون له قبول وتشجيع على مستوى الحياة العامة والخاصة.
يُقصد بالمجال العام في هذا السياق: الفضاء المستقل عن الأجهزة الإدارية للدولة ذات الطبيعة التدخلية والانضباطية، والمستقل كذلك عن السيطرة العائلية وغيرها من أشكال الروابط الأخرى كالقبيلة والعشيرة. وهذا الفضاء هو الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة، والمحكمة وكتابة العرائض، وغيرها من الفضاءات العامة التي تدور فيها النقاشات، وتشمل حالياً الفضاءات الافتراضية التي تحظى بالنقاشات العامة كالغرف الصوتية وفيسبوك وتويتر…إلخ[43].
أما المجال الخاص فهو مجال الأسرة والحياة المنزلية، الذي لا يخضع من الناحية النظرية لتأثير الحكومة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى؛ حيث تقع مسؤولية الفرد على نفسه وتجاه أفراد الأسرة الآخرين، ويمكن أن يتم العمل والتبادل داخل المنزل بطريقة منفصلة عن اقتصاد المجتمع الأكبر، كما يُوصف المجال الخاص بالمرونة والقابلية للاختراق والتطور والتقلب، فضلاً عن أن حدوده مع المجال العام ليست ثابتة[44].
يذهب بعض الكتّاب إلى أن نموذج المجتمع المتنوع يمكن التعرف عليه وفقاً للتمييز بين المجال الخاص والمجال العام، وفي هذا الصدد تظهر أربع احتمالات هي:
- قد يكون مجتمعاً موحداً في المجال العام، ويشجع على الاختلاف في المجال الخاص والأمور المجتمعية.
- قد يكون مجتمعاً موحداً في المجال العام، ومشجعاً على الاتحاد في الممارسات الخاصة أو المجتمعية.
- قد يكون مجتمعاً يسمح بالحق في الاختلاف والتنوع في المجال العام، ويشجع على التنوع في الممارسات الثقافية من قبل المكونات المختلفة.
- قد يكون مجتمعاً لديه حقوق مختلفة ومتنوعة في المجال العام، حتى وإن كان هناك وحدة ملحوظة في الممارسات الثقافية بين المكونات.
المجال العام | المجال الخاص والممارسات الثقافية | |
نموذج1 | موحد | يشجع على التنوع في الممارسات الثقافية |
نموذج2 | موحد | وحدة في المجال الخاص والممارسات الثقافية |
نموذج3 | يسمح بالحق في الاختلاف والتنوع | يشجع على التنوع في الممارسات الثقافية |
نموذج4 | يسمح بالحق في الاختلاف والتنوع | وحدة في المجال الخاص والممارسات الثقافية |
جدول 1 يبين العلاقة بين المجال العام والمجال الخاص
قبل الحديث عن واقع التنوع السوري في العقود الأخيرة لابد من الإشارة إلى أنه بعد انقلاب البعث عام 1963 وإعلان حالة الطوارئ في البلاد لمدة خمسين سنة، ومع قلة النصوص القانونية التي تحكم المجال العام كان لطبيعة السلطة الاستبدادية الحاكمة وأوامرها العرفية الأثر الأكبر في المجالين العام والخاص؛ وذلك لتغوّلها في حياة المجتمع والأفراد، حيث خضع هذان المجالان لتأثيرها بصورة أدت إلى تراجع حضورهما؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كان هنالك تفاوت من قبل السلطة المستبدة في التعاطي مع مجالات التنوع “العرقية والدينية والسياسية”؛ فبينما كانت رقابتها وتأثيرها في المجال السياسي مطلقة كانت هنالك هوامش أكبر في المجال الديني، كما سنبيّن.
في هذا السياق يمكن توصيف واقع التنوع داخل المجتمع السوري من خلال علاقته بالمجالين العام والخاص، بحسب المجالات العرقية والدينية والسياسية وفق ما يلي[45]:
- التنوع العرقي[46]: ظهر التوجه الواضح نحو القومية العربية مع بداية تأسيس الدولة السورية، ليتم تكريس الأمر مع وصول البعث إلى السلطة، وتبنّيه مشروع “القومية العربية” مشروعاً صهرياً ودمجياً لكل قاطني المنطقة، ولينعكس ذلك سلباً على غالبية المكونات العرقية الأخرى غير العربية في ممارسة حقوقها اللغوية والثقافية، خصوصاً في المجال العام[47]. فقد حُرمت غالبيتها من تعلم لغاتها وأحياناً التخاطب بها، والإشارة إلى ثقافاتها ومساهماتها التاريخية في سوريا ضمن المناهج التعليمية، إلى جانب حرمانهم من استخدام لغاتها في أماكن العمل أو الأعياد أو الأعراس[48]، خصوصاً المكون الكردي[49].
غير أن ذلك لم يمنع من معاملة خصوصية لبعض المكونات العرقية، مثل الأرمن والشراكسة الذين كان باستطاعتهم استخدام لغاتهم في الطباعة والكتاب، مع وجود مؤسسات دينية وثقافية تابعة لهم تؤمّن تعليم اللغة القومية، وتقدم خدمات متعددة تهدف إلى الحفاظ على التراث الثقافي الخاص[50].
- التنوع الديني: على الرغم من وجود نصوص دستورية واضحة تنصّ على حرية الشعائر الدينية، واحترام الدولة جميع الأديان[51]، وترافق ذلك بحرية نسبية في المجال الشعائري أتاحت لمختلف المكونات ممارسة شعائرها[52]؛ إلا أن ذلك لم ينعكس على بقية نواحي الفضاء العام؛ كما هو الحال في مجال التعليم الخاص والمجتمع المدني[53]. ففي مجال التعليم الخاص عمل البعث وبعده نظام الأسد على تأميم غالبية المدارس الخاصة بالمكونات الدينية، بما في ذلك الإسلامية، لتصبح ملحقة بالتعليم الرسمي[54]، أما في مجال المجتمع المدني فعمد إلى التضييق على المجتمع المدني ذي الطابع الإسلامي مع فتح المجال للمنظمات المسيحية[55].
- التنوع السياسي: مع انقلاب البعث في آذار عام 1963 أُعلنت حالة الطوارئ وأُغلقت تراخيص الصحف والمطبوعات والمجلات وصُودرت المطابع، لتدخل البلاد مرحلة الإعلام الحكومي المسيطر عليه بعثياً[56]، ولتتم السيطرة تباعاً على مختلف مجالات الفضاء العام السياسي الذي أصبح حكراً على السلطة بشكل مطلق مع وصول آل الأسد إلى السلطة وانفرادهم بالحكم، لتدخل سوريا مرحلة حرجة على مستوى التنوع السياسي؛ إذ حُصر العمل السياسي من خلال حزب البعث الذي أصبح بموجب المادة الثامنة من دستور 1973 قائد الدولة والمجتمع، فأصبح الشعب بأكمله -دستورياً- مجرّداً ليس من الحقوق السياسية فحسب، ولكن من الحقوق المدنية التي تنصّ على المساواة وعدم التمييز بين الأفراد أمام الدولة والقانون أيضاً، وترافق ذلك مع قبضة أمنية وحشية تضبط الحياة الاجتماعية وسلوك الأفراد وتقيد حقوقهم وحرياتهم[57].
لم يقتصر أثر هذه السياسات القمعية على سحق السياسة في المجال العام، إنما امتدّ أثرها إلى المجال الخاص الذي أصبح بيئة تنتشر فيها قصص التحذير من العمل السياسي وممارسة السياسة[58].
يوضح التوصيف السابق لواقع إدارة التنوع عمق الأزمة التي عانى منها في ظل حكم البعث والأسد في مختلف مجالاته[59]؛ ففي مجال التنوع العرقي كانت السياسة التمييزية التي اتبعها نظام الاستبداد تجاه المكونات واضحةً، إذ كان لتبنّيه مشروع “القومية العربية” من ناحية، وتمييز بعض الأقليات العرقية على حساب البعض الآخر من ناحية أخرى أثرٌ ملحوظٌ في تعميق الشروخ العرقية بين المكونات المختلفة؛ من جهة حرمان بعضها -خصوصاً المكون الكردي- من احترام خصوصياته الثقافية واللغوية ضمن الفضاء العام. وعلى صعيد التنوع الديني لم تَحُل إتاحة نظام الاستبداد للحرية النسبية في مجال ممارسة الشعائر الدينية دون تضييقه على بعض المكونات الدينية في مجالي المجتمع المدني والتعليم الخاص اللذين يُفترض أنهما مساحة عامة مناسبة لاحترام الخصوصيات الدينية لكل مكون[60]. أما على الصعيد السياسي فكان الوضع هو الأسوأ؛ فلم يقتصر سحق التنوع على المجال العام فحسب، إنما كان الأمر يصل إلى مستوى المجال الخاص الذي توحّد بالإكراه والجبر حول توجهات حزب البعث السياسية التي أضحت السائدة في المجتمع السوري.
على الرغم من التنوع السوري في مختلف المجالات العرقية والدينية والسياسية فإن طبيعة النظام السياسي الذي تأسس بعد حقبة البعث، وقام على فكرة تغول السلطة وأحادية الحزب وتقديس الفرد؛ قد أسهمت في الإساءة لهذا التنوع في المجال العام كما سنرى لاحقاً، وانتهى إلى ترجيح التوحد على احترام التنوع وقبوله، وحصر الحديث عنه في المجال الخاص الذي أضحى المتنفس الوحيد للتنوع السوري، وإن كان هذا لم يَسلَم في كثير من الأحيان من الإرادة التدخلية للسلطة، خصوصاً على الصعيد السياسي[61]. بمعنى آخر: أضحى التنوع السوري الذي هو الصورة الحقيقية للمجتمع السوري مُقَولَباً وفق شكل السلطة الاستبدادية التي مثلها نظام الأسد، والذي يقوم على الفردانية والرأي الواحد.
رابعاً: ماهية مطالب “الأقليات” في سوريا[62]: بين الهوياتية والسياساتية نصّاً، والرغبة في السيطرة على الدولة فعلاً
التنوع الإثني والطائفي أمر طبيعي في الدولة، وتضم غالبية دول العالم العديد من الطوائف والمكونات، واستطاعت بعضها تحويل هذا التنوع إلى عامل غنى وقوة للدولة[63]، على عكس البعض الآخر، خصوصاً الدول النامية؛ حيث ظهرت فيها مشاكل الطائفية وضعف الهوية الوطنية، خصوصاً عند سعي بعض “الأقليات” لربط نفسها بقناة سياسية أو عسكرية[64]، أو تحصيل أكبر تنازل من “الأغلبية” عن خصوصيتها الثقافية وهويتها، وجعلها المقابل لقبولٍ شكليٍّ من الأقلية للانخراط في الهوية الوطنية[65]. في مقابل توجه الأغلبية أحياناً لتخليص الطائفة أو الأقلية من خصوصيتها الثقافية “التمايز الذاتي”[66].
عادة ما تكون مطالب “الأقليات” محصورة ضمن هذا المدى؛ أي: مطالب لا تتعلق بأصل الانتماء إلى الدولة، غير أن ذلك لا ينفي إمكانية أن تصل المطالب إلى هذا الحد عملياً لا نظرياً، لاسيما وأنه غالباً ما تمتنع عن التصريح بذلك خشية اتهامها بعدم الوطنية عند مطالبتها صراحة بالانفصال. وفق ذلك يمكن التمييز بين مطالب نظرية -قد تكون عملية- تتعلق بهوية الدولة أو شكلها أو سياساتها[67]، وأخرى عملية تظهر في سلوك هذه “الأقليات” ولا تصرّح بها عادة.
في الحالة السورية لا تختلف -من حيث الجوهر- مطالب “الأقليات” عما ورد أعلاه؛ إذ يمكن تقسيمها إلى نظرية -قد تتحول لاحقاً إلى عملية- تعلنها هذه المكونات في الوثائق والمواثيق[68]، وعملية تشير إليها الأحداث والوقائع وإن لم تصرّح بها[69]، وفق الآتي:
- المطالب المتعلقة بالهوية: مع التنبيه إلى وجود نص مشترك تطالب به مختلف “الأقليات” يتضمن الاعتراف بالحقوق الثقافية والقومية الخاصة بها، ومن أهمها: حقهم بالاحتفاظ بهويتهم والمحافظة على لغتهم ونشر ثقافتهم …إلخ، إلى جانب المطالبة باحترام الخصوصيات الدينية. غير أن هنالك مطالب أخرى تتعلق بالهوية الوطنية السورية الجامعة؛ فعلى اعتبار أن المرجعية المكونة للهوية الجماعية السورية ارتكزت على أساسَين تاريخياً هما العروبة والإسلام[70]، وتكرس هذا الأمر مع نشوء الدولة الوطنية الحديثة دستورياً فإنه ما تزال هنالك مطالب لدى “الأقليات” تعترض على مرتكزات هذه المرجعية.
- المطالب المتعلقة بالعروبة: من خلال الوثائق والرؤى التي وقّعت عليها القوى الكردية “المجلس الوطني الكردي” كما هو الحال في الرؤية السياسية لجبهة السلام والحرية، أو التي تحفظت عليها مثل: الإطار التنفيذي لبيان جنيف1؛ فقد كانت هنالك مطالب واضحة على مستوى الوثائق بعدم ذكر العروبة في اسم الدولة أو على مستوى الانتماء، في حين لم يظهر هذا الأمر لدى بقية المكونات[71].
- المطالب المتعلقة بالإسلام: باستثناء المكون التركماني فإن ثمّة مطالب واضحة على مستوى الوثائق التي وقّعت عليها قوى أخرى تنتمي للمكونات الكردية والآشورية بعدم التصريح بانتماء الشعب السوري للأمة الإسلامية أو بعلاقة الدين بالدولة، بما يشمل مكانة الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى التشريع أو الإسلام كدين للدولة أو رئيسها؛ إذ غالباً ما تتمسك هذه المكونات بعلمانية الدولة[72].
- المطالب المتعلقة بشكل الدولة: على الرغم من تمسك جميع المكونات السورية دون استثناء بشكل عام بمبدأ وحدة سوريا[73]؛ إلا أن أدبيات بعض القوى تطالب صراحة بالفيدرالية الإقليمية شكلاً لسوريا المستقبل[74].
- المطالب المتعلقة بسياسات النظام السياسي ومؤسساته: باستثناء المطالبة بإتاحة منصب رئيس الدولة أمام جميع المكونات وعدم حصره بـ “الأغلبية” كما هو حال الوثائق الدستورية السورية السابقة، فلا مطالب تفصيلية واضحة خارج المبادئ العامة التي تتحدث عن احترام التعددية السياسية ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص.
من الناحية النظرية تركز مطالب “الأقليات” في الحالة السورية على الهوية؛ كما هو الحال في مواضيع الانتماء وعلاقة الدين بالدولة، وشكل الدولة؛ مثل قضيتي اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية، أكثر من المطالب المتعلقة بسياسات النظام السياسي المتعلقة بتوزيع الخدمات والعائدات والثروات. كما أن “الأقليات” السورية لا تركز في مطالبها على احترام خصوصياتها -وهذا حق لها- بقدر ما تركز على محاولة تحصيل تنازلات من “الأغلبية” في مجال مقومات هويتها، كاللغة والدين والانتماء[75]؛ وكان بعضها مدفوعاً بـ “المظلومية” التي يعتقد أنه تعرّض لها بمفرده على يد نظام الأسد، مع أنه في الحقيقة لم يستثنِ أحداً من السوريين، بمَن فيهم “الأغلبية”.
من الناحية العملية يمكن النظر إلى المطالب السابقة على أنها آتية ضمن نطاق “المطالب الوطنية”؛ أي: بعد إيمان هذه المكونات بالدولة الوطنية، إلا أن الواقع يشكّك في ذلك بحسب باحثين؛ إذ “بقي السنة[76] والروم الأرثوذكس والعلويون والإسماعيليون، برغم الدساتير وقوانين الدولة المكتوبة، متجاورين أحدهم إلى جانب الآخر دون أن يشعروا برابطة تضامن حقيقية. لا تأثير للإحساس بالقرابة الاجتماعية على الأجندة الوطنية السورية، التي تظل بالمطلق أقل أهمية من المجتمع الديني والقبيلة والعائلة”[77].
في حال صحت هذه الفرضية: (ضعف إيمان “الأقليات” بالدولة الوطنية) قد تبدو مطالب “الأقليات” النظرية هي مجرد تغطية ومناقشة لقضايا “جدلية ونظرية” للتغطية على الإشكالية الحقيقية، وهي: ضعف إيمانها بالمواطنة المتساوية والدولة-الأمة الحديثة؛ إذ يتضح من خلال سلوك بعضها في سوريا -خاصة “العلويين”[78]– أن مطالبها الفعلية تتمثل في الاستمرار ضمن الدولة الوطنية شريطة المحافظة على “امتيازاتها الطائفية” عبر أدوات من أبرزها: سعيها للسيطرة السياسية الكاملة على أجهزة الدولة، أو البحث عن حماية خارجية لها، وفي كلا الحالتين كان لديها اعتقاد بأن هذه الوسائل هي التي يمكن أن تجلب الأمان لها، وليس النصوص القانونية -بما فيها الدستورية- التي لا تثق بها[79].
أسهم هذا السعي العملي للاحتفاظ بـ “المعاملة التمييزية” بإحداث تناقض مع ما سبق لهذه المكونات، وإن كانت تؤكده في خطابها حول سعيها “لدولة مواطنة متساوية”[80]؛ فثمّة تمسُّك عمليّ بامتيازاتها كطوائف، في الوقت الذي تعلن فيه نظرياً تمسُّكها بالمساواة كأفراد[81].
خامساً: تفسيرات فشل إدارة التنوع في سوريا: على السلطة الوِزر الأكبر
في ظل الهامش الذي أتاحته الثورة السورية لتُبديَ جميع المكونات رُؤاها ومطالبها في الوثائق التي تتناول سوريا المستقبل ظهرت إلى العلن وفي كثير من المناسبات مطالب هذه المكونات التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، إلى جانب السلوك العملي الذي قد يُستشفّ منه مطالبها الفعلية. لكن السؤال هو: لماذا ظهرت هذه المطالب النظرية منها والعملية؟ وهل ثمّة مقاربات يمكن من خلالها تفسيرها؟
ثمّة خمس مقاربات لتفسير تصاعد مطالب “الأقليات” يمكن تلخيصها فيما يلي[82]:
- الاختلاف في الهوية “المقاربة النشوئية”[83]: فاختلاف الهوية هو الذي يدفع كل فريق للمطالبة بأشياء محددة تتناسب وثقافته[84].
- المقاربة التفاعلية: تذهب إلى أن التفاعل بين مختلف المكونات داخل إقليم الدولة الواحدة يسهم بشكل كبير في تراجع حدة الصراع داخل المجتمع.
- المقاربة الواقعية: يرى أصحابها أن محرّكات العلاقة بين المكونات داخل الدولة هي الخوف وعدم الأمن.
- المقاربة البنائية: على عكس النظرية الواقعية تركز المقاربة البنائية على تأثير الأفكار؛ وتقدم ثلاثة أسباب رئيسة للصراع الهوياتي، وهي: الأزمة الاجتماعية الاقتصادية، وأزمة الدولة، وأزمة التجانس، وتركز هذه المقاربة على الأفكار وتولي أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، باعتباره أحد أهم الوسائل لتجاوز هذه المنازعات.
- المقاربة الليبرالية: يركز الليبراليون على متطلبات رئيسة، وهي: احترام حقوق الإنسان، وضمان تدفق الرفاه الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية. وتتمحور أفكارهم بشكل عام حول ثلاث نقاط أساسية هي: الاعتقاد بأن الديمقراطية هي جوهر السلام، والدور الجوهري والفعال للاقتصاد بحيث يسمح تطوره بظهور طبقة متوسطة قوية تسهم في العملية الديمقراطية، وأهمية المؤسسات الدولية باعتبارها أطرافاً فاعلة في حفظ السلام[85].
تقدم لنا هذه المقاربات ديناميات متعددة لتفسير نشوء مطالب “الأقليات”، ثم انعكاسها بعدُ على سوء إدارة التنوع؛ فإننا نعتقد أنه في الحالة السورية يمكن ربطها بنيوياً بثلاث “هياكل” رئيسة، هي: المجتمع، والسلطة، والنُّخب؛ فقد أثّرت طبيعة هذه “الهياكل/البُنى” وسلوكها في قضية إدارة التنوع سلباً أو إيجاباً.
1- دور المجتمع السوري: عندما يتحول المجتمع إلى “أقليات”
ثمّة مَن يرى أن المجتمع السوري لم يصطبغ تاريخياً بصبغة هوياتية مشتركة، بل كان يحتوي على شروخ وانقسامات متعددة أبقت مكوناته على عداوات مستمرة[86]، بينما يرى آخرون -وهو المرجَّح- أن التنوع في السياق السوري ليس وليد فترة تاريخية قصيرة، بل كان سمة رئيسة مرافقة لسوريا “الجغرافية” على مر العصور؛ فقد استطاعت المكونات السورية التعايش لفترات طويلة، ولم تشهد سوريا تاريخياً مذابح دموية بين المكونات أو صراعاً هوياتياً بينها[87]. بل على العكس كان التعايش بين السوريين على مرّ العصور سمة ثابتة، مما يعني عدم وجود خلاف هوياتي بين المكونات السورية، لاسيما وأن غالبية المكونات و”الأقليات” تتشابه في مظاهرها الثقافية والهوياتية[88].
إلى جانب ذلك، ومع نشوء الدولة السورية الحديثة وانفصالها عن الحكم العثماني امتلك هذا المجتمع في أساسه مقومات “المجتمع المتوازن”؛ ولعل الحراك السياسي والاجتماعي الذي حدث إبان تشكيل المؤتمر السوري العام يوضح لنا حيوية المجتمع وإمكانية تأقلمه مع نمط الدولة الذي فُرض عليه، على الأقل خلال السنوات القليلة التي أُتيح له فيها بناء مؤسساته وتصدير خطابه؛ إذ كان هنالك حراك ملحوظ للأحزاب والتيارات والجمعيات “المؤسسات الوسيطة”[89].
غير أن فترة الانتداب وما تلاها من حكم عسكري وأقلوي، وما رافق ذلك من سياسات كان لها أثرٌ واضحٌ في تجديد “الوعي الأقلوي”[90] لدى بعض “الأقليات” السورية، خصوصاً العلوية، وقد تجلى ذلك في ثلاثة مظاهر هي: الأول: الرفض الشامل لزوال الطوائف، من خلال ما عبّرت عنه نُخَبها إبان تأسيس الدول القومية الحديثة التي قوّت الفئات الطائفية، وقدّمت لها فرصة تاريخية للوصول إلى السلطة. الثاني: تغليف الدفاع عن مصالح العصبيات بتبنّي خطاب عن الدولة والأمة. الثالث: الصراع بوصفه سمة للحفاظ على مجتمع العصبيات، وقد يكون هذا الصراع في أقل الأحوال سوءاً هو العنف السياسي كما حصل في عهد عائلة الأسد، وفي أسوئها يكون “الحرب الأهلية”[91]؛ كما حصل عقب الثورة السورية نتيجة عنف نظام الأسد اللامحدود ضد غالبية الشعب[92].
عملَ هذا “الوعي الأقلوي” في سوريا بوصفه وعياً طائفياً، وبوصفه مواجهةً مع الآخر أيضاً، ليتجلى ذلك في وجود إرادة ضمنية على الأقل لاستئصال الآخر؛ فخلافاً للحالة اللبنانية حيث كان ممكناً تأجيل موت الآخر إبان الحرب الأهلية عبر الاكتفاء بعمليات الخطف فإن العنف الممارس في سوريا، خاصة عنف نظام الأسد، يشهد على إرادة استئصال الآخر[93].
النتيجة الأهم لبروز هذا الوعي الأقلوي وتمكنه ستكون دفع الأغلبية “المكون السّنّيّ” نحو محاولة تشكيل وعي “طائفي مماثل” ردَّ فعلٍ -وهو ما لم ينجح نتيجة عوامل متعددة اجتماعية وجغرافية[94]– يجعلها تتصرف كأنها طائفة، بعد أن كانت تسلك تجاه ذاتها وأعضائها وتجاه المكونات الأخرى سلوك الأمة، أو ما يمكن أن يؤسّس للأمة[95]. ولعل مما يؤكد صحة ذلك هو سلوك “الأغلبية” عند تشكل الدولة السورية عقب الانسحاب العثماني، والذي تجلى بصورة واضحة أثناء كتابة دستور 1920، من جهة دعوتها لتشكيل دولة وطنية لجميع السوريين؛ بغضّ النظر عن دينهم وعرقهم وطائفتهم[96].
2- دور التدخلات الخارجية: التشويه الفرنسي للتنوع
في ظل تنامي التأثير الدولي -خصوصاً الدول الفاعلة- في السياسات الداخلية لبعض الدول، إلى جانب التأثر بالمحيط الإقليمي؛ فإن تلك السياسات لم تعد ناتجة عن محددات داخلية، بل في كثير من الأحيان يكون للعامل الخارجي تأثير يفوق العوامل الذاتية فيها[97]، يُضاف إلى ذلك استعداد بعض المكونات في الدول النامية للاستلاب الخارجي والاستقواء به في مواجهة أبناء وطنها[98] بغية ابتزازهم وتحصيل مكاسب غير عادلة[99]، وهذا ما حصل في سوريا[100]؛ إذ بدأ الخلل في إدارة التنوع مبكراً بعد ولادة الدولة السورية الحديثة نتيجة سياسات فرضتها سلطة الانتداب الفرنسية للحد من التفاعلات الطبيعية التاريخية بين مختلف المكونات السورية، وذلك عبر سياستَين:
الأولى: سياسة “فرِّقْ تَسُدْ” التي قادت إلى تقسيم سوريا عدة دويلات[101]، مع دعم قوى الانفصال والتفرقة في المجتمع السوري، بما في ذلك تأجيل العداوات الطائفية والمناطقية[102]، بما سيسهم لاحقاً بعد الاستقلال في تنامي مشاعر “ضعف الانتماء الوطني”، وظهور نظام “المجتمع المغلق”[103] الذي يقوم على تناحر المكونات[104].
الثانية: سياسية “تمكين الأقليات”[105]، بما في ذلك تأسيسهم “القوات الخاصة للشرق” التي اعتمدت على “الأقليات” بصورة رئيسة، وهي النواة الأولية للجيش السوري لاحقاً[106]، والتي ستؤدي لاحقاً إلى دفعها لمحاولة استخدام “السلطة” والقوة العسكرية تارة، أو المطالبة بحماية خارجية تارة أخرى كوسيلة لاستمرار “المعاملة التمييزية” التي حصلت عليها، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
3- دور السلطة[107]: لا مكان للتنوع في حضورها
تعمّقت مشكلة إدارة التنوع مع طبيعة السلطة التي تشكلت عقب الاستقلال من جهة تسلُّط العسكر والدخول في دوامة الانقلابات التي أسهمت في وصول البعث ومن بعده عائلة الأسد التي حوّلت الدولة السورية إلى دولة متوحشة[108]، تهيمن عليها سلطة طائفية عشائرية عائلية[109]. فقد كان لذلك دورٌ مدمِّرٌ للتنوع السوري؛ إذ اتبعت سياسات غير مألوفة على المستويين الاجتماعي والسلطوي، تمثلت بـ: أحادية الأيدولوجيا السياسية؛ ذات الشعار القومي الذي يطمس المكونات الأخرى ويفرض هوية جامعة عابرة للقطر. وأحادية طائفية؛ ظهرت بوضوح بعد انقلاب شباط 1966 تمثلت بالحكم “الأقلوي العلوي”، وأحادية الفرد القائد الذي حسم صراعه مع زملائه في اللجنة العسكرية السرية طائفية التكوين[110].
أسهم كل ذلك في زيادة الشروخ بين المكونات، خصوصاً مع السياسات القمعية التي واجهت بها السلطة أية بوادر على المستوى الاجتماعي أو المدني لتحدّي نمط السلطة الذي بدأ يترسخ في سوريا، وتحديداً بعد أحداث الثمانينات، وهو ما انعكس بدوره على الحدّ من التفاعلات الطبيعية الاجتماعية والسياسية بين المكونات السورية؛ إذ كان لنظام الأسد دوره المباشر في جعل “الأقليات” -خصوصاً “العلويين”- تركز على ما يفرّقها عن بقية السوريين، وعلى منعهم من رؤية ما يتشاركون فيه مع باقي السوريين[111] (المقاربة التفاعلية).
لم يكتفِ نظام الأسد بالحدّ من التفاعل بين المكونات السورية، وإنما استخدم كل ما يمكن العمل عليه لزرع ثقافة “الخوف، واللا أمن” فيما بينها؛ ليس الخوف من السلطة عبر القمع الوحشي فحسب، بل الخوف من عدو متخيل يأخذ في الغالب صورة “مجتمع الأغلبية السنية” في داخل الوعي “الأقلوي” الذي يتغلغل تحت غطاء العلاقات الاجتماعية ليصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية[112]، بما يسهم في إضعاف التفاعل الذي كان قائماً فيما بين المكونات السورية، والذي كان له دوره في تراجع الثقة وتأجيج الصراع فيما بينها[113](المقاربة الواقعية).
إلى جانب ذلك استخدمت السلطة الطائفية النُّخَب لترسيخ نفوذها؛ فقد عملت على نسف النُّخب التقليدية وإحلال نُخَب تقوم سلطتها على قوة العصبية السياسية التي تدعم السلطة القائمة[114]، وقادت حملات متكررة لتكريس النخب المرتبطة بها، مما أدى إلى ظهور نخب فاقدة للمسؤولية ومسيطرة على مقدرات الدولة، وتوظف إمكاناتها -في حال وجودها- لصالح الفئة التي تحكم وليس لصالح الشعب[115] (المقاربة البنائية).
ترافق كل ما سبق مع سحق السلطة حقوق الإنسان، وتراجع العدالة الاجتماعية ومؤشرات النمو الاقتصادي داخل سوريا، خصوصاً في أواخر القرن العشرين[116]، وهو ما أسهم كذلك في فقدان المواطنين إيمانهم بالمواطنة (المقاربة الليبرالية).
كذلك يمكن التنبيه إلى الخلل الذي أحدثته سياسات البعث والأسد على مستوى دور الذاكرة التاريخية في تدعيم الهوية الوطنية السورية وتعزيز التعايش بين المكونات، من جهة قيامهما بطمس ذكرى بعض الأحداث الإيجابية التي كان من الممكن أن تسهم في تعزيز التعايش السلمي[117]، واكتفائه بالأحداث التي تمجّد انقلاب البعث وعائلة الأسد، في الوقت الذي افتقد التاريخ السوري لأحداث مؤلمة كان من الممكن أن تلعب دوراً في توحيد المكونات السورية على اعتبار أن ذاكرة المآسي والآلام المشتركة توحد الأفراد والمكونات أكثر من الأفراح بحسب بعض الكتابات[118]، فافتقدت الذاكرة التاريخية دوراً مهماً إيجابياً كان من الممكن أن تسهم به في تعزيز التعايش بين المكونات السورية؛ فلا الأحداث الإيجابية استُحضرت، ولا وجود لمآسٍ وآلام يمكن أن تدفع الأفراد والمكونات إلى العيش السلمي المشترك.
على مستوى أدوات إدارة التنوع: كان هنالك تغييبٌ شبه كامل من قبل نظام البعث والأسد لأدوات إدارة التنوع الخاصة بتقاسم السلطة، وفشلٌ في مجال أدوات السياسات العامة، إلى جانب التركيز المبالغ فيه على الآليات الاستيعابية من جهة المبالغة في محاولة فرض الهوية العربية على مختلف المكونات العرقية الأخرى[119]. كل ذلك أنتج مشهداً مختلاً لإدارة التنوع؛ فبدلاً من تحقيق التوازن بين الأدوات الاستيعابية لتقوية الهوية الوطنية وتعزيزها وأدوات تقاسم السلطة والسياسات العامة لطمأنة المكونات بمختلف انتماءاتها؛ كان هنالك تركيز على الأولى فقط، مما ولّد نفوراً في كثير من الأحيان من الرابطة الوطنية التي أضحت بنظر مختلف فئات الشعب السوري مصدراً للظلم والقهر والتمييز.
فكانت النتيجة الأساسية لهذا التأجيج وسوء الإدارة، والتلاعب بالمكونات والحدّ من التفاعل بينها، وقطع العلاقة بينها وبين النخب هي دفعها إلى التقوقع على ذاتها، ليصبح المجتمع السوري مجتمعاً متصارعاً لا متوازناً[120]، ولتظهر تبعات ذلك عقب الثورة من خلال الشروخ الاجتماعية بين المكونات السورية وتراجع الثقة فيما بينها[121]. وقد تفاقم ذلك نتيجة سياسات نظام الأسد التي أدت إلى غياب الطابع الوطني عن الدولة[122]، وقد ربطت بعض “الأقليات” به بصفته “حامياً لها”[123]، ووضعت بعضها “الأقليات” الأخرى الدفاع عن مصلحتها الطائفية فوق الدفاع عن المصلحة الوطنية، ولعل من أبرز الأدلة على ذلك دفاعها عن نفسها عبر الميليشيات العسكرية؛ لعدم ثقتها بدولة لا تتحكم هي فيها تماماً[124].
4- دور النُّخبة والمؤسسات الوسيطة: تفاعلٌ مع التخريب
شهدت سوريا -بوصفها إحدى الدول النامية- بعد مجيء البعث وعائلة الأسد إلى السلطة تسلُّط نُخَب ليس لها أي شعور بالمسؤولية، وأصبحت النخبة التي تسيطر على مقدرات الدولة توظف إمكاناتها لصالح عائلة الأسد، وليس لصالح الشعب[125]، وهذا بدوره انعكس على النخب المعارضة وصورتها الذهنية لدى الحاضنة؛ إذ أفقدها الثقة التي تؤهلها لمخاطبة التيار الشعبي العريض. إلى جانب ذلك عزّزت أكثرية النخب السياسية نفوذها بالاستناد إلى انتمائها الطائفي؛ فقد واجه الزعماء الدينيون والسياسيون مجتمعين الحريات الفردية التي قد تُضعف المجموعة الطائفية، فأسهموا في تعزيز “الوعي الأقلوي”[126]، بما يعنيه ذلك من أن غالبية النُّخب كانت على قسمَين: إما داعمة للنظام ومستفيدة منه، وإما مستندة للطائفية رافعةً لها، وفي كلتا الحالتين كان هنالك تغييبٌ شبه كامل للنُّخب الوطنية.
لم يكتفِ نظام الأسد بتغييب النُّخب الوطنية، وإنما عملَ أيضاً على تطبيق السياسة نفسها مع المنظمات الوسيطة[127]، التي كان لضعف حضورها في المشهد العام[128] وارتباطها بشكل مباشر بتنفيذ سياسات نظام البعث والأسد[129] دورٌ سلبيٌّ على إدارة التنوع السوري؛ حيث لم يسهم ذلك في حرمان المجتمع السوري من جهود إيجابية يمكن أن تساعد في تخفيف السياسات السلبية التي مارستها سلطة البعث والأسد تجاه التنوع السوري فحسب، وإنما كان المجتمع المدني ذاته داعماً لتلك السياسات الممارسة من قبل السلطة، وأصبح مع النُّخب السلطوية “مجتمعاً مضاداً” يناقض المواطنة ولا يحترم مبادئها، ولا يتشارك أعضاؤه قيمها أو يحترمون قوانينها[130].
في المجمل: كانت الضربة الأولى لبوادر هذا المجتمع المتوازن هي السياسات التي اتبعها الانتداب الفرنسي حينما بدأ بتنفيذ سياسة “تمكين الأقليات”، وإثارة الخلافات بينها وبين غالبية الشعب السوري من جهة، وبنمط المؤسسات التي أسّسها وتحديداً الجيش من جهة أخرى[131]. ثم جاءت الضربة الثانية مع وصول البعث وعائلة الأسد إلى السلطة؛ حين تحولت الدولة إلى سلطة متوحشة قائمة على الجبر والإكراه، ومتركزة في يد فئة وطائفة محددة، وسُحقت المؤسسات الوسيطة باستثناء تلك المرتبطة بها، وكان لهذا أثرٌ سلبيٌّ مباشرٌ على المجتمع السوري والعلاقة بين مكوناته. ثم لتأتي الحرب التي شنّها نظام الأسد على الشعب السوري لتزيد الأمور سوءاً على مستوى العلاقة بين السلطة والمجتمع من جهة، ومكونات المجتمع فيما بينها من جهة ثانية. كل ذلك يوضح أن سمات التوازن القليلة التي تمتع بها المجتمع السوري تعرّضت للتشويه الممنهج من قبل السلطة التي أنشأها الانتداب أولاً، وتسلط عليها العسكر والحكم الأقلوي ثانياً، ليصبح هذا المجتمع أقرب لنموذج الصراع.
وفق ذلك كان لعاملَي التدخلات الخارجية ونمط السلطة التأثيرُ الأكبرُ في تشويه التنوع السوري وتكريس “الطائفية”؛ إلا أن ذلك لا ينفي وجود بيئة داخلية قابلة للتوظيف والعلاقة الزبائنية، سواءٌ على مستوى بعض المكونات السورية أو على مستوى النخبة السورية، بما يشير إلى أن فشل إدارة التنوع ليس مرتبطاً بعامل واحد فحسب.
سادساً: دور مؤسسات قوى الثورة والمعارضة في إدارة التنوع: الشكلية في سياق موضوعي حاكم
على الرغم من الإرث السلبي الذي أصاب التنوع السوري نتيجة العوامل المشار إليها في الفقرة السابقة، خصوصاً سياسات السلطة؛ فإن قوى الثورة والمعارضة بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 قد سعت مع الهامش التي تشكل لديها في خارج سوريا وداخلها في المناطق التي أضحت خارج سيطرة نظام الأسد إلى تطبيق بعض أدوات إدارة التنوع التي يمكن أن تسهم في تخفيف من الآثار التي لحقت التنوع السوري.
سعت بعض الأجسام السياسية في المراحل الأولى إلى استخدام بعض آليات إدارة التنوع المرتبطة بتقاسم السلطة، كما فعل المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني بهدف تمثيل المكونات السورية في هذه الهيئات، وهو ما برز بصورة واضحة في تقلُّد رئاسة هذه الهيئات[132]، ولاحقاً في تخصيص منصب نائب رئيس الائتلاف الوطني للمجلس الوطني الكردي على سبيل المثال.
إلى جانب استخدام بعض آليات تقاسم السلطة عملت القوى السياسية منذ اللحظات الأولى لتشكلها وظهورها على إرسال مؤشرات ورسائل طمأنة للمكونات السورية على مستوى النصوص؛ وهو ما سار عليه المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وعموم النخب السياسية السورية، التي دأبت على إرسال تطمينات لكل المكونات، وأكدت في أكثر من موضع مفاهيم المساواة والمواطنة والتعددية واحترام الخصوصيات…إلخ[133]، إلى جانب إظهار احترام خصوصيات “الأقليات” فيما يتعلق بالأعياد الدينية، خصوصاً في الفضاء الافتراضي.
أما القوى العسكرية فكان استخدامها الأدوات المرتبطة بالخطاب خصوصاً في بداية تشكيل مجموعات وكتائب الجيش الحر؛ إذ كانت تشير في غالبية بياناتها إلى دفاعها عن جميع السوريين في وجه نظام الأسد، وتحقيق الحرية والكرامة لمختلف المكونات دون تمييز[134]، دون تطبيق أدوات أخرى على مستوى تقاسم السلطة لظروف موضوعية أكثر منه عوامل ذاتية؛ من أبرزها: افتقاد مشاركة مكونات من الأقليات الطائفية في العمل العسكري؛ فلا توجد فصائل عسكرية من طوائف أخرى حتى تتقاسم معها السلطة، فضلاً عن أن العمل الفصائلي في معظمه قام على روابط مناطقية[135].
مع ذلك فقد شهدت الجغرافية السورية تحكُّم بعض قوى الأمر الواقع ذات الولاءات العابرة للحدود كـ “قسد” و”داعش” ومليشيات المشروع الإيراني بالمناطق السورية، مما ستكون له تداعياته السلبية على إدارة التنوع السوري مستقبلاً[136].
أما على صعيد منظمات المجتمع المدني فقد عملت مع مجالس الإدارة المحلية وهيئات شبه حكومية أخرى على توفير الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها[137]، كما كان لها دور من خلال أنشطتها المتنوعة في العناصر الثلاث الرئيسة للمواطنة (العنصر السياسي والمدني والاجتماعي)[138]؛ إذ شكّل مجمل خطاب هذه المنظمات وأنشطتها أحد العوامل التي تسعى لتعزيز التعايش والحوار والتفكير المشترك بين السوريين، وبشكل خاص الأنشطة التي تواجه مباشرة الطائفية والمناطقية، والتركيز على المفاهيم المدنية المرتبطة بالحقوق والحريات[139].
إلى جانب ذلك سعت العديد من هذه المنظمات -خصوصاً العاملة في مجال التوعية والتمكين- إلى التمسك بمبادئ إدارة التنوع على المستويين البنيوي والوظيفي:
- على الصعيد البنيوي: عمدت الكثير من المنظمات السورية إلى مراعاة التنوع في تصميم الهيكل الوظيفي لها وفي مجموعات السياسات التي تقرّها[140]، وهو ما يعود أساساً لما فرضته الجهات المانحة الدولية على المنظمات عبر مجموعة المبادئ والسياسات التي تراعي إدارة التنوع وفق الجنس والعمر والمنطقة، وسياسات التوظيف بناءً على معيار الكفاءة. إلا أن الكثير من هذه المبادئ لم تُطبق فعلياً لأسباب عديدة، من أهمها: طريقة تركيب هذه المنظمات التي كانت مستمدة من الثقافة الأحادية المبنية على المصلحة أو المنفعة المادية، وقلة الوعي بالعمل المدني، فتحولت الكثير من المنظمات بسبب المحسوبيات والشللية والأيديولوجيا إلى عملية استقطاب مخالفة للقيم النظرية، ولذلك وُجدت بعض المنظمات المحسوبة على أبناء مدينة واحدة أو تيار أيديولوجي، وهو ما أدى لتقويض ما كانت تنادي به من التمسك بالرابطة الوطنية ومراعاة قواعد التنوع السوري في هياكلها[141].
- على المستوى الوظيفي: أسهمت مجموعة من الأنشطة والبرامج التي نفّذتها بعض المنظمات في مساعي إيجاد جسور بين المكونات السورية في الداخل والخارج[142]. أي أن جهود المجتمع المدني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام ركّزت على الخطاب والتوعية[143]، وهي المجالات التي نجح فيها المجتمع المدني الناشئ تارة وفشل تارة أخرى؛ لاسيما على مستوى التنفيذ والتطبيق[144]، أما المجالات الأخرى المتعلقة بالسلطة بصورة أساسية كالأدوات التكاملية والتوافقية والاندماجية فيبقى هامش المنظمات فيها ضئيلاً.
يمكن توصيف جهود إدارة التنوع التي بذلتها قوى الثورة والمعارضة بالشكلية التي حاولت التركيز على الخطاب، وإلى حدّ ما على أدوات تقاسم السلطة وفق الهامش المتاح لها، ولكنّ هنالك ضعفاً على مستوى الثقافة العامة التي تركز على الهوية الوطنية داخل المجتمع أكثر من الخطاب النخبوي، أي على مستوى تشكيل وعي عام من خلال الرموز والقصص والحكايا يؤمن بوجود هذا التنوع ويتقبله؛ ولعل ذلك يعود إلى عوامل موضوعية تتصل بطبيعة السياق الحالي الذي يتسم بالنزاع وفقدان شبه كلي لعوامل الاستقرار المجتمعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن أن قضية الوعي تتطلب عادة وقتاً طويلاً للتشكُّل.
سابعاً: خطوات في مجال “إدارة التنوع مع سوريا”: إضاءاتٌ لما يمكن العمل عليه
توضح لنا مقاربات تفسير فشل إدارة التنوع سورياً أن الخطوة الأولى التي يُفترض القيام بها هي ترميم الهوية الوطنية السورية، ومعالجة مشكلة الطائفية و”الأقليات” قبل الحديث عن أدوات إدارة التنوع، وفي هذا الصدد تكون الخطوة الأولى الضرورية والمؤسِّسة لما بعدها هي: التخلص من السلطة التي أسّسها نظام الأسد القائم على العصبية الطائفية؛ ففي مثل هذا النظام تكون الإشكالية هيكلية وليست موضوعية، أي أنه وإن كانت ثمّة أنظمة وقوانين وقواعد جيدة لإدارة التنوع فلا فائدة منها ما دامت تقوم بتطبيقها أجهزة حكومية محرِّكها الأساسي هو الانتماء الطائفي؛ ولعل ذلك هو الدافع الرئيس لفقدان الثقة بالأدوات القانونية والسياساتية في تجاوز الانقسامات المجتمعية والطائفية[145].
فلا يمكن لنظام غير وطني بالمعنى السياسي الاجتماعي -كما حالة نظام الأسد- التقدم بخطوات إيجابية في مجال إدارة التنوع بحكم طبيعته[146]؛ فالاعتبارات غير الوطنية كالطائفية والعشائرية والأسرية ستكون كفيلة بنسف أية أدوات أشرنا إليها سابقاً، كتقاسم السلطة والأدوات التوفيقية والتكاملية، ولذا ستكون جهوده منصبّة على تلافي الآثار السلبية لفشل إدارة التنوع، كمعالجة أعراض الطائفية وضعف الانتماء الوطني …إلخ.
ينبني على ما تقدم نتيجة مهمة هي: لا يمكن الحديث عن أي دور فعّال ومؤثّر في مجال إدارة التنوع في سوريا دون تحقيق انتقال سياسي يتجاوز المسبِّب الرئيس لفشل إدارة التنوع السوري وهو نظام الأسد، والانتقال إلى نظام وطني يمتلك مؤهلات إدارة التنوع؛ فهذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يتطلب وجود قناعات حقيقية بضرورة احترام قضايا الانتماء والهوية المرتبطة بغالبية الشعب السوري، أي تجاوز مسألة المطالبة بـ”وضع نصوص شكلية” لتكريس العلمانية والدعوات الدينية إلى التسامح[147]، التي تقتصر عادة على تصدير أو الاتفاق على نصوص وبيانات ووثائق لا أرضية لها حتى في وعي الموقّعين عليها وسلوكهم.
بعد تجاوز مشكلة السلطة يمكن أن تُتاح للمجتمع السوري والنُّخب السورية مساحة مناسبة لإيجاد حلول فعّالة لمشكلة “الأقليات” والطائفية عبر أدوات، منها: التصدي للوعي الأقلوي من قبل النخب التي تمثلها، والتركيز على الثقافة الاجتماعية المشتركة، من خلال تشجيع الذاكرة على النهل من السردية التاريخية الرسمية التي يمكن أن تسهم في رفع قيمة الإنجازات المشتركة المهمة للسوريين[148]؛ كالنهضة، والنضال ضد فرنسا، والفضل في إعلاء قيمة الشخصيات المعروفة المنحدرة من كل الطوائف، كذلك تثمين الانتماء إلى تاريخ مشترك، وإعادة تفعيل الموضوعات الإيجابية[149].
عند ذلك يمكن التركيز على أدوات إدارة التنوع التقليدية من أدوات استيعابية وتقاسم للسلطة وتكاملية تضمن احترام التنوع السياسي والديني والثقافي؛ كلٌّ بحسب سياقه ومتطلباته.
شكل (3) توضيحي لمراحل إدارة التنوع في سوريا
بناءً على ذلك: نعتقد أنه في حالات كثيرة قد يكون المطلوب في الحالة السورية ليس التركيز على النصوص القانونية بحكم وجودها واحترامها وضمانها للتنوع، وإنما التركيز على سلوك السلطة، وتطوير الوعي داخل المجتمع للقبول بها، بل وتشجيعها. فعلى سبيل المثال: تتطلب إدارة التنوع الديني والشعائري والثقافي “العادات والتقاليد تحديداً” احتراماً من السلطة لهذا التنوع، واعترافاً به على المستوى التربوي والأسري واحتراماً له “المجال الخاص” أكثر من الحاجة إلى نصوص قانونية؛ لأن الأخيرة موجودة بشكل عام في البناء القانوني السوري[150]. كذلك الأمر على مستوى التنوع العرقي يُفترض أن يكون هنالك سعيٌ واضحٌ لتكريس فكرة الحقوق المتساوية بين مختلف المكونات في المجال العام[151]، وقبولٌ للتنوع في المجال الخاص، بحيث تعتاد الأجيال السورية على قبول اختلافاتهم العرقية.
في المقابل: يتطلب التنوع السياسي إلى جانب القبول المجتمعي والتربوي عبر المناهج وغيرها من الأدوات سياجاً قانونياً يحميه ويكرّسه في الوقت ذاته، لاسيما بعد فترة التصحُّر السياسي التي عاشتها سوريا في ظل حكم الأسد، بما يسمح بوجود هذا التنوع ضمن الفضاء العام. وتشجيعاً للتنوع في المجال الخاص، لاسيما وأن أجيالاً سورية عدة نشأت في ظل نظام “الحزب الواحد” و”القائد الواحد”، بما انعكس سلباً على تقبل فكرة التنوع والتعدد السياسي.
نوع التنوع | المأمول في المجال العام | المأمول في المجال الخاص |
التنوع العرقي | حقوق متساوية | قبول التنوع |
التنوع الديني الشعائري | يسمح بالتنوع | يحترم التنوع |
التنوع السياسي | يسمح بالتنوع ويحميه | يشجع على التنوع |
التنوع اللغوي والعادات والتقاليد والأعياد | يسمح بالتنوع ويعترف به | يعترف بالتنوع ويحترمه |
جدول 3 يحدد المناسب للتنوع السوري في المجالين العام والخاص
خاتمة وتوصيات:
تبين لنا التجارب المقارنة أن الركيزة الأساسية للنجاح في إدارة التنوع هي: وجود ثقافة عامة لدى مختلف المكونات تقبل بالعيش المشترك، وهذا ما حدث في ماليزيا وكندا؛ فعلى الرغم من حالة التنوع التي صبغت المجتمعَين إلا أنهما استطاعا وبوجود سلطة وطنية حريصة على بناء هوية وطنية إدارته بطريقة إيجابية تمثلت في بُعدَين؛ الأول: استيعاب مختلف المكونات ضمن بوتقة وطنية واحدة “الأدوات الاستيعابية”، والثاني: احتفاظ كل مكون بخصوصيته بما لا يتناقض مع البعد الأول “أدوات تقاسم السلطة وأدوات السياسات العامة”.
كان الدور الأكبر في تشويه التنوع السوري مرتبطاً بالسلطة، خصوصاً ما قام به نظام الأسد من خنق الفضاء العام، وتأثيره في الثقافة المجتمعية المتعلقة بالتعايش مع الآخر ضمن الفضاء الخاص، وخنقه النطاق الطبيعي الذي يمكن من خلاله للمجتمع المدني إدارة هذا التنوع بشكل إيجابي، إلى جانب تركيزه على الأدوات الاستيعابية دون غيرها، ومساهمته في نشوء “الوعي الأقلوي” على مستوى الأسرة والثقافة والمجتمع، والذي انعكس في أحد مظاهره على مطالب المكونات التي أخذت أبعاداً تركز على الهوية والانتماء، ويُفترض أنها محلّ إجماع وطني على الأقل بملامحها الرئيسة؛ وهذا -كما أشرنا إليه- يتطلب بداية التخلص من هذا النظام عبر عملية انتقال سياسي فعلية تسهم في فتح نافذة يمكن من خلالها للمجتمع المدني ممارسة دوره في ترميم التنوع السوري.
ألقى الدور السلبي للسلطة بأعباء مضاعفة على المجتمع بشكل عام وعلى النخب والمجتمع المدني ممثلاً بمؤسساته وجمعياته ونواديه بشكل خاص، تتطلب منهما -خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد داخل سوريا، وفي بلاد اللجوء- العمل على الأدوات المتاحة لإدارة التنوع إيجابياً؛ وذلك عبر إنشاء المنصات الحوارية، ونشر ثقافة التنوع والقبول بالآخر، والتدريب والتأهيل في آليات الاختلاف والتنوع، بالإضافة إلى الجوانب التعليمية والتثقيفية والتوعوية “التوعية المجتمعية” التي يمكن أن تسهم في بناء نسق وطني سوري[152]، وهذا البناء التحتي -إن صحّ التعبير- قد يتطلب وقتاً طويلاً لتنفيذه؛ لأن سياق المراحل الانتقالية عادة -كما هو الواقع السوري- يقوم على: الاستدامة وطول المدة، ويركز على أدوات الإقناع والتوافق أكثر من الأدوات القسرية[153].
بناءً على ذلك: ريثما يتحقق الانتقال السياسي -وهو الشرط الأساسي لإيجاد مناخ يفتح المجال لإدارة صحيحة لإدارة التنوع- فإنه يمكن العمل تدريجياً ضمن نطاق المناطق المحررة خاصة على ما يلي:
- توجيه المؤسسات التعليمية والجامعات في الداخل إلى إدراج مواضيع عن التنوع السوري وتجارب العيش المشترك بين المكونات السورية، أو على الأقل بين المكونات الموجودة ضمن المناطق المحررة.
- حثّ المجتمع المدني على مباشرة دوره الأساسي في بناء الهوية الوطنية وإدارة التنوع السوري، ثم بعد ذلك سعيه لنشر ثقافة تقبُّل التنوع وثقافة الاختلاف.
- ضرورة تعزيز فكرة اللامركزية في إدارة التنوع عبر توعية منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية -بغضّ النظر عن المشاكل التي تعاني منها بنيوياً ووظيفياً في الوقت الحالي- بدورها في مجال تعزيز ثقافة التنوع وقبول الآخر.
- العمل على تحقيق بيئة تفاعلية بين المكونات السورية على الأقل في الجانب الافتراضي كالمنتديات والجلسات الحوارية، لاسيما في المناطق المحررة وبلاد اللجوء؛ فانعدام التفاعل سيؤدي -خصوصاً في الحالة السورية- إلى زيادة الشروخ الاجتماعية حتى داخل المكون نفسه، ومن باب أولى بين المكونات[154].
- إيجاد البيئة القانونية والاجتماعية والثقافية التي تشجع على التنوع في الفضاء العام عبر البرامج الحوارية التي تُظهر الاختلاف وتحترمه.
- يتطلب احترام التنوع عدم السعي لتخليص “الأقليات” والمكونات من خصوصيتها الثقافية، في مقابل التزامها بعدم مطالبة الأكثرية بتنازلات على مستوى الهوية والانتماء، وهذا يقودنا إلى ضرورة أن تتركز مطالب المكونات على الجوانب المرتبطة بالسياسات العامة أكثر من التركيز على الأبعاد الهوياتية التي تمسّ الأكثرية؛ ونعتقد أن الصيغة التي تكرّست في دستور 1950تمثل أساساً يمكن الاحتفاظ به والبناء عليه.
كذلك يفترض بالقوى السياسية -خصوصاً المحسوبة على مكونات عرقية أو طائفية- التركيز في مطالبها على المحافظة على خصوصيتها “أدوات تقاسم السلطة والسياسات العامة”، أكثر من التوجه إلى المطالبات الهوياتية التي تمثل في كثير من الأحيان مطالبةً للأكثرية بالتنازل عن جزء من هويتها.
- تمثل الأدوات الاستيعابية المجال الأساس لبناء هوية وطنية جامعة، وانعدامها يعني اتجاه الدولة نحو التفتت والتمسك بالهويات الفرعية، طائفية كانت أم عرقية؛ ولذا يجب على المجتمع المدني السوري تخصيص جزء من جهوده لإبراز الهوية الوطنية وثقافتها وإرثها، وليس الاكتفاء بالحديث عن الأدوات التوافقية والاندماجية والسياساتية العامة التي تسعى للحفاظ على خصوصية المكونات.
- توعية الأسر السورية بأهمية قبول التنوع والتشجيع عليه ضمن مجالها الخاص للتخلص من تبعات حقبة الاستبداد ورفض الآخر التي كرستها سياسات نظام البعث والأسد. على سبيل المثال: يمكن عبر المناهج والبرامج الأسرية تعريف المكونات السورية بعادات وتقاليد بعضها البعض، وبيان ضرورة احترامها.
- بما أن العوامل التي أسهمت في فشل إدارة التنوع السوري كالخوف واللاأمن، وعدم احترام الحقوق والحريات، وضعف التفاعل، ونمط الخطاب السائد كلها مرتبطة بالسلطة بصورة أساسية فإن إيجاد حلول جذرية ومباشرة لها مرتبطة بحدوث التغيير السياسي، وطالما أن هذا لم يتحقق حتى الآن فإن المجالات الجزئية تبقى محصورة؛ من جهة بالسلطات القائمة في المناطق المحررة بحيث تقدم صورة مناقضة لتلك التي كرّسها نظام الأسد على مستوى هذه العوامل، وبالمجتمع المدني والنخب السورية من جهة ثانية.
- تمثل القضية الكردية إحدى التحديات الأساسية لإدارة التنوع السوري، ونعتقد أن الحل هو عبارة عن خليط من الأدوات التوفيقية؛ كالفيدرالية الجغرافية، والاستيعابية، كتلك التي تركز على التمسك بالهوية الوطنية المشتركة، والسياساتية العامة المتعلقة بتوزيع الناتج المادي والمعنوي مثلاً، مع تأكيد أن التمسك بأي جانب من هذه الأدوات على حساب الأخرى قد يؤدي إلى الفشل؛ فالتركيز على التوافقية على حساب الاستيعابية قد يؤدي إلى التقسيم، كما أن التركيز على الاستيعابية على حساب التوافقية والسياساتية العامة قد يقود إلى إلغاء الخصوصيات الثقافية.
لتحميل الورقة PDF:
- ثمّة صمتٌ واضح -إن لم نقل: قَبول- من الجهات الاعتبارية “العلوية” على إرادة الاستئصال؛ فلم يصدر عن أيٍّ منها موقف واضح رافض لهذه السلوكيات، على عكس حالة تنظيم داعش؛ فموقف الجهات الاعتبارية “السنّيّة” المعارضة مثل المجلس الإسلامي السوري وغيره كان واضحاً في إدانة التنظيم واعتباره حالة طارئة لا تمثل “السنّة” بوصفه من الخوارج.
- إرادة الاستئصال في الحالة “الأقلوية العلوية” كانت موجهة ضد الآخر “السنّي”، بينما في حالة داعش فإن هذه الإرادة كانت موجهة بالدرجة الأولى لمن يفترض أنه يدّعي تمثيلهم “السنّة” قبل الآخر؛ ولذا استهدفت غالبية جرائم التنظيم السنّة أكثر من استهدافها الآخر “الأقلوي” تطبيقاً لقاعدتهم المشهورة “قتال المرتد أولى من قتال الكافر الأصلي”.
- مثل السلوك الطائفي لدى “العلويين” تحديداً حالة مستمرة منذ وصولهم للحكم في سوريا وحتى الآن، على عكس السلوك الطائفي لداعش -إذا سلّمنا جدلاً أنه يمثل “السنّة”- الذي يُعد حالة طارئة مستنكرة بشدة من عموم السنة.
- تشكل الوعي الطائفي لدى غالبية “العلويين” بدلالة ما ذكرناه في الفقرتين 1و3 أعلاه، في حين أن الوعي الطائفي لدى داعش انحصر في فئة أقلوية منبوذة داخل “السنّة”، ولم يكن في فترة من الفترات حالة سائدة ضمنهم.
- الأدوات الدينية، 10-5-2020.
- الأدوات التعليمية والاجتماعية، 2-6-2020.
- الأدوات الإعلامية والديموغرافية، 30-6-2020.
- التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا (4): مخاطره على الهوية السورية وسبل مواجهته، 19-9-2020.