المقال التحليلي “الجولاني، من رحم “داعش” إلى “قائد ثوري شعبي”؟ “
طرأت تحولات عدة على مؤسِّس تنظيم “جبهة النصرة” “أبو محمد الجولاني”؛ بدءاً من انضوائه تحت راية تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، وهو تنظيم “داعش” ذاته قبل “تمدده إلى الشام”، ثم إعلانه زعيماً لـ”جبهة النصرة” التي كانت فرعاً سرّياً لتنظيم “دولة العراق الإسلامية”، ثم قيام الجولاني ببيعة تنظيم القاعدة الأمّ رفضاً لما أعلنه البغدادي من وصاية على “جبهة النصرة” بعد كشف حقيقتها كفرع من تنظيم “دولة العراق الإسلامية”، إلى تحوُّل “جبهة النصرة” إلى تنظيم “جبهة فتح الشام” الذي أعلن الانفصال عن تنظيم “القاعدة”، وصولاً إلى إعلانه “هيئة تحرير الشام” وانضمام عدد من الفصائل إليها؛ كجماعة الزنكي، ثم انفصال الزنكي عنها والاقتتال معها، وانتهاءً بانقلاب الجولاني الأخير على القياديين “المتشددين” داخل “هيئة تحرير الشام” نفسها، ومن ضمنهم رفاق درب “الجولاني” طوال سنوات بعدما اعتمد عليهم في تكريس نفوذه في الشمال السوري[1].
تناقضات كثيرة مرّ بها” الجولاني” في تلك الفترة؛ سواءٌ من الناحية الإيديولوجية لتنظيمه أو من الناحية الشخصية له بحد ذاته[2]، منها ما وصل إلى بعض القضايا الجوهرية التي أسس تنظيمه عليها[3]، لنجد أن “الجولاني” تشكلت فيه شخصيات عدة داخل شخصية واحدة؛ كل واحدة تم استهلاكها حسب طبيعة المرحلة ومتطلباتها، حتى لو كانت تهدم الفكر الأساسي الذي بنى عليه “الجولاني” تنظيمه، مما يضفي عليه الطابع البراغماتي الانتهازي بامتياز.
وجاء ظهور “الجولاني” الأخير في أيام عيد الأضحى المبارك بين الناس في مطعم لبيع الفول والفلافل والتقاط “السيلفي” مشهداً في سلسلة مشاهد تكشف عن التناقضات في شخصية “الجولاني” الذي كان يتحاشى الظهور أمام الناس[4]؛ فقد ظلّ طوال سنوات لا يعرف الناس عنه سوى لقبه، فيما لا يزال الجدل دائراً حتى الآن على حقيقة اسمه، وحينما أجرت معه قناة “الجزيرة” أول لقاء متلفز لم يكن هناك ظهور مرئي له بذريعة الأسباب الأمنية[5]، في حين تبدو اليوم الأسباب الأمنية “المفترضة” أكثر خطراً بعد تقلُّص مساحة سيطرة “هيئة تحرير الشام” وفصائل المعارضة عموماً في الشمال السوري.
إضافة إلى ما يظهر في تصرفات “الجولاني” من دلالة أنه يحاول تسويق نفسه من خلال الظهور المتكرر وما فيه من رسائل “اللقاءات العفوية”؛ فإنها تبدو معبرة عن أزمة يعيشها “الجولاني”، الذي يبدو أنه يتخوَّف على مستقبل “هيئة تحرير الشام”، وذلك بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها مناطق شمال غرب سوريا؛ حيث أثّرت الاتفاقات الإقليمية والدولية في ملف إدلب على تنظيم “هيئة تحرير الشام” بشكل مباشر بعد أن بدا أنه يحاول تطويع نفسه أمام تلك الاتفاقات، تخوُّفاً من تعرُّضه لعملية عسكرية تنهيه بشكل تام، وهذا ما تجلى بصورة واضحة في موقف “هيئة تحرير الشام” الموافق على دخول القوات الروسية إلى جانب التركية إلى الطريق الدوليM4 بعد تصريح علني وواضح كان من “الجولاني” برفض دخول أي جندي روسي إلى الطريق الدولي وأي منطقة خاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”[6].
تذكّرنا هذه التقلبات والتناقضات بتقلبات الجولاني منذ البدايات؛ فهو مثلاً وفي كلمته الصوتية في بداية تأسيس التنظيم هاجم الحكومة التركية ووصفها بـ “عصا الغرب في المنطقة”، إلى جانب تكفيره الحكومات العربية و”النظام الصفوي” في إيران، وحديثه عن ضرورة “إقامة الشريعة الإسلامية في بلاد الشام”. هذه المصطلحات التي غابت تماماً في المرحلة الحالية عن خطابات الجولاني و”هيئة تحرير الشام” بشكل عام[7]، بل تحولت إلى شكر للحكومة التركية في الخطاب، وتنسيق معها على الأرض.
ولعلّ تحوُّل “الجولاني” ومحاولة تنظيف تنظيمه من القيادات المتشددة يعود إلى رغبته في عدم خسارته للسلطة؛ فهو يعتبر نفسه الحاكم الفعلي في إدلب، وهو ما ظهر واضحاً من خلال اللقاءات الأخيرة التي قام بها والتي يحاول فيها التشبه بخروج الزعماء وتنقلهم بين حاضنتهم الشعبية، (وهو ما فعله بشار الأسد في بدايات توليه للسلطة من اللقاءات “العفوية” في مطاعم دمشق)، وفي تلك المواقف والظهور المتكرر رسائل فيما يبدو للفاعلين المحليين والإقليميين أن لتنظيمه وزناً في الساحة، من خلال إظهار نفسه قائداً شعبياً يظهر بشكل عفوي بين “الجماهير”، بهدف تعزيز شرعيته وحضوره شعبياً وقبوله إقليمياً.
واللافت أن محاولات ظهور الجولاني أتت أيضاً بعد قرار شركة “وتد للبترول” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” رفع أسعار المحروقات في محافظة إدلب شمال غربي سوريا؛ رغم بيع منتجاتها بالليرة التركية، واستقرار النفط على مستوى العالم، الأمر الذي حدا ببعض النشطاء إلى تشبيه جولات الجولاني الميدانية ثم زيادة الأسعار بالإجراءات التي كان يقوم بها المسؤولون في النظام السوري سابقاً[8].
وفي الواقع تبدو محاولات “أبو محمد الجولاني” تقديم نفسه كـ “قائد شعبي” مثيرةً للاهتمام، وتقدّم نموذجاً لحجم التناقضات في ملفه وملف تنظيمه؛ نظراً إلى ماضي وحاضر سلوكه مع بقية فصائل وقوى المعارضة العسكرية والمدنية التي عمد إلى الهجوم عليها وتفكيكها[9] وسط الرفض الشعبي له ولتنظيمه.
وفي ملخص سريع لتقلبات “الجولاني” يمكن القول: إنه وللحفاظ على سلطته انقلب على كل من:
- تنظيم “داعش”: بعدما رفض تمدُّد دولة البغدادي إلى الشام، وبايعَ بدلاً من ذلك الظواهري زعيم القاعدة.
- تنظيم “القاعدة”: بعد ما أظهره من التحولات الأخيرة في تنظيمه وتدرجه نحو القبول بالاتفاقات الدولية، وبتحييد الجماعات الموالية لـ “القاعدة” كفصائل غرفة “فاثبتوا”.
- رفاق دربه المتشددين ضمن “جبهة النصرة” بعدما عملوا معه طوال سنوات.
- مواقفه الشخصية المتعددة: مثل قضايا عدم الظهور على الشاشات، والتنقل المتكرر، ودخول القوات الروسية إلى مناطق إدلب، وموقفه من تركيا، وقيادة خطاب جديد للهيئة يُراد منه الظهور بالموقف المعتدل القريب من الثورة السورية.
كل تلك التحولات تشير إلى أن الجولاني يتلّون بحسب المرحلة التي يمرّ بها بشكل شخصي؛ بحيث يبقى محافظاً على السلطة، وهي تبدو حالة فريدة من البراغماتية الانتهازية في تاريخ الجماعات “الجهادية”، واللافت أن تلك التحولات كلها مرت دون القيام بمراجعات فكرية تنقض أو تراجع ما مضى منها وتحاول إيجاد “مخارج شرعية” في الحد الأدنى، كما حدث مع جماعات أخرى[10]. كل ذلك يضع تلك التحولات في دائرة الاتهام بالتلون بحسب المصلحة دون أي مراعاة للمبادئ، مما يعني إمكانية العودة لذات الأفكار التي تم البدء بها، وتبدو التحولات بهذا الشكل ظاهرة خطيرة كونها تمثل ذروة الاستخدام المسيء للإرث الديني والفقهي لخدمة السلطة وتقلباتها بشكل سافر، وهو عين ما كان يفعله النظام السوري – ولا يزال – من تسخير وتوظيف للمؤسسات الدينية الرسمية في تثبيت حكمه وسلطته؛ الأمر الذي يؤدي إلى عواقب مجتمعية وخيمة.
قد لا يعارض الكثير من السوريين تحوُّل فصيل “هيئة تحرير الشام” إلى فصيل شعبي ثوري معتدل، لكن من الواضح أن تنازلات وتحولات “هيئة تحرير الشام” المتكررة، والمرحلة التي وصلت إليها اليوم مرتبطة بتقلبات شخصية “الجولاني” المثيرة للجدل، والفاقدة للمصداقية كونها تتقلب بحسب السياق دون أيّ مراعاة للاتّساق مع الماضي والمبادئ؛ لذا تحتاج التحولات في “هيئة تحرير الشام” إلى مصداقية حقيقية لكي تكلل بالنجاح، ويحتاج ذلك إلى مراجعات حقيقية تنفي عن التحولات الحالية صفة التلون والتقلب السريع بحسب المصلحة الآنية الشخصية لشخصية “الجولاني”، وتحتاج نفي ما يشير إليه بعض الباحثين من ترسخ توصيف “التقية” أو “الباطنية” لدى الجولاني وبعض الجماعات المشابهة، والتي تشير إلى معان سلبية (إظهار عكس النية الداخلية للجماعة مع انتظار الفرصة لانتهازها للانقلاب على الشركاء) لا تساعد في بناء الثقة والمصالحة أو السلم الأهلي، ويبدو أن غياب المصداقية سيعني غالباً فشل محاولات “الجولاني” التسويق لنفسه على أنه “قائد شعبي” و”قائد مرحلة”؛ رغم تنازلاته المتكررة التي من الممكن أن يتراجع عنها يوماً بكل بساطة طالما اقتضت مصلحته الشخصية ذلك.
[1] انقلب الجولاني على الكثير من القيادات “المتشددة” في الهيئة سابقاً أمثال “أبو مالك التلي” و”أبو العبد أشداء” وآخرين؛ فقد تم اعتقالهم ومحاولة تفكيك غرفة عمليات “فاثبتوا” التي شكلوها رداً على تحولات “هيئة تحرير الشام” و”انصياعها” للاتفاقات التركية الروسية حول إدلب. يُنظر المقالة التحليلية: نحو قراءة أولية في التصعيد بين “هيئة تحرير الشام” وغرفة “فاثبتوا” – مقال تحليلي من إعداد: وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري.
[2] على سبيل المثال: لم يكن الجولاني يظهر بوجهه، وبعد ان كشف وجهه لم يظهر إلا في حالات نادرة، لكنه في الآونة الأخيرة كرر من ظهوره، وأصبح يتحدث بلهجة الشارع على خلاف ما سبق، كما بات يُقبل على التقاط “السيلفي” مع الناس بعدما كان لا يري الناس حتى وجهه.
[3] يظهر ذلك في مواقف وبيانات “هيئة تحرير الشام الأخيرة”؛ حيث صار خطابها بعيداً عن لغة التكفير والتشدد، ليحاول اشتقاق مفردات الثورة السورية والحرية للشعب السوري، وهي مصطلحات تعتبر غير واردة في قاموس الجماعات الجهادية. يُنظر المقال التحليلي الصادر عن وحدة تحليل السياسات ل مركز الحوار السوري: “قراءة في بيان “هيئة تحرير الشام” الأخير حول اتفاق موسكو”.
[5] لقاء اليوم – أبو محمد الجولاني.. النصرة ومستقبل سوريا – قناة الجزيرة.
[8] يُنظر التقرير الصحفي: رغم التعامل بالليرة التركية واستقرار النفط عالمياً.. “تحرير الشام” ترفع أسعار المحروقات في إدلب – نداء سوريا.
[9] يُنظر على سبيل المثال: شهادة حذيفة عزام في وقت مبكر من بدايات هجوم “جبهة النصرة” على الفصائل، لله ثم للتاريخ.. شهادة حذيفة عزام على حوادث جبهة النصرة – موقع على بصيرة.
[10] مثل التحولات لدى حركة أحرار الشام أو الجماعة الإسلامية المصرية؛ إذ اقترن تغيُّر المسار عندها بمراجعات فكرية واضحة.
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة
3 تعليقات