إطلالة على أبرز التطورات السياسية والميدانية المتعلّقة بسوريا في العام 2023
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
مقدمة:
على الرغم من ثبات خارطة السيطرة في سوريا طوال العام 2023، إلا أن المنطقة مرّت بالعديد من التطورات المؤثرة نسبياً بالملف السوري، سواء على الصعيد المحلي، أو السياسي، أو الإقليمي والدولي.
في هذا التقرير نُحاول أن نستعرض -بشكل مختصر- أبرز الأحداث الميدانية والعسكرية والقضايا السياسية ذات الصلة بالملف السوري، بحيث نُعطي نظرة بانورامية عن مُجمل تطورات العام الماضي مع تحليل موجز لكل محورٍ من المحاور التالية بما يُساعد في فهم أبرز المتغيّرات التي مر بها وتداعياتها:
- استمرار الجمود في جبهات شمال غربي سوريا وسط تصعيد ميداني مستمر لنظام الأسد
- كارثة الزلزال تُعمّق فجوة الاحتياجات الإنسانية في شمال غربي سوريا
- انشقاقات تضرب “هتش” واعتقالات غير مسبوقة في صفوفها بتهمة “العمالة”
- تركيا تُصعّد ضرباتها ضد مليشيا “قسد” وتستهدف منشآت غاز ونفط
- تزايد الرفض الشعبي ضد “قسد” شرق الفرات وسط تصديرها عقدها الاجتماعي الجديد
- مظاهرات شعبية ضد نظام الأسد في السويداء
- استمرار وتيرة الاغتيالات وحالة عدم الاستقرار في الجنوب السوري
- استمرار تردّي الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة نظام الأسد
- إيران تتوغّل في قطاعات جديدة بسوريا وتُرسّخ وجودها ونفوذها باتفاقات رسمية
- “إسرائيل” تُكثّف ضرباتها في سوريا بعد عملية “طوفان الأقصى” بغزة
- جمود في مفاوضات اللجنة الدستورية ولا جديد في مفاوضات أستانا
- نظام الأسد يعود للجامعة العربية وسط استمرار عُزلته الغربيّة.. والأردن يدفع الثمن بحرب المخدرات
استمرار الجمود في جبهات شمال غربي سوريا وسط تصعيد ميداني مستمر لنظام الأسد:
تواصلت حالة الجمود العسكري في جبهات شمال غربي سوريا استمراراً لتطبيق اتفاق موسكو الموقّع بين تركيا وروسيا في آذار عام 2020 دون أي تغيُّر في خرائط السيطرة منذ ذلك الوقت في أطول فترة جمودٍ عسكري تشهدها المنطقة[1]، لكن مع ذلك استمرت الخروقات من قبل قوات نظام الأسد والطائرات الروسية في مواقع عديدة منها ما ارتبط بسياقاتٍ معيّنة، ومنها ما لم يرتبط[2].
سُجِّلت أشدّ موجات العنف في مناطق شمال غربي سوريا بعد التفجير الذي شهدته الكلية الحربية في حمص[3]، حيث استخدم نظام الأسد شتى أنواع الأسلحة مستهدفاً إلى جانب الطائرات الروسية أحياءً سكنية ومرافق تعليمية وطبية ومساجد، ومخيمات للنازحين وأسواقاً شعبية ومراكز للدفاع المدني السوري[4].
وأشار خبراء عسكريون إلى صعوبة تنفيذ هجوم الكلية الحربية من قبل فصائل المعارضة التي لا تملك التقنيّة الممكنة للقيام بذلك، فضلاً عن المسافة الشاسعة التي تُقدّر بنحو 120 كم لأقرب منطقة خاضعة لسيطرة المعارضة عن موقع الكلية الحربية، لكن مع ذلك وجد نظام الأسد بالحادثة فرصة لزيادة مستوى العنف في شمال غربي سوريا وإيقاع ضحايا مدنيين[5].
وبعيداً عن حادثة الكلية الحربية، شهدت مناطق عديدة في شمال غربي سوريا حوادث شنّت فيها قوات نظام الأسد والطائرات الروسية هجمات مكثفة وصل عددها إلى أكثر من 1276 هجوماً قُتِل على إثرها أكثر من 160 شخصاً من بينهم 46 طفلاً و23 امرأة، وأُصيب على إثر تلك الهجمات 688 شخصاً بينهم 218 طفلاً و96 امرأة[6].
ولم يتغيّر نهج نظام الأسد وروسيا في ضرب مظاهر الحياة في شمال غربي سوريا وتبديد أي أملٍ بالوصول إلى حالة الاستقرار في ظل استمرار فترة التوقّف عن العمليات البرية المفتوحة، إذ تمّ تسجيل 78 من هذه الهجمات على منشآت تعليمية (مدارس ورياض أطفال)، و18 على منشآت طبية، و33 على أماكن عبادة، إضافة إلى تسجيل 21 حادثة اعتداء في كانون الأول وحده على مراكز حيويَّة مدنيَّة، من بينها 10 حوادث اعتداء على منشآت تعليمية وحادثة اعتداء على مكان عبادة[7].
معظم تلك الهجمات لم ترتبط بردٍّ عسكريٍّ على هجوم من قبل فصائل المعارضة أو “هيئة تحرير الشام-هتش”، وإنما كان الهدف منها كما هو واضح القتل والتدمير والتهجير، ولم يخلُ بعضها من ادّعاء نظام الأسد بأنه أسقط طائرات مسيّرة قادمة من مناطق شمال غربي سوريا[8]، أو تكرار مزاعم قاعدة حميميم الروسية بأن فصائل الشمال السوري تُحضّر لشنّ هجمات ضد نظام الأسد[9]، وهي سرديةٌ لم تتوقف روسيا عن الحديث عنها منذ توقيع اتفاق موسكو في إطار مساعيها الاستمرار بالضغط على تركيا عبر ورقة “مكافحة الإرهاب” ومحاولة فتح طريق M4 الدولي[10].
وفي ضوء ذلك، يُتوقّع استمرار حالة الجمود العسكري في مختلف جبهات شمال غربي سوريا مع استمرار الانتهاكات والقصف المتكرر من جانب نظام الأسد وحلفائه، بما يمنع أي بوادر للاستقرار أو الأمن في المنطقة، وهذا ما من شأنه أن يؤدي إلى تجميد وعرقلة أي مسار تُشير له بعض الدول حول التمهيد لمرحلة انتهاء العمليات العسكرية بالشمال السوري وبدء مرحلة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين[11].
كارثة الزلزال تُعمّق فجوة الاحتياجات الإنسانية في شمال غربي سوريا:
في السادس من شباط عام 2023 أصابت كارثة الزلزال سوريا عموماً ومناطق الشمال الغربي بشكل خاص في ظل تزايد الاحتياجات الإنسانية، وظهرت الأضرار بشكل واضح في مناطق إدلب وريف حلب من خلال تهدُّم مئات الأبنية السكنية، وتحوُّل أحياء كاملة إلى أنقاض دُفِن تحتها العشرات من العائلات، لا سيما في منطقة جنديرس شمال حلب، إضافة لعدة بلدات في شمال غربي إدلب. وقد تركزت الأضرار بشكل رئيسي في كل من حارم، أطمة، سرمدا، الأتارب، وكفر تخاريم بشكل رئيسي، وتسببت بتشريد 11 ألف عائلة، فيما تم توثيق وفاة 10024 سورياً بسبب الزلزال في سوريا وجنوب تركيا، بينهم 4191 توفّوا في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، و394 في المناطق الخاضعة لسيطرته، و5439 لاجئاً في تركيا[12].
وتجلّت الكارثة في جوانب مختلفة كشفت هشاشة الوضع الإنساني والطبي والبنية التحتية عموماً على حساب قوة العامل الاجتماعي، فمثلاً تم استنزاف القطاع الطبي نتيجة الضغط الكبير على المشافي والمراكز الصحية، كما افتقرت الكثير من المناطق إلى آليات رفع الأنقاض والوقود اللازم لتشغيلها، الأمر الذي تسبَّب بزيادة عدد الوفيات، بينما تعرّضت الأمم المتحدة لانتقادات واسعة نتيجة تأخُّرها في عمليات الاستجابة المطلوبة لإنقاذ الضحايا والعالقين تحت الأنقاض بحجة أنها تنتظر موافقة من نظام الأسد للسماح بوصول المساعدات عبر معبرين في ريف حلب لا يخضعان لسيطرته أصلاً[13].
وأمام كل ذلك برز العامل الاجتماعي في دورٍ ملحوظٍ محاولاً الوقوف أمام التحدّيات المطلوبة رغم ضعف الإمكانيات، فهذه الكارثة بما حملته من مآسٍ وآلام كبيرة لشريحة من السوريين إلا أنها كانت مناسبة فعلية واستثنائية ثانية بعد أزمة وباء كورونا لاختبار مدى قوة رأس المال الاجتماعي السوري بمظاهره الإيجابية[14]، فتجلّى التضامن “التكافل” الاجتماعي من خلال مجمل أنواع المساندة المادية والمعنوية واستضافة الأسر المنكوبة وتحييد الانقسامات أو حالة التشفي والتبرير المعهودة باستثناء بعض الأصوات من شبيحة نظام الأسد، كما اندفعت فئة كبيرة من السوريين نحو العمل التطوعي والانخراط المجتمعي عبر تشكيل سكان المدن والبلدات الأقل تأثراً بكارثة الزلزال فرقاً ومجموعات شبابية تطوّعية للمساهمة في عمليات الإنقاذ والاستجابة في المناطق السورية والتركية على حدٍّ سواء، للمساهمة في رفع الأنقاض والبحث عن الناجين تحت الركام[15].
أما في مناطق سيطرة نظام الأسد، فقد تدفّقت المساعدات الدولية بشكل كبير وسط استثمار سياسي لكارثة الزلزال من قبل نظام الأسد وأذرعه الإعلامية[16]، فخرجت دعوات عديدة تطالب برفع العقوبات عنه، في ذات الوقت الذي تم فيه توثيق إقدام نظام الأسد على سرقة المساعدات التي أُرسلت للمتضررين الذين لم يصل لهم منها سوى الشيء القليل، كما عمدت قوات الأمن التابعة لنظام الأسد على منع البعض من توزيع المساعدات بشكل مباشر على الأهالي واشترطت عليهم الحصول على تصريح أمني أو تسليم تلك المساعدات لمبنى المحافظة، كما انتشرت العديد من الأخبار على الصفحات المحلية تُفيد بقيام جهات بسرقة المساعدات المحلية، أو حتى تلك المُقدَّمة من الدول وبيعها في الأسواق، كما يحصل عادة مع المساعدات الأممية طوال السنوات الماضية، أو توزيعها بشكل غير عادل من قبل القائمين على مراكز الإيواء أو مراكز توزيع المساعدات[17].
وفي السياق الإنساني، لا تزال مناطق شمال غربي سوريا مُهدّدة بسيناريوهات أسوأ وحصول مجاعات في ظل استمرار الابتزاز الروسي لملف توصيل المساعدات عبر الحدود، حيث تتكرر في كل عام قضية موافقة روسيا على دخول المساعدات عبر معبر باب الهوى، وسط رغبة روسية بأن تدخل المساعدات عبر الخطوط[18]، أي عبر مناطق سيطرة نظام الأسد، ما يجعلها عُرضة للسرقات من ناحية، ومن ناحية ثانية يُعطي نظام الأسد ورقة جديدة يضغط بها على فصائل المعارضة.
وعلى ضوء ذلك، يظهر أن روسيا تمكّنت من تحييد مجلس الأمن بخصوص ملف توصيل المساعدات إلى مناطق شمال غربي سوريا، إذ أصبح التجديد بيد نظام الأسد الذي بات حالياً يُعطي موافقة مؤقتة على إدخال المساعدات في كل 6 أشهر، الأمر الذي يجعل قضية التمديد تحت رحمة نظام الأسد، في حين من المرجّح أن يُمدِّدَ دخول المساعدات في منتصف العام مقابل حصوله على بعض التنازلات من الأمم المتحدة خصوصاً ما يتعلق بالتعافي المُبكّر، بذات الوقت الذي فشل به مجلس الأمن في تجديد قرار تمديد دخول المساعدات، وربط الأمم المتحدة الموافقة على إدخال المساعدات بموافقة نظام الأسد، في ورقة جديدة للابتزاز من المرجح أن تظهر نتائجها السلبية على منطقة شمال غربي سوريا خلال هذا العام أو الذي يليه على أبعد تقدير.
انشقاقات تضرب “هتش” واعتقالات غير مسبوقة في صفوفها بتهمة “العمالة”:
مرّ العام 2023 بالعديد من الأحداث التي شهدت تطوّرات في ملف “هيئة تحرير الشام-هتش” شمال غربي سوريا، من أبرزها الانشقاقات والاعتقالات لقياديين في “هتش”، إذ أعلن القيادي في “هتش”، جهاد عيسى الشيخ، الملقّب “أبو أحمد زكور” في منتصف كانون الثاني الماضي، انشقاقه عنها عبر بيانٍ رسميّ بعد تمكُّنه من الهروب إلى أعزاز، مشيراً إلى أن قيادة “هتش” بدأت تدريجيّاً بتغيير سياستها عن طريق السيطرة والهيمنة وقضم الفصائل وتفكيكها، والسعي إلى السيطرة العسكرية والأمنية والاقتصادية في مناطق الجيش الوطني السوري، والعمل الأمني من خطف وغيره دون التنسيق مع أي جهة ودون علمه الشخصي، بالإضافة لتوجيه التهم المعلّبة والجاهزة لكل مخالف لنهج قيادة “هتش” وتشويه صورته، سواء كان من داخل “هتش” أو خارجها[19].
وشكّل انشقاق “أبو زكور” ضربة لـ”هتش” لكونه من قيادات الصف الأول فيها، ويُعدّ بمثابة “الصندوق الأسود” للتنظيم لما يحويه من معلومات وتفاصيل كثيرة عنه بحكم ملازمته للجولاني[20]، ولكون انشقاقه جاء وسط أزمة تعيشها “هتش”، فانشقاقه عنها جاء بعد وقتٍ قصيرٍ من اعتقال “هتش” للقيادي في صفوفها “أبو ماريا القحطاني” بتهمة التعامل مع التحالف الدولي، إضافة لتكثيف “هتش” حملات الاعتقال في مناسبات عديدة من العام الماضي ضدَّ عناصر وقياديين يعملون في صفوفها بتهمة “التخابر” مع التحالف الدولي وروسيا ونظام الأسد ومليشيا “حزب الله” اللبناني[21]، وطالت عمليات الاعتقال قياديين آخرين غير أبو ماريا، مثل “أمير هتش” في مدينة تفتناز أبو اليمان تفتناز، وأبو صبحي تل حديا المنضوي في “لواء علي بن أبي طالب”، وأبو خالد مسؤول “الكتلة الشرقية”، ومسؤول “الدراسات الأمنية” عن منطقتي سرمدا والوسطى، ومسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري وآخرين.
وعلى ضوء ذلك، يُرجَّح استمرار الانشقاقات في صفوف “هتش” لسببين؛ الأول: أن الشخصيات التي انسحبت منها قد يكون لها نفوذ وموالون داخل “هتش” ربما يكونون محلّ استهداف من قبل قيادة التنظيم، والثاني: بسبب التحريض من قبل الشخصيات التي انسحبت وأعلنت انشقاقها، كما إن بُنية هذه التنظيمات القائمة على التقيّة والمجاهيل تجعل إمكانية اختراقها كبيرة.
كذلك من المتوقّع استمرار سلوك “هتش” في القمع ومحاولة التغطية على هذه الانشقاقات بأنها هامشية وغير مؤثرة وأنه من الطبيعي حدوثها كما تحّدث الجولاني ذاته عنها، الأمر الذي يُشبه إلى حدٍّ ما سلوك أيّ نظامٍ أمني عندما تحدث فيه انشقاقات يعتبرها “حالة صحية” وأن الشخص المنشق هو سيئ وهذا “تنظيف ذاتي” للتنظيم[22].
تركيا تُصعّد ضرباتها ضد مليشيا “قسد” وتستهدف منشآت غاز ونفط:
لم تُطلق تركيا عملية عسكرية برية خلال العام 2023 رغم رغبتها في ضمّ مناطق جديدة إلى سيطرتها، خصوصاً التي تعدُّ مصدرَ تهديدات أمنية لها ولمناطق نفوذها بسوريا مثل تل رفعت شمال حلب ومنبج شرقها، إضافة لمدينة عين العرب-كوباني القريبة من الحدود بريف حلب الشمالي الشرقي، أو المناطق القريبة من جبهات تل أبيض ورأس العين في شمال شرق سوريا، ويبدو أن مردّ ذلك يعود إلى عدم وجود توافقاتٍ بين تركيا وروسيا، وتركيا والولايات المتحدة، فكل طرف من هذه الأطراف الفاعلة لم يُبدِ المرونة المطلوبة للجانب التركي لإطلاق عملية عسكرية برية.
ولكن الجديد في العام الماضي هو كثافة الضربات التركية على مواقع حيوية ونفطية لمليشيا “قسد” لم يسبق أن استهدفتها تركيا بهذا الشكل في مناطق شمال شرق سوريا، فتعرّضت منشآت نفظ وغاز وكهرباء لهجمات من قبل الطيران التركي المُسيّر، أبرزها في كانون الأول المنصرم، وذلك رداً على مقتل 12 جندياً تركياً بهجوم لمليشيا “حزب العمال الكردستاني” في شمال العراق، ما تسبّب بتدمير عشرات المنشآت ودخول “قسد” في حالة من التخبط والارباك لأن تركيا ضمت أهدافاً إلى قائمة القصف تُشكّل عصب الاقتصاد بالنسبة لـ”قسد”، ولم تعد تُركّز في القصف فقط على المواقع العسكرية، والتي من المحتمل أن “قسد” لا تتأثر فيها بشكلٍ كبيرٍ بحكم تعاملها المعتاد مع مثل هذه الضربات منذ سنوات[23].
ومن المثير للانتباه خلال العام الماضي تسجيل أول حادثة إسقاط طائرة مُسيّرة تركية بنيران مقاتلة أمريكية، بحُجة اقتراب الطائرة من قاعدة أمريكية في ريف الحسكة الشمالي، الأمر الذي أبدت تركيا استنكارها له خصوصاً أن الدولتين عضوين في حلف شمال الأطلسي “الناتو”[24]، وقد جاءت حادثة إسقاط الطائرة التركية في خضمّ تكثيف تركيا من هجماتها على أهداف لـ”قسد” رداً على هجوم تبناه “حزب العمال” في العاصمة أنقرة[25]، كما كان من اللافت أيضاً في العام الماضي الضربات التي شنتها تركيا في مطار السليمانية بالعراق أثناء وجود قائد مليشيا “قسد” مظلوم عبدي دون أن يتعرض للإصابة[26].
يمكن القول إن الحراك التركي في مناطق شمال شرق سوريا طوال العام 2023 أظهر أن أنقرة لا تزال راغبةً بالسيطرة على المناطق التي تُشكّل تهديداً لها، لكنها متريّثة بالتوسع في ذلك في ظل عدم حصول توافقاتٍ مع واشنطن وموسكو واللتين بيدهما أوراق ضغط على أنقرة، وهو ما تستعيضُ عنه تركيا مؤقتاً بتدمير البنية التحتية لـ”قسد” لتشكيل حالة ردع تمنع مليشيا “حزب العمال الكردستاني” من مهاجمة الحدود التركية أو شنّ هجماتٍ على الجنود الأتراك، وهو ما يبدو مستبعداً بسبب استمرار الحزب المُصنّف على لوائح الإرهاب بعملياته ضد القوات التركية وهيمنته الكبيرة على “قسد” وتحرُّكاتها بالمنطقة، الأمر الذي يجعل مناطق سيطرة “قسد” عُرضة للهجوم التركي لتبديد المخاوف الأمنية لدى تركيا.
تزايد الرفض الشعبي ضد “قسد” شرق الفرات وسط تصديرها عقدها الاجتماعي الجديد:
ازدادت حالة الرفض الشعبي ضد “قسد” في عدة مناطق شرق الفرات وخصوصاً في ريف دير الزور الذي شهد في العام الماضي تطوّرات عسكرية عُدّت الأضخم في المنطقة منذ طرد تنظيم داعش بعد معركة “الباغوز” عام 2019، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” من جهة، وأبناء العشائر العربية ومجلس دير الزور العسكري الذي يُعدّ أحد مكونات “قسد” من جهة أخرى، وذلك بعد اعتقال “قسد” قائد المجلس أحمد الخبيل المعروف بـ”أبو خولة” وقياديين آخرين من المجلس[27].
وقد كانت الاشتباكات الحلقة الأخيرة من حلقات الخلافات المتجذرة بين الطرفين، والتي بلغت ذروتها في شهر تموز الماضي، حينما بدأ الخبيل ما يُشبه “التمرد” ضد “قسد” وسيطرت قواته على عدد من النقاط رداً على مقتل اثنين من عناصر “مجلس دير الزور العسكري” على يد قوات “الشرطة العسكرية” التابعة لـ”قسد” في بلدة الصّور شمال دير الزور، لتشهد المنطقة حالة استنفار في عدد من القرى قبل أن يُوعز الخبيل لعناصره بالانسحاب والعودة للتهدئة التي كان متوقّعاً ألا تدوم طويلاً بسبب سعي “قسد” إلى تحجيم الخبيل مع وجود خلافات تراكمية بين الطرفين.
تمكّنت “قسد” من الإيقاع بالخبيل بعد استدعائه إلى اجتماع في محافظة الحسكة، فيما يبدو أنه عمل مُدبّر لاعتقاله، الأمر الذي أشعل فتيل الاحتجاجات من بعض أنصار الخبيل من أبناء عشيرته، إلا أن الأمر تطوّر إلى معظم أرياف دير الزور الشمالية والغربية والشرقية بسبب الانتهاكات التي قامت بها “قسد” بحق أبناء المنطقة خلال عمليات الدهم بدير الزور بذريعة مواجهة خلايا داعش.
وقد استمرت الاشتباكات قرابة شهر تمكّنت “قسد” خلالها من السيطرة على كافة القرى والبلدات التي خرجت عن سيطرتها لصالح العشائر العربية، ولكن ومع مُضيّ عدة أشهر على سجن الخبيل وتمكّنها من استعادة تلك المناطق إلا أن منطقة دير الزور قابلة للاشتعال في أي لحظة وتشهد هجمات متقطعة تشنها العشائر العربية ضد أهداف لـ”قسد” في المنطقة، خصوصاً بعدما أعلن شيخ عشيرة العكيدات إبراهيم الهفل، تشكيل قيادة عسكرية للعشائر العربية[28].
ويبدو أن أحد أبرز أسباب دعم المجتمع المحلي للعشائر ضد “قسد” هو استمرارها بسياسة التهميش التي تعاني منها منطقة دير الزور طوال السنوات الماضية، من نقصٍ في الخدمات الأساسية مثل المشافي والمراكز الصحية والمدارس والطرقات العامة، لكن لجوء “قسد” إلى السلاح الثقيل مكّنها بشكل مؤقت من احتواء الأزمة وليس إنهاءها بشكل كامل، مستفيدة من عامل التنظيم العسكري والدعم المفتوح من التحالف الدولي بعكس العشائر العربية التي لا تملك المقاتلين المُدرّبين ومعظم شبابها قدموا للقتال بحكم ما يُعرف بـ”الفزعة”[29].
وبالتزامن مع أزمة “قسد” مع العشائر العربية، أصدر ما يُسمى المؤتمر العام التابع لـ “مجلس سوريا الديمقراطية- مسد” وثيقة “العقد الاجتماعي” لـ “الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا”، معلناً سوريا “جمهورية ديمقراطية”.
من حيث المضمون، ركّزت وثيقة “العقد الاجتماعي لشمال وشرق سوريا” على إظهار مضامين ذات دلالات “تقدمية” من خلال إعلانها التمسُّك بالمواثيق الدولية، وتبنّيها قضايا رئيسة كالمرأة والطفل والبيئة والأقليات، وبشكل متكلَّف تشير في أحد أهم دلالاتها إلى سعي “قسد” لتسويق وثيقتها خارجياً، خصوصاً لدى الدول الداعمة لها باعتبارها وثيقة تتوافق والاتفاقيات والمواثيق الدولية؛ مع أن الواقع يؤكد انتهاك “قسد” هذه الشعارات والمبادئ والضرب بها عرض الحائط. كذلك كان إظهار أيديولوجيا “حزب العمال الكردستاني” ومفاهيمه من أهم الدوافع خلف صياغة بعض نصوص هذه الوثيقة، وذلك من خلال تمرير بعض مفاهيم مؤسِّسه عبد الله أوجلان، مثل مفاهيم: الأمة الديمقراطية، والكونفدرالية الديمقراطية، والنظرة للتنظيم المجتمعي، ومفهوم “الجينولوجيا” حول المرأة[30].
ومن حيث التكييف القانوني والفعلي لـ “العقد الاجتماعي لشمال وشرق سوريا”؛ كانت الوثيقة فاقدة لشرعية الجهة التي يمكن أن تُصدر مثل هذه الوثيقة، وشرعية المسار الإجرائي من جهة عدم وجود مشاركة مجتمعية في صياغته، وتهميشه رُؤى الناس من مختلف المكوّنات، بما فيها المكوّن الكردي. إلى جانب أنها جاءت في سياق أبعد ما يكون عن سياق بناء التوافقات المجتمعية في ظل وجود القوى الأجنبية وعدم الاستقرار، فضلاً عن اقتصار العقد على منطقة جغرافية معيّنة، بما يعنيه ذلك من إمكانية أن يشكّل مثل هذا السلوك عاملاً إضافياً للشروخ المجتمعية القائمة أصلاً، ولذا لا يمكن بحال من الأحوال وصف الوثيقة تلك بـ”عقد اجتماعي”؛ فهي في واقع الأمر أقرب ما تكون من الناحية الموضوعية إلى رؤية حزبية خاصة بـ”قسد” لإدارة المنطقة، مفروضة بقوة سلطة الأمر الواقع التي تمثلها “قسد”، غُلّفت بنصوص عامة وشعارات إنسانية يسهل معها تسويق الوثيقة باعتبارها “عقداً اجتماعياً” يؤسس مستقبلاً لشرعية التقسيم والانفصال[31].
مظاهرات شعبية في السويداء ضد نظام الأسد:
تفجّرت احتجاجات في محافظة السويداء لم تكن جديدة بمضمونها وسياقها؛ فقد سبق أن طالب الشارع في السويداء بإسقاط بشار الأسد ومحاسبة الفاسدين، لكن كان من اللافت تبنّي الشارع بشكل كبير شعارات الثورة السورية وحرق وإغلاق مقرات حزب البعث من العديد من القرى والبلدات في المحافظة، والاستمرار بنسق التظاهرات بشكل منتظم منذ نحو 5 أشهر، والتوجّه إلى المجتمع الدولي والأمم المتحدة لتطبيق القرار 2254 تحت البند السابع مع التأكيد على رفض اختزال الحل في سوريا باللجنة الدستورية، وضرورة خروج كافة القوى الأجنبية من سوريا وخصوصاً المليشيات الإيرانية[32].
يمكن تلخيص أبرز السمات الرئيسة لموجة الاحتجاجات الحالية بأنها أكثر زخماً وأكبر حجماً من المظاهرات التي خرجت في السنوات الماضية، إضافة لوضوح مطالب الحراك بإسقاط نظام الأسد وعدم التنازل عن هذا المطلب، فضلاً عن مشاركة العشائر العربية والبدو ودعمهم للحراك السلمي ومشاركة مشيخة العقل ونزولهم للشوارع -بغضّ النظر عن مدى دعمهم للمطالب المطروحة- ودعم الحراك من مناطق الشمال ودرعا[33].
ومع كثرة الحديث عن أن الحراك في السويداء خرج على وقع الأزمة الاقتصادية، حاول المحتجون في كثير من التظاهرات التي خرجت بالمدينة وريفها التأكيد على أن حراكهم ليس ثورة جياع؛ إنما يحمل بُعداً سياسياً، وأن علاقتهم مع باقي المكونات السورية الكردية والعربية قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون في سبيل تحقيق أهداف مشتركة وتحقيق التغيير المطلوب[34].
وسعى نظام الأسد إلى شقّ صف مرجعيات الدروز في السويداء، عبر محاولة استمالة شيخ العقل يوسف الجربوع، والذي وصف أصوات “بعض” المتظاهرين بالنّشاز، وأكد التزامه بقرارات “القيادة” (نظام الأسد)، كما انتقد رفع المتظاهرين للراية التي تمثل “الطائفة الدرزية” باعتبارها راية ليست وطنية، وأكد أن “العلم السوري” هو العلم الوطني، في حين واصل شيخ العقل حكمت الهجري[35]، الثبات على موقفه بدعم الحراك، ومع نهاية العام 2023 خرج بتسجيل مصوّر يؤكد فيه استمرار الحراك السلمي في محافظة السويداء ورفض العودة إلى الوراء، منتقداً حالة “الصمت والإذلال” خلال الفترة الماضية، وأن الشعب السوري “لا يطلب سوى حقّه الشرعي بكل شيء”[36].
وبالرغم من مضي نحو 5 أشهر من التظاهرات لا يزال السؤال مطروحاً عن الجدوى من الاستمرار بالاحتجاجات على نفس الوتيرة، وما هي المآلات التي من الممكن أن تصل إليها الأوضاع في المحافظة، وسط محاولات البعض تمرير مشاريع وأجندات وُصِفت بالانفصالية والدعوة للمقاربة أو تقليد مشاريع “قسد”[37]، مثل إعلان “حزب اللواء” تأسيس مؤسسات خدمية بديلة لمؤسسات نظام الأسد، ما أعطى مؤشراً جديداً على رغبته بتأسيس “إدارة ذاتية” مستقلة خاصة بالمكوّن “الدرزي” أُسوةً بمناطق شمال شرقي سوريا التي يغلب عليها الطابع “الكردي”[38]، ثم دعوة بعض الفنانين إلى فتح قنوات تواصل وحوار مع “قسد”[39]، رغم أن المتظاهرين عبرّوا في أكثر من مناسبة عن انتقادهم لمشروع “قسد” و”الإدارة الذاتية” بشكل عام[40].
بالعموم، يمكن القول إن حراك السويداء وإن كان غير قادر لوحده على إسقاط نظام الأسد أو الضغط عليه بشكل كبير، إلا أن استمراره بنفس الوتيرة والشعارات سينزع من نظام الأسد تدريجياً ورقة حماية الأقليات التي كثيراً ما كان يُتاجر بها هو والدول الداعمة له أو التي تتذرع بأن سقوطه سيُؤدّي إلى مخاطر قد تطال الأقليّات في سوريا.
استمرار وتيرة الاغتيالات وحالة عدم الاستقرار في الجنوب السوري:
لم يختلف الوضع كثيراً في محافظة درعا خلال العام 2023 عن الأعوام السابقة منذ توقيع اتفاق “التسوية” برعاية روسية في 2018، إذ لا تزال المحافظة تعاني من فوضى الاغتيالات والانفلات الأمني وانتشار المليشيات الإيرانية، وازداد الوضع سوءاً بعدما باتت مناطق عديدة في المحافظة مركزاً لتصنيع وتهريب المخدرات نحو الأردن[41].
ومن أبرز ما سُجِّل في العام الماضي، تمكُّنُ نظام الأسد من توظيف تنظيم داعش لاقتحام عدة مناطق في درعا تحت ذريعة مواجهة خلايا التنظيم، خصوصاً أنه ومنذ اتفاق “التسوية” لم يسيطر نظام الأسد بشكل فعلي على عدة مدن وبلدات في المحافظة، كما توصف سيطرته على العديد من المناطق بأنها “هشة” و”ضعيفة”، وذلك بسبب مجموعة من العوامل أبرزها فقدان الثقة به من قبل الحاضنة المحلية التي أجرت “التسوية” في ظل كثرة الانتهاكات ومحاولته التخلّص من معارضيه السابقين، سواء عبر الاغتيالات أو عبر الاعتقالات والقتل تحت التعذيب في السجون[42].
وخلال العام 2023، استغلّ نظام الأسد ذريعة وجود تنظيم داعش ليقوم بحصار عدد من المناطق في المحافظة، بدءاً من مدينة طفس في ريف درعا الغربي، ومدينة جاسم في الريف الشمالي، وما تخلل ذلك من انتهاكات واسعة مثل قصف الأحياء السكنية وتفجير بعض المنازل ونهب أخرى وسرقة محتوياتها[43].
كما استمرت عمليات الاغتيال خلال العام 2023 بوتيرة مرتفعة وفي مختلف مناطق المحافظة، طالت هذه العمليات أشخاصاً ينتمون إلى خلفيات متعددة، وحتى من المدنيين، كما استمر سقوط ضحايا في مختلف المناطق نتيجة وجود الألغام والمخلفات الحربية غير المنفجرة، وعدم قيام نظام الأسد بإزالتها[44].
على مستوى الأرقام، تم توثيق 402 عملية ومحاولة اغتيال، نتج عنها مقتل 278 شخصاً، موزعين على 118 قتيلاً مدنياً، و160 قتيلاً غير مدني، ومن ضمن الحصيلة مقتل 40 من العناصر السابقين بفصائل المعارضة الذين أجروا “تسوية” عام 2018 ولم ينخرطوا ضمن أيّ جهةٍ عسكرية، وتبيّن أن أكثر من نصفهم قُتلوا على يد خلايا تابعة لتنظيم “داعش”[45]، وهذا ما يُعطي مؤشرات بأن نظام الأسد يُوظّف داعش ويُسهّل تحركاته في منطقة درعا لتنفيذ اغتيالات ضد المعارضين السابقين، وفي ذات الوقت يتخذ من وجود خلايا التنظيم ذريعة لشنّ عمليات الاقتحام.
وبلغ عدد المعتقلين من أبناء محافظة درعا خلال العام الماضي، 278 معتقلاً، أُفرج عن 120 منهم وقُتل اثنان تحت التعذيب، وهما من العسكريين المنشقين عن نظام الأسد سابقاً، فيما لا يزال 157 معتقلاً ممن اعتقلوا خلال العام قيد الاحتجاز[46]، بينما بلغ عدد حالات الخطف في محافظة درعا في العام الماضي 126 حالة خطف أُفرج عن 91 مخطوفاً منهم وقُتل 29 مخطوفاً، فيما لا يزال هناك 6 مختطفين غير معروف مصيرهم، بينما تبيّن أن ما لا يقل عن 45 مخطوفاً من إجمالي عدد المخطوفين الكلي تسبّبت بخطفهم مجموعات مدعومة من قبل أجهزة نظام الأسد الأمنية[47].
على مستوى الاحتجاجات، ازداد زخم المظاهرات الشعبية المناهضة لنظام الأسد في درعا خلال العام الماضي خصوصاً بعد تفجُّر المظاهرات في السويداء وما رافقها من خروج أهالي العديد من المدن والبلدات في درعا بتظاهرات حاشدة لدعم حراك السويداء[48]، في حين لم يتوان نظام الأسد عن قصف أحياء سكنية بالمدفعية الثقيلة في بعض المناطق رداً على خروج التظاهرات[49].
يمكن القول إن سيطرة نظام الأسد على العديد من المناطق في درعا لا تزال ضعيفة والوضع في المحافظة بعيدٌ عن الوصول لحالة الاستقرار، وذلك في الوقت الذي تزداد فيه عوامل انعدام الثقة بروسيا كطرفٍ ضامن لاتفاقات “التسوية” مع نظام الأسد، في ظل عدم قيامها بأي دور يردع نظام الأسد والمليشيات الموالية له عن ممارسة الانتهاكات بحق المدنيين أو الحد من انتشار المليشيات الموالية لإيران، والتي استفادت من نفوذها ببعض المناطق لتحويلها إلى مركز لتصنيع وتجارة المخدرات بالتعاون مع “الفرقة الرابعة” التابعة لنظام الأسد[50].
استمرار تردّي الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة نظام الأسد:
انتهى العام الماضي بزيادة مستوى تدهور الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة نظام الأسد على وقع الخسائر المستمرة في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، حيث تجاوزت 14 ألفاً للدولار الواحد، وسط إقدام نظام الأسد على خطوات حاول بها الإيحاء بأنه يحاول تحسين دخل الفرد، لكنها أتت بنتائج عكسية، خصوصاً زيادة الرواتب بنسبة 100% والتي لم تكن ذات أثر في معيشة السوريين[51]، لأنها اقترنت طرداً بانخفاض متسارع وكبير في قيمة الليرة السورية من جهة، ولأنها ارتبطت كذلك برفع الدعم عن المحروقات الرئيسية التي تتحكم أسعارها عادة بعدة قطاعات حيوية ومعيشيّة، خصوصاً أن نظام الأسد أقر زيادات أكثر من مرة طوال العام على أسعار المحروقات، الأمر الذي انعكس على أسعار السلع الأساسية.
ويبدو أن زيادة الرواتب تكتيك يستخدمه نظام الأسد لامتصاص الغضب الشعبي في مناطق سيطرته قبل أي توجّه لرفع الدعم بشكل نوعي، خصوصاً أن العام الماضي شهد احتجاجات في عدة مناطق مثل السويداء ودرعا وجرمانا، وسط تصاعد الأصوات المنتقدة لنظام الأسد في مناطق بالساحل السوري، الأمر الذي دفع نظام الأسد إلى شن عدة عمليات اعتقال في محاولة لإسكات أية أصوات منددة بالوضع المعيشي المتردي[52].
لكن مع ذلك ينظر بعض المراقبين إلى أن انهيار الوضع الاقتصادي في مناطق نظام الأسد عموماً قد يصبّ في مصلحته وخططه في ابتزاز المجتمع الدولي بقضية عودة اللاجئين السوريين لدفع الدول العربية المطبّعة معه على وجه الخصوص لدعم مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار، وهذا ما يجعل من ملايين السوريين في مناطق سيطرة نظام الأسد رهينة للابتزاز وسط ازدياد حجم المعاناة ومعدّلات الفقر[53].
إيران تتوغّل في قطاعات جديدة بسوريا وتُرسّخ وجودها ونفوذها باتفاقات رسمية:
شهد العام 2023 توغّل إيران في قطاعات اقتصادية جديدة، وهو ما تمثّل بإعلان طهران تأسيس بنك وشركة “تأمين سورية- إيرانية مشتركة”، مع وجود خطط لإنشاء منطقة حرة إيرانية في سوريا بعد إلغاء التعرفة الجمركية، وجاء ذلك بعد نشاط متبادل في الزيارات بين نظام الأسد وإيران، إذ زار رئيس إيران، إبراهيم رئيسي، دمشق في أول زيارة لرئيس إيراني إلى سوريا منذ نحو عقد[54].
ومن بين ما تم الاتفاق عليه، “تسريع الإجراءات الثنائية المطلوبة لتأسيس مصرف مشترك بهدف تسهيل التبادل التجاري”، حيث ستكون شركة التأمين المشتركة عبارة عن “تحالف” من شركات التأمين الإيرانية والسورية، ومن ناحية البنك المشترك، ستسهم إيران بـ60% من أصوله بينما 40% من إسهام الجانب السوري، وفق تصريحات المسؤولين الإيرانيين[55]، إضافة لتعاملات اقتصادية أخرى جرت على المستوى الرسمي بين “مصرف سوريا المركزي” والمصرف المركزي الإيراني[56].
وفي واقع الأمر، فإنّ المصالح الاقتصادية الإيرانية في سوريا ليست وليدة الزيارة[57]؛ فطهران بدأت فعلياً بمرحلة تقاسم “الكعكة السورية” مع روسيا بعد عام 2017م من خلال استثمارات في حقول نفط وغاز وفوسفات شرق ووسط البلاد، إلا أن الزيارة جلبت معها الحديث عن مشاريع ربط سوريا مع إيران بشبكة كهرباء، وتأسيس مصرف مشترك لتسهيل التجارة البينية[58].
وقد لخّص الرئيس الإيراني رسائله السياسية من زيارته إلى دمشق بالتأكيد أن العلاقة بين بلاده ونظام الأسد قد امتزجت بـ”الدم”، وأنه “لا يمكن إحداث أي شرخ” في هذه العلاقة؛ في إعلانٍ صريحٍ للدول العربية -والغربية كذلك- أن العلاقة بين الطرفين باتت أشبه بوضع “توأم سيامي”، وهذا يعني بشكل مباشر أن تلك العلاقة باتت خارج إطار أي شروط موضوعة على طاولة نظام الأسد بخصوص العلاقة مع إيران.
كما أثار بعض المسؤولين الإيرانيين موضوع الديون المستحقة لإيران من نظام الأسد لقاء إنقاذه من السقوط في العقد الماضي[59]، تزامناً مع تسريب وثيقة حكومية مُصنّفة “سريّة” صادرة عن الرئاسة الإيرانية تشير إلى أن طهران أنفقت 50 مليار دولار على الحرب في سوريا، وتعتبرها “ديوناً” تريد استعادتها على شكل استثمارات ونقل للفوسفات والنفط والموارد الأخرى من سوريا إلى إيران[60].
في سياقٍ آخر، سهّل نظام الأسد زيارات الإيرانيين والعراقيين القادمين إلى سوريا، فمن جهة أصدر “مصرف سوريا المركزي”، قراراً يسمح بموجبه للزوار الإيرانيين القادمين عن طريق “منظمة الحج والزيارة الإيرانية” بتسديد أجور الإقامة في الفنادق بالليرة السورية[61]، ومن جهة أخرى ألغى نظام الأسد الدراسة الأمنية وتأشيرة دخول الأراضي السورية للمواطنين العراقيين على جميع المنافذ الحدودية البرية والبحرية، ما يُسهّل تدفّق الزوار الشيعة الراغبين بشكلٍ خاصٍ بزيارة المقامات والأضرحة الشيعية، والتي سبق أن استخدمتها إيران للشحن والتجييش الطائفي وإرسال آلاف المرتزقة إلى سوريا[62].
من جانب آخر، شكّلت كارثة الزلزال المدمّر في سوريا فرصةً إضافية لإيران لتثبيت نفوذها في مناطق سيطرة نظام الأسد، وقد سارع بعض المسؤولين الإيرانيين للظهور في المناطق المتضررة كأنهم رعاة لشؤونها، حيث استغلت طهران كارثة الزلزال لترويج دعاية “الإنسانية” لأنشطتها، وتلميع صورتها الدموية التي رسمتها على مدار سنوات بالحديد والنار والتهجير؛ فظهر المسؤولون الإيرانيون يُشرفون على عمليات الإنقاذ وانتشال الضحايا في أحياء حلب الشرقية التي دمّرها قبل نحو سبع سنوات قصف نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين[63].
إضافة إلى الاستثمار السياسي والإنساني لمأساة السوريين وجدت إيران وأذرعها في الزلزال توقيتاً مناسباً لتكرار عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي في سوريا، عبر إلزام المدنيين ببيع بيوتهم بذريعة أنها “آيلة للسقوط”، أو عبر افتتاح مشاريع إسكان قد تكون في المستقبل مجرّد “مستوطنات” تقوم إيران بإيواء عناصر ميليشياتها فيها[64].
ومن جانب آخر، واصلت مليشيات إيران انتهاكاتها في العديد من الأراضي السورية، خصوصاً في منطقة البادية السورية التي شهدت أكثر من مجزرة بحق جامعي الكمأة قُتِل وأُصيب فيها العشرات، ووجّه فيها ناشطو المنطقة أصابع الاتهام إلى المليشيات الإيرانية[65].
عسكرياً، سعت إيران إلى زيادة توغّلها في سوريا عبر بناء شبكة منظومة للدفاع الجوي الإيراني بكلفة عشرات الملايين من الدولارات وبواسطة فريق يضم عملاء لوجستيين سريّين مطّلعين على المعدّات الحساسة في مجال الدفاع الجوي[66]، كما أعلنت إيران رسمياً عن مساعٍ لتأهيل الدفاعات الجوية لدى نظام الأسد، وأنه من المرجح زيادة إمدادات إيران لهذا النظام بالرادارات والصواريخ الدفاعية، مثل نظام “15 خرداد” لتعزيز “الدفاعات الجوية السورية”[67].
ولكن بالرغم من تلك المساعي لا يبدو أن إيران كانت قادرة على احتواء الضربات “الإسرائيلية”، سواء على مواقع عسكرية تابعة لها في سوريا أو تابعة لنظام الأسد، وفق ما سيأتي بالمحور التالي. لكن في نفس الوقت تمكنت إيران من زيادة تمددها العسكري في جنوب وشرق البلاد عبر تكثيف انتشار مليشياتها وإعادة تموضعهم في العديد من المناطق، مُستغلّة الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا[68].
يمكن القول إن الوجود الإيراني في سوريا آخِذٌ في الازدياد والتغلغل بمختلف المستويات والقطاعات الرسمية وغير الرسمية، ولم يعد عسكرياً فقط، بل أضحى اجتماعياً وثقافياً محميّاً بميليشيات أقرب ما تكون إلى نموذج “دولة داخل دولة”، وبالتالي حتى لو أراد نظام الأسد إخراجها أو تحجميها على أقل تقدير -وهو لا يبدو في وارد ذلك أصلاً- فإنه غير قادر لأنها بالأساس تعمل باستقلالية بعيداً عن مؤسساته.
“إسرائيل” تُكثّف ضرباتها في سوريا بعد عملية “طوفان الأقصى” بغزة:
كثّفت “إسرائيل” خلال العام الماضي من ضرباتها على مواقع عديدة في سوريا، ضمن نفس الإستراتيجية القائمة على استهداف ما تراه مُهدّداً لأمنها، وشمل القصف معظم المحافظات السورية، ولم يمض شهر واحد في 2023 دون أن يشهد ضربة أو عدة ضربات إسرائيلية سواء على مواقع تابعة لنظام الأسد أو المليشيات الموالية لإيران وسقوط قتلى وجرحى من القوات التابعة لهما[69]، إلا أن ممّا لوحظ في العام الماضي تصاعد وتيرة الضربات على مواقع في سوريا بعد إطلاق حركة حماس عملية “طوفان الأقصى” في غزة.
ركّزت الضربات “الإسرائيلية” على استهداف مطاري دمشق وحلب بشكل أساسي، ما أدى لخروجهما عن الخدمة لفترات طويلة خصوصاً بعد عملية “طوفان الأقصى”، فلم يكد المطار يعود للخدمة ساعات حتى تخرجه “إسرائيل” مجدداً وكأنها محاولة “إسرائيلية” لمنع إيران من استخدام المطارين في مرحلة حرب غزة، فعلى سبيل المثال؛ عرقلت “إسرائيل” وصول طائرة وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق في الأيام الأولى من عملية “طوفان الأقصى” عبر ضرب مطاري دمشق وحلب[70]، كما تحدثت أوساط “إسرائيلية” أن “إسرائيل” عملت على منع وصول الشحنات الإيرانية إلى مليشيا “حزب الله” عبر تعطيل مطارات سورية[71].
تسبّبت الضربات “الإسرائيلية” في سوريا في أثناء حرب غزة بوقوع خسائر متكررة في صفوف المليشيات الموالية لإيران، إلا أن أكبر ضربة تلقّتها إيران كانت بمقتل القيادي في “الحرس الثوري” رضى موسوي، المسؤول عن الدعم اللوجيستي لـ”فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” في سوريا، وتشمل مهامه التسليح وتنسيق التحالف العسكري بين نظام الأسد وإيران[72]، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى إطلاق تهديدات بالرد لم تختلف في مضمونها عن التي أطلقتها بعد مقتل سليماني، أو حتى بعد تكثيف “إسرائيل” من ضرباتها العسكرية ضد المدنيين في غزة، في حين لم يكن هناك رد إيراني فعلي يترجم شيئاً من التهديدات على أرض الواقع.
وكان من اللافت في هذا الإطار أن طهران انتقلت بشكل واضح –على لسان وزير خارجيتها- من التهديد والوعيد واللهجة التصعيدية إلى مستوى عرض الوساطة لإيقاف الحرب والعودة إلى خطوط ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وهو ما لم يلقَ أذناً صاغية لدى “إسرائيل” أو الولايات المتحدة.
ومع ذلك، استخدمت إيران أذرعها في أربع دول عربية للقيام بما يُشبه “التحرّشات” بالقوات “الإسرائيلية” أو الأمريكية من باب “حفظ ماء الوجه”، والحفاظ على “صورة المقاومة” أمام القاعدة الشعبية، دون أن يؤثّر ذلك عسكرياً أو سياسياً على “تل أبيب” لوقف أو تخفيف هجومها الدّامي في غزّة، ففي سوريا كان هناك بعض التحرشات بـ”إسرائيل” عبر إطلاق بعض القذائف نحو الجولان، إضافة لمهاجمة القواعد الأمريكية في ريفي دير الزور والحسكة والتنف دون أن تؤدي كل تلك الضربات إلى سقوط قتيل واحد “إسرائيلي” أو أمريكي، كما كررت المليشيات الموالية لإيران ذات الأسلوب في مهاجمة القواعد الأمريكية بالعراق[73].
وأما في لبنان، فلا يزال المشهد لا يتعدّى التحرُّشات وعمليات القصف المتبادلة “المنضبطة” بين مليشيا “حزب الله” و”إسرائيل”، بينما في اليمن عمدت مليشيا “الحوثيين” إلى مهاجمة عدة سفن تجارية في البحر الأحمر، دون أن يكون لذلك أي تأثير في مسار الحرب الجارية بغزة، بينما شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات عسكرية على عدة مواقع في اليمن رداً على عمليات الحوثيين واتهامهما لهم بتهديد حركة التجارة العالمية[74]، وهنا لا يستبعد مراقبون أن تُوظّف إيران مليشيا الحوثي كأداة ضغط على الدول الغربية بملفات تصبّ في مصلحتها مثل الحصول على الأموال المجمّدة أو التساهل معها في ملف الاتفاق النووي[75]، خصوصاً مع حديث أمريكي مؤخراً عن أن الانسحاب من الاتفاق “كان خطأً[76].”
جمود في مفاوضات اللجنة الدستورية ولا جديد في مفاوضات أستانا:
تواصل الجمود في مباحثات اللجنة الدستورية السورية، جراء تعطيل روسيا أعمال الاجتماعات منذ حزيران 2022 بذريعة عدم حيادية جنيف التي يوجد فيها مركز انعقاد اللجنة، وذلك بالرغم من محاولة المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون نقل مقر الاجتماعات إلى مكان آخر مثل العاصمة العمانية مسقط[77]، إلا أن تلك المحاولات يبدو أنها باءت بالفشل، وهذا ما ظهر بالإحاطة التي خصّصها المبعوث الأممي للحديث عن أبرز المجريات في سوريا خلال العام 2023[78].
بدا واضحاً من حديث بيدرسون حالة الانسداد التي وصل لها ملفّ اللجنة الدستورية ومدى هيمنة روسيا على قرار نظام الأسد بعدم المشاركة، علماً أن سلوك نظام الأسد أظهر خلال الأعوام الماضية عدم رغبته في الانخراط ضمن أي مسار حل سياسي، فكانت الحرب الروسية في أوكرانيا وما نجم عنها من توتر في العلاقات بين موسكو والدول الغربية عموماً عاملاً أسهم في صالح نظام الأسد من ناحية تجميد مسارات الحل السياسي في سوريا.
وقد حاول بيدرسون فيما يبدو البناء على مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، وقال إن من شأنها أن “تعود بالنفع على جميع السوريين وتُعطي زخماً سياسياً مهماً في العملية السياسية”[79]. لكن من غير المتوقع أن تكون تلك المبادرة ذات أثر إيجابي أو سلبي بمسار الحل السياسي لأن معظم الدول العربية التي طبّعت مع نظام الأسد ماضية بمسار التطبيع بغضّ النظر عن مرحلة الحل السياسي وحالة الجمود التي تعتريها، وفق ما سيأتي في المحور التالي والأخير لهذا التقرير.
من جانب آخر، عُقدت الجولة العشرون والوحيدة طوال العام 2023 من مباحثات أستانا حول سوريا، ولم تخل من كثير من الجدل بعد إعلان البلد المضيف كازخستان عن انتهاء هذا المسار، الأمر الذي دفع روسيا إلى المسارعة بالنفي والتأكيد على أن المسار لا يزال قائماً[80].
لم تحمل الجولة العشرون لأستانا تغيّرات جديدة أو مؤثرة فيما يخص مسار الحل السياسي، وخرج البيان الختامي بعبارات أغلبها مكررة من البيانات السابقة للجولات التسعة عشرة الماضية، لكن من الجدير بالذكر أن هذه الجولة الأولى التي تُعقد بعد إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، وبعد انطلاق مباحثات التطبيع بين تركيا ونظام الأسد، وعلى إثر ذلك تم عقد جلسة على هامش الجولة 20 لأستانا ضمّت نواب وزراء الخارجية التركي والروسي والإيراني ومن نظام الأسد، وذلك لبحث مُسوّدة خارطة طريق التطبيع بين دمشق وأنقرة، التي اقترحتها روسيا بعد الاجتماع الذي عُقِد على مستوى وزراء الخارجية في موسكو بأيار الماضي[81].
أفرد البيان الختامي بنداً إضافياً خارج سياق أستانا يذكر فيه اجتماع المسار الرباعي بين كلٍّ من تركيا ونظام الأسد وروسيا وإيران، ويتطرق البند لتفعيل العملية السياسية والشروط السليمة لعودة اللاجئين، مع ذكر التعاون مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمساعدات الإنسانية، وهو ما يشير إلى بعض الشروط التي تطلبها تركيا في المقابل للتطبيع مع نظام الأسد، وهو ما تمت الإشارة إليه في بعض الصحف التركية[82]، هذه الشروط لم تكن تُذكر بهذا الوضوح سابقاً قبل الانتخابات التركية، ما دلّل حينها على دخول تركيا مرحلة جديدة من منطلق أكثر قوة في المفاوضات بعد انتهاء أعباء الانتخابات، الأمر الذي أثّر فيما يبدو على مسار عملية التطبيع مع نظام الأسد وجموده بشكل شبه كامل منذ مرحلة ما بعد الانتخابات التركية، خصوصاً مع إصرار الطرفين على شروطهما[83].
نظام الأسد يعود للجامعة العربية وسط استمرار عُزلته الغربيّة.. والأردن يدفع الثمن بحرب المخدرات:
شهد العام الماضي تقدُّماً في مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد بعد الزلزال المدمر في تركيا وسوريا، إذ انفتحت دول عربية عديدة على نظام الأسد في مقدّمتها المملكة العربية السعودية التي قادت قطار التطبيع مع بشار الأسد من خلال سلسلة اجتماعات في جدة وعمان انتهت بإعادة كرسي سوريا في الجامعة العربية إلى نظام الأسد، فكان هذا التغيّر في سياسة المملكة بمنزلة إعلان إنهاء العزلة العربية المفروضة على نظام الأسد منذ نهاية عام 2011[84]، رغم استمرار الموقف الغربي الرافض لإعادة العلاقات مع نظام الأسد، لكن دون أن تكون هناك خطوات أمريكية تعرقل التطبيع العربي، بينما بدت فرنسا بمرحلة متقدمة من رفض التطبيع عبر إصدار مذكرة اعتقال بحق بشار الأسد[85].
اعتُبر اجتماع عمان التشاوري في أيار 2023 “بداية لمسار سياسي يقوده العرب لحل الأزمة السورية بشكل ينسجم مع القرار 2254”، وركّز الاندفاع العربي بشكل رئيس على قضايا أمنية واقتصادية وإنسانية، وتجاوزَ معادلة إزاحة بشار الأسد، وقفزَ فوق الأسباب التي دعت لمقاطعته[86].
بعد ذلك استضافت العاصمة المصرية القاهرة الاجتماع الأول لـ”لجنة الاتصال الوزارية العربية” الخاصة بمواصلة الحوار مع نظام الأسد في آب 2023، بحضور وزراء خارجية نظام الأسد والسعودية والأردن والعراق ومصر ولبنان، وسط أجواء مخيبة للآمال بالنسبة للدول العربية التي لم تشهد أي خطوة إيجابية من قبل نظام الأسد على صعيد القضايا التي رسمت مسار العلاقة المستجدة للعواصم العربية مع دمشق، وفي مقدمتها: تهريب المخدرات وحبوب الكبتاغون، وضرورة عودة اللاجئين، ودفع مسار الحل السياسي الخاص بسوريا إلى الأمام[87].
يمكن القول إن نظام الأسد كان هو الكاسب الوحيد من مسار التطبيع، لجملةٍ من العوامل؛ أولها أن معظم الدول العربية المطبّعة التي كانت تُعارض سياساته باتت في صفّه وتسعى لإعادة تعويمه مستخدمةً ما أمكن من أدوات الضغط لديها[88]، وثانيها أن نظام الأسد لم يُغيّر أياً من سياساته بعد عملية التطبيع، بل على العكس؛ عمد رأس النظام في خطاب له بعد نحو 100 يوم من إعادته للجامعة العربية إلى شنّ هجومٍ لاذعٍ على الأنظمة العربية وحمّلها مسؤولية دمار البلاد وانتشار المخدرات في مناطق سيطرته، رابطاً عودة اللاجئين إلى سوريا بدعم نظامه في إعادة تأهيل البنية التحتية[89].
وفي مقابل ذلك السخط الذي أبداه الأسد على الدول العربية، عاد من جديد في المقابل ليُشيدَ بأهمية الدور الإيراني والروسي في سوريا، وأن نظامه “أحسن” في اختيار “الأصدقاء”، وهذا ما يدحض مجدّداً حُجج بعض الأطراف الإقليمية والعربية التي كانت تدّعي أنّ عملية التطبيع ستؤدّي لسحب نظام الأسد من الحضن الإيراني أو تقليل اعتماده على طهران، بل لم يكتف بشار الأسد بذلك، إنما راح ليُشرعن خلال المقابلة الوجود العسكري الإيراني بسوريا عبر اعتباره أن الضربات التي تشنّها “إسرائيل” في سوريا إنما تستهدف قوات جيشه، وليس القوات الإيرانية، ما يعني بالنتيجة أنه يعتبر الانتشار العسكري الإيراني ضمن القواعد العسكرية السورية ليس انتشاراً أجنبياً[90].
في غضون ذلك، انعكست نتائج التطبيع بشكلٍ سلبي على الأردن بعدما واجه عمليات غير مسبوقة لتهريب المخدرات نحو أراضيه انطلاقاً من مناطق سيطرة نظام الأسد[91]، وسط إعلان الجيش الأردني رسمياً أن المملكة تُواجه ما وصفها “حملة مسعورة” من تجار المخدرات ومُهرّبي الأسلحة[92]، مُحذِّراً من خطورة امتلاكهم قوة عسكرية لمواجهة القوات الأمنية، خصوصاً أن المُهرّبين خاضوا اشتباكات عنيفة مع الجيش الأردني على الحدود مع سوريا أكثر من مرة وأوقعوا قتلى وجرحى من قواته[93]، بينما استمرت بعض الاشتباكات عدة أيام، في دلالة على ارتباط هؤلاء بالأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد بسبب سهولة تحرّكاتهم من جهة، ومن جهة ثانية، حصولهم على ما يشاؤون من السلاح والذخيرة لمواجهة الجيش الأردني، فضلاً عن أن العديد من عمليات التهريب باتت تتم بواسطة الطيران المُسيّر وحتى عبر الحمام الزاجل[94]، بينما تُقدّر عمان أنه من بين كل 3 محاولات تهريب عموماً تنجح واحدة بالعبور إلى الأراضي الأردنية[95].
وخلال أواخر العام الماضي ومع تراخي نظام الأسد في وضع حدّ لتهريب المخدرات؛ لجأ الأردن إلى تصعيد هجماته بشكل أكثر وقصفت طائرات حربية تابعة له أكثر من مرة مواقع في العمق السوري ضمن مناطق الجنوب (السويداء ودرعا) بتنسيق فيما يبدو مع نظام الأسد[96]. بعض هذه الضربات أدت لوقوع قتلى من تجار المخدرات، لكن الجزء الأكبر من القتلى كان من الضحايا المدنيين[97]، وهذا ما قد يعطي إشارات بأن الأردن يشن ضرباته بناء على معلومات استخبارية مغلوطة، إذ من غير المتوقع أن يلجأ نظام الأسد إلى منح الأردن معلومات عن كافة المهربين الذين يعتمد عليهم في تصدير المخدرات، لاسيما أن هذه التجارة باتت تُشكّل عصب الاقتصاد بالنسبة له ويبدو من الصعوبة بمكان أن يتخلى عنها مقابل تطبيع أو علاقات عربية لم تؤد إلى الآن بمنحه ما يريد من أموال[98].
ومن جهة أخرى، يرى بعض المراقبين أن التعاطي الأردني مع قضية المخدرات ما يزال رغم الهجمات الجوية يتعامل مع المخاطر الأمنية بطريقة تكتيكية وليست إستراتيجية، وهو ما يعود بشكل رئيسي إلى المراهنة الخاطئة كما هو حال المحور العربي المُعوّل على استرضاء نظام الأسد وتعاونه في قضايا الأمن الإقليمي، مشيرين إلى أن تحليل واقع تجارة المخدرات وشبكاتها في الجنوب السوري والتي تستند وترتبط بشبكات ايرانية كبيرة يُظهر أن الخطوات الأردنية محكومة بالنجاح النسبي في أحسن الأحوال، وأن القضاء على بعض رؤوس المخدرات في الجنوب سيُعرقل نسبياً فقط موجات التهريب[99].
خاتمة:
في ضوء ما سبق يظهر أن الملف السوري مرّ خلال العام 2023 بعدة تطورات مثيرة للاهتمام محلياً وإقليمياً ودولياً، لكن دون أن تكون مؤثرة فعلياً في مسار تخفيف حدة الصراع أو التوصّل لحل سياسي أو تحقيق بعض الدول لمصالحها بقضايا تُعدّ جوهرية بالنسبة لها، خصوصاً المخدرات وعودة اللاجئين، وسط جمود بمسارات الحل السياسي.
فيما يخصّ الشمال الغربي يبدو أن حالة عدم الاستقرار ستظل سائدة في ظل الدعم المستمر الذي يتلقاه نظام الأسد من روسيا وإيران والانفتاح العربي مؤخراً عليه وعدم وجود ضغوط أو عوامل ردع تمنعه من مهاجمة القرى والبلدات الآمنة، وهذا ما قد يؤدي لحركات نزوح جديدة ويُشكّل عائقاً أمام التعافي المبكر وخطط بعض الدول الساعية لإعادة اللاجئين إلى الشمال السوري.
وأما بالنسبة للشمال الشرقي، فلا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية في طور التخلّي عن مليشيا “قسد” على المدى المنظور والمتوسط، وهذا ما ظهر أحد جوانبه بإعلان “قسد” عن عقدها الاجتماعي الجديد الذي تسعى فيه للتخطيط لنموذج حوكمة خاص بها في المنطقة في ذات الوقت الذي تواصل فيه تهميش المكون العربي في العديد من مناطق شرق الفرات، وهذا بالمجمل يجعل العديد من مناطق المكوّن العربي الخاضعة لسيطرة “قسد” غير قابلة للاستقرار ومهيأة للاشتعال في أي وقت.
في ذات الوقت، يُظهِر الحراك التركي في مناطق شمال شرق سوريا طوال العام 2023 أن أنقرة لا تزال راغبةً بالسيطرة على المناطق التي تُشكّل تهديداً لها، لكنها متريّثة بذلك في ظل عدم حصول توافقاتٍ مع واشنطن وموسكو واللتين بيدهما أوراق ضغط على أنقرة، وهو ما تستعيضُ عنه الأخيرة مؤقتاً بتدمير البنية التحتية لـ”قسد” لتشكيل حالة ردع تمنع مليشيا “حزب العمال الكردستاني” من مهاجمة الحدود التركية أو شنّ هجماتٍ على الجنود الأتراك.
من جانب آخر، لا تزال الأنظار متجهةً نحو حراك السويداء وما يمكن أن ينتج عنه في العام الجديد، وسط طغيان حالة الفقر والبؤس الاقتصادي في عموم مناطق نظام الأسد في وقت لا يبدو أن لدى الأسد وحلفائه أي حلول لمواجهة الانهيار الحاصل، بل يبدو أن نظام الأسد بات يستخدم تدهور المستوى المعيشي وانعدام الخدمات في مناطق سيطرته كورقة ضغط على المجتمع الدولي وخاصة على الدول المُطبّعة معه من أجل الحصول على الأموال للزعم بأن ذلك يصب في صالح مسار عودة اللاجئين، وذلك بعدما تمكّن نظام الأسد بدعم روسي من الهيمنة على قرار توصيل المساعدات إلى مناطق شمال غربي سوريا، فكسب بذلك ورقة ابتزاز جديدة في ملف يُفترض أن يكون فوق تفاوضي.
ومن جهة أخرى، بدا نظام الأسد الكاسب الوحيد من مسار التطبيع العربي معه، لجملةٍ من العوامل؛ أولها أن معظم الدول العربية المطبّعة التي كانت تُعارض سياساته باتت في صفّه وتسعى لإعادة تعويمه مستخدمةً ما أمكن من أدوات الضغط لديها، وثانيها أن نظام الأسد لم يُغيّر أياً من سياساته بعد عملية التطبيع، بينما انعكست نتائج التطبيع بشكلٍ سلبي على الأردن على وجه الخصوص بعدما واجه عمليات غير مسبوقة لتهريب المخدرات نحو أراضيه انطلاقاً من مناطق سيطرة نظام الأسد والمليشيات الإيرانية.
بدورها، وسّعت إيران من أنشطتها بسوريا، وأخذ وجودها في الازدياد والتغلغل بمختلف المستويات والقطاعات الرسمية وغير الرسمية، ولم يعد عسكرياً فقط، بل أضحى اجتماعياً وثقافياً محميّاً بميليشيات أقرب ما تكون إلى نموذج “دولة داخل دولة”، بينما استمرت “إسرائيل” بشن ضربات على مواقع عديدة في سوريا، ضمن نفس الإستراتيجية القائمة على استهداف ما تراه مُهدّداً لأمنها، إلا أن ممّا لوحظ مؤخراً تصاعد وتيرة الضربات على مواقع في سوريا بعد إطلاق حركة حماس عملية “طوفان الأقصى” في غزة، وسط قيام إيران بتحريك أذرع لها بعدة دول بينها سوريا للزعم بأنها قامت بالتخفيف عن الفصائل الفلسطينية، دون أن يكون لتلك الهجمات والمناوشات المحدودة أي تأثير في مسار الحرب الدائرة بغزة.
باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.