إطلالة على أبرز التطورات المتعلقة بالشأن السوري في العام 2022
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
ملخص:
- ألقت التغيرات الدولية عموماً والحرب الروسية على أوكرانيا خصوصاً بظلالها على المشهد العام في سوريا في عام 2022م، كما شهد العام المنصرم العديد من التطورات في مواقف الفاعلين الدوليين والمحليين من الملف السوري، مع استمرار حالة الاستعصاء السياسي التي عزّزها تضارب مصالح الفاعلين الدوليين والإقليميين وضعف تأثير الفاعلين المحليين وانكماش هوامش تحركهم، وترسخ المقاربة الدولية الجديدة في التعامل مع الملف السوري التي بدأت بوادرها بالظهور في العام الماضي، ويمكن تلخيص هذه المبادرة بأنها انسحاب من دائرة تغيير النظام ومحاسبة رؤوسه، إلى دائرة تعديل سلوكه وإيجاد مقاربات إنسانية وأمنية للمشهد تحقق مصالح الفاعلين المنخرطين والمتأثرين بالحرب في سوريا[1].
- من ناحية أخرى لم تكن عودة الزخم الإعلامي والرأي العام الدولي -المتعلق بالقضية السورية- كافية لتحريك الفاعلين نحو مواقف أكثر جدية تُنهي معاناة الشعب السوري، وقد حفّز هذا الزخمَ مشاهدُ الحرب الروسية على أوكرانيا وفظائع الجيش الروسي فيها ضد المدنيين، كما حفّزه كذلك إحياء “فيديو مجزرة التضامن” لشريط الذاكرة السورية والدولية المتخم بمشاهد القتل الجماعي والمجازر في سنوات الثورة الأولى[2]؛ مع بقاء هذا الزخم في دائرة التعاطي الإعلامي وإطلاق التصريحات المنادية بضرورة محاسبة مرتكبي هذه الفظاعات[3].
- سياسياً: تبرز إلى الواجهة في هذا العام التبدلات في مواقف بعض الفاعلين والمتأثرين بالمشهد السوري من نظام الأسد، وعلى رأس ذلك عملية الانفتاح التركي نحو نظام الأسد، والتي تم افتتاحها بتصريحات الرئيس التركي ووزير خارجيته حول إمكانية عقد لقاء مع رأس النظام وضرورة إيجاد تسوية بين المعارضة السورية ونظام الأسد، وصولاً إلى اللقاء الثلاثي في موسكو بين وزراء الدفاع، لتكون بذلك أكبر التغيرات في مواقف الفاعلين الدوليين من النظام السوري؛ لأن تركيا هي الحليف الأول لقوى الثورة والمعارضة السورية، وذلك بعد أن بدأ الاستحقاق الانتخابي يضغط على الحكومة، والتي سارعت الى طرح خطة العودة الطوعية منذ بداية العام.
- تأتي كذلك زيارة وفد “حماس” إلى دمشق ولقاؤها برأس النظام هناك ضمن هذه التبدلات، ومع محدودية تأثير مثل هذه الزيارة على المستوى السياسي والعسكري والمشهد العام في سوريا؛ إلا أنها قد تسهم في إرساء المناخ العام لإمكانية التطبيع مع نظام الأسد، والذي انعكس أيضاً في مزيد من تآكل القبول الشعبي العربي والإسلامي لمواقف حماس الأخيرة المتماهية مع إيران[4]. رافق ذلك تكرار الرفض الأمريكي والأوروبي لعملية التطبيع مع نظام الأسد، وكان رفضاً ظاهراً؛ سواءٌ مع تطبيع الدول العربية في العام الماضي، أو مع التصريحات التركية، أو حتى مع زيارة “حماس”.
- على المستوى الميداني في سوريا: كان الانفلات الأمني ومسلسل الاغتيالات المتبادلة بين الأطراف هو المشهد الحاكم في درعا، في حين كانت الاحتجاجات في السويداء عنواناً لتوتر الأوضاع وتفجرها من وقت لآخر، وفي الشمال السوري وعلى الرغم من عدم انجرار الأوضاع نحو عملية عسكرية مفتوحة ضد محافظة إدلب فإن عمليات القصف المدفعي والغارات الجوية كانت حاضرة طوال العام ضد الأهداف السكنية والمنشآت والمرافق الإنسانية، مخلِّفة أعداداً كبيرة من الضحايا، خاصة في ريف إدلب، إضافة إلى هجوم “هيئة تحرير الشام – هتش” على عفرين وما خلّفه من آثار سلبية. وفي شمال شرق سوريا تصاعدت ذروة الأحداث وانخفضت عدة مرات مع كل مرة يتكرر فيها الحديث عن عملية تركية عسكرية ضد مناطق سيطرة “قسد”، رافق ذلك تصاعد عمليات القصف المتبادل بين “قسد” من جهة والطائرات المسيرة التركية ونقاط “الجيش الوطني السوري” من جهة أخرى.
- وفي سياق آخر: استمرت خلايا “داعش” بمهاجمة مختلف الأهداف في البادية السورية ومناطق شرق وشمال شرق سوريا، ضمن تكتيك حرب العصابات الذي لجأ إليه التنظيم منذ سقوط آخر معاقله في الباغوز، في ظل حديث دائر عن مستقبل التنظيم وخلاياه في سوريا بعد مقتل اثنين من زعمائه عام 2022م في عمليات مختلفة للجيش الأمريكي شمال سوريا ومجموعات محلية أخرى في جنوبها، وميدانياً كذلك تصاعدت حدة القصف “الإسرائيلي” على مواقع إيران وميليشياتها العسكرية في سوريا، وطال القصف مطارَي دمشق وحلب الدوليين وأخرجهما عن الخدمة لعدة أيام، وادّعى مسؤولون “إسرائيليون” أن الهجمات التي شنّتها “إسرائيل” خلال السنوات الماضية استطاعت تدمير 90% من البنية العسكرية الإيرانية في سوريا[5].
- وعلى مستوى الصف الداخلي لفصائل المعارضة وقوى الثورة: بقيت حالة التفتت وغياب المظلة الجامعة هي السمة الحاكمة لنشاطات مختلف الفصائل والمكونات والكيانات السياسية، مع بروز تطورات نوعية في خريطة السيطرة والتوزع والاصطفافات، كان من بينها حالة الاقتتال بين مكونات الفيلق الثالث وفرقتَي “الحمزات” ” وسليمان شاه– العمشات”، في حين أن التطور الأخطر تجسّد في قدرة “هتش” على دخول منطقة عفرين الاستراتيجية في الريف الشمالي لمدينة حلب، مستفيدة من النزاع الحاصل بين مكونات “الجيش الوطني”، رافق كلَّ ذلك استمرارُ حالة السخط الشعبي والاستياء الثوري من ممارسات مختلف الفصائل والمكونات في القطاعات الإدارية والأمنية في مختلف المناطق والمدن.
- إنسانياً: لم تكن استغاثات الفرق التطوعية والإنسانية[6]، وتقارير الأمم المتحدة التي قرعت نواقيس الخطر حول الوضع الإنساني شمال سوريا كافية لإيجاد صيغة مستدامة للتدخل الإنساني وتلبية احتياجات المهجرين والنازحين في المخيمات؛ إذ بقيت قضية تجديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود ترزح تحت وطأة التعنّت الروسي والمقايضة السياسية والتلويح ب”الفيتو” ضدها في مجلس الأمن، والتماهي شيئاً فشيئاً مع الرؤية الروسية للتدخل الإنساني عبر خطوط التماس وعن طريق تسليم المساعدات لنظام الأسد، على الرغم من تحذيرات المراقبين حول تسارع تدهور الوضع الإنساني وعدم الثقة بالخطة الروسية البديلة للمساعدات، خاصة مع تراجع التمويل الانساني وانتشار بعض الأمراض مثل الكوليرا.
مقدمة:
على الرغم من الهدوء العسكري النسبي، وثبات خارطة سيطرة الفاعلين، إلا أن العام 2022 كان حافلاً بالتطورات التي أثرت على الملف السوري بشكل أو بآخر، في هذا التقرير نحاول أن نستعرض مجمل القضايا والأحداث السياسية والعسكرية العالمية والاقليمية والمحلية بشكل مختصر وشمولي؛ بحيث نغطي أهم جوانبها، ونرسم صورة عن أهم تطوراتها وانعكاساتها خارجياً ومحلياً في عام 2022، مع محاولة تحليل أسبابها ونتائجها واستشراف مستقبلها.
الحرب الروسية على أوكرانيا؛ ارتدادات متعددة دون المساس بحدود الوضع الراهن
منذ إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إطلاق بلاده “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا بدأت التحليلات حول انعكاسات الحرب في أوكرانيا على المشهد العام في سوريا، بسبب وجود العديد من النقاط المشتركة بين حرب روسيا على أوكرانيا وتدخلها العسكري في سوريا؛ إذ إن من الصعب بمكان فصل تبعات الحرب في أوكرانيا على نفوذ روسيا ومكانتها على الصعيد الدولي وفي المناطق الأخرى التي تتنازع فيها النفوذ مع القوى الأخرى، وعلى رأسها سوريا؛ كونها بؤرة من بؤر التوتر السياسي والصراع بين روسيا والقوى الغربية[7].
ومنذ الأيام الأولى للحرب حضر اسم سوريا على لسان الفاعلين المشتركين في الملفَّين، كما حضر في وسائل الإعلام العالمية؛ سواءٌ من جانب عقد المقارنات والمفارقات بين الملفَّين، أو من خلال تراشق الاتهامات حول تجنيد السوريين للمشاركة في القتال[8]. كما شهدت مختلف مناطق النفوذ في سوريا تبادل الرسائل الميدانية والعسكرية؛ حيث أرادت روسيا تحذير منافسيها وإشعارهم بعمق حضورها في سوريا وعدم تأثر ذلك بانشغالها في أوكرانيا، كما أرادت القوى المنافسة لها استغلال الفرصة وتوسيع الهوامش المتاحة لها، حيث صعّدت تركيا من عمليات استهداف قيادات وأهداف عسكرية لـ”قسد”[9]، وسعت في أكثر من مناسبة لإطلاق عملية عسكرية ضدها؛ إلا أن الرفض المزدوج الروسي – الأمريكي لهذا العملية وقف حائلاً بينها وبين تحقيق أهدافها[10]، كما كانت تأمل أنقرة أن تحقق المزيد من المكاسب في سوريا على حساب الجانب الروسي؛ بناءً على حاجة موسكو لها في عملية تصدير الحبوب، وموقفها المبني على توازنات دقيقة بين روسيا من جهة وأوكرانيا والقوى الغربية من جهة أخرى.
وبطبيعة الحال فإن روسيا مع انغماسها في الحرب على أوكرانيا تركّز على ضرورة الحفاظ على المكاسب العسكرية والميدانية والسياسية التي حصّلتها في سوريا، مع كونها لم تصل حتى الآن إلى مرحلة قطف ثمار تدخلها وتغطية تكاليفه المادية والسياسية[11]؛ إلا أنها تستثمر ما تملكه من أوراق للحفاظ على المكاسب التي وصلت إليها، وتسعى إلى تحصيل المزيد من المكاسب، وعلى رأسها دفع الدول الإقليمية إلى التطبيع مع نظام الأسد[12]، وتقديم الضمانات اللازمة لتشجعيها على ذلك، كما هو الحال مع تركيا حالياً والإمارات سابقاً، كما أنها تسعى لتكريس مسار اللجنة الدستورية وإفراغ القرار 2554 من محتواه من خلال تفسيره الخاص بها. وقد أسهمت الحرب الأوكرانية في زيادة التعنُّت الروسي حول مسار اللجنة الدستورية؛ فقد انتهت الجلستان السابعة والثامنة دون نتائج تُذكر[13]، وأُلغي عقد الجولة التاسعة بعد مطالب روسية بنقل مقرّ المحادثات من جنيف في سويسرا إلى دولة أكثر حيادية كما تدّعي موسكو[14]، ومن الأوراق التي تستثمرها موسكو وأسهمت الحرب الأوكرانية في زيادة القلق والنزاع حولها قضيةُ تمديد آلية إدخال المساعدات التي يجري التصويت عليها بشكل نصف سنوي في مجلس الأمن؛ فقد باتت روسيا تكسب من خلال امتناعها عن استخدام حق النقض “الفيتو” ضد تمديد الآلية مكاسب اقتصادية يستفيد منها نظام الأسد، وأخرى تصبّ في صالح الرؤية الروسية للحل السياسي في سوريا[15].
من جانبها كانت طهران تأمل بتوسيع هوامش تحركها في سوريا، مستفيدة من أجواء قرب توقيع الاتفاق النووي والانشغال الروسي في أوكرانيا[16]، إلا أن هذه المساعي لم تجد طريقها إلى النور؛ فقد وصلت مفاوضات الاتفاق النووي إلى طريق مسدود بعد غياب الاتفاق على المسائل العالقة بين طهران وواشنطن[17]، وعرقلة روسيا له[18] خوفاً على مصالحها الاقتصادية وخشيةً من ازدياد قوة إيران في سوريا في الوقت الذي لا تستطيع فيه موسكو زيادة حضورها فيها[19]. كما أثرت توازانات الحرب كذلك في قضية التنسيق الروسي – “الإسرائيلي” في سوريا، وأسهمت في خلق هوة بين الطرفين وإن لم تصل إلى حد تعطيل الاتفاق؛ فقد أرادت روسيا من “إسرائيل” مواقف أكثر قرباً لها في الحرب ضد أوكرانيا، وهو ما حرصت “إسرائيل” عليه في الأسابيع الأولى من الحرب؛ إلا أن تطاول أمد الحرب والتراجع الروسي ميدانياً وسياسياً دفع “إسرائيل” إلى التخلي عن موقف الحياد الكامل إرضاءً للحلفاء الغربيين، مما أسهم في خلق حالة من الانزعاج الروسي انعكس ميدانياً بتسليم بعض المواقع في سوريا للميليشات الإيرانية والسماح لقنوات الإعلام الروسية بنقل أخبار الغارات “الإسرائيلية” على سوريا ووصفها “بالعدوان الذي تتصدى له الدفاعات الجوية للنظام”[20].
وفي سياق آخر كان للحرب الروسية على أوكرانيا تأثير في صدور العديد من التصريحات الأمريكية والأوروبية المنادية بضرورة محاسبة نظام الأسد، كما كان لها أثر في إعادة إحياء الحراك الدولي لدعم الشعب السوري[21]؛ فقد أحيت خمس دول غربية هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية ذكرى الثورة السورية، ونادت بضرورة تحقيق الانتقال السياسي في سوريا[22]، كما شدّد الاتحاد الأوروبي في أكثر من مناسبة على لاءاته الثلاث ( لا تطبيع – لا إعادة إعمار – لا رفع للعقوبات) حتى يتم تحقيق الانتقال السياسي وفق القرار 2554[23]. ويمكن فهم هذه التصريحات والمواقف جميعها من كونها أداةً للضغط على موسكو، وتذكيراً لها بعدم جدوى التدخل العسكري وحده فقط لتحقيق المصالح والمكاسب؛ حيث إن موسكو لم تحقق حتى الآن نتائج تدخلها العسكري في سوريا رغم أنها استطاعت أن تقلب من خلاله موازين السيطرة والنفوذ على الأرض، وفي ذلك تحذيرٌ لموسكو من مغبة تكرار التجربة ذاتها في أوكرانيا.
وأياً كانت السيناريوهات التي ستؤول إليها الحرب في أوكرانيا مع قرب إنهائها عامها الأول، ومع الأخذ بعين النظر الانعكاسات والارتدادات التي ذُكرت على المشهد في سوريا؛ فيبدو أن جميع الفاعلين يتجهون إلى تثبيت قواعد الوضع الراهن في سوريا، والحيلولة دون السماح لتطورات الحرب في أوكرانيا بإحداث اختلالات كبرى على توازنات المشهد في سوريا، ومحاولة التعامل بطريقة فصل الملفات والسلال المختلفة، مع الاستمرار في نهج إرسال الرسائل والضغط المتبادل بين الأطراف[24].
الانعطافة التركية الحادة بالانفتاح على نظام الأسد؛ مناورات تكتيكية أم انعطافات استراتيجية؟
لم تظهر في بدايات العام 2022 مؤشرات حول التوجهات التركية الأخيرة الساعية إلى الانفتاح على نظام الأسد، بل على العكس من ذلك يمكن رصد العديد من التصريحات الصادرة عن شخصيات رسمية تركية، منها رئيس الجمهورية والمتحدث الرسمي باسمه، تشير إلى الاستمرار في سياسة حماية اللاجئين وعدم تسليمهم إلى نظام الأسد ونفي التواصل السياسي معه[25]، مما يشير إلى غياب خيار الانفتاح على النظام عن حزمة الخيارات المطروحة أمام أنقرة للتعامل مع الملف السوري وأزمة اللاجئين، والاكتفاء بما تم الإعلان عنه من وجود تنسيق أمني ومخابراتي يضمن الحد الأدنى من تبادل المعلومات الأمنية والاستخباراتية المهمة للطرفين[26]، وكانت فكرة “العودة الطوعية” إلى المناطق الخاضعة للحماية التركية هي المسيطرة على برنامج الحكومة كحل ترضي بها الرأي العام التركي لحل قضية اللاجئين السوريين، حيث كانت الخطة تقتضي عودة مليون لاجئ سوري إلى مناطق الشمال السوري[27]، ويمكن الاستنتاج بأن أعباء قضية اللاجئين وثقلها السياسي داخلياً، إضافة إلى الضغوط الروسية وعدم الاستجابة الأمريكية لمتطلبات الأمن القومي التركي، كل ذلك دفع الحكومة الى انعطافة باتجاه الانفتاح على نظام الأسد[28].
ويمكن القول: إن بوادر الانفتاح التركي نحو نظام الأسد ظهرت مع التحركات التركية الرامية إلى انتزاع موافقة روسية على العملية العسكرية التركية ضد “قسد”؛ إذ قدّمت روسيا عرضاً بديلاً لتركيا يتمحور حول التواصل مع نظام الأسد من أجل القضاء على “التهديدات الإرهابية” التي تواجهها أنقرة[29]، وقد لاقى هذا العرض -فيما يبدو- قبولاً تركياً مبدئياً تجلّى في عدد من التصريحات الرسمية التركية المتتالية، والتي بدأها وزير الخارجية التركي حول ضرورة إيجاد حل للصراع في سوريا عن طريقة عقد اتفاق بين المعارضة والنظام[30]، وصولاً إلى عدم استبعاد عقد لقاء بين الرئيس التركي ورأس نظام الأسد[31]، وما بين هذا وذاك تم الكشف عن تواصل اللقاءات الاستخباراتية والأمنية والتوجه نحو توسيعها، كما تم الكشف عن لقاء عابر جمع بين وزيري خارجية البلدَين، لينتهي الأمر بترتيب لقاء ثلاثي على مستوى وزراء الدفاع بوساطة روسية في موسكو[32].
فتح هذا التوجه التركي الجديد الباب أمام سيل من التكهنات والتحليلات حول عمقه وطبيعته ومدى جدّية أنقرة في الذهاب نحوه، فضلاً عن النقاش في أسبابه ودوافعه وجدواه لكلا الطرفين ومآلاته المحتملة[33]، ويمكن القول: إن المحددات الأساسية لطبيعة تعاطي أنقرة مع الملف السوري هي ذاتها التي دفعت نحو الانفتاح على نظام الأسد في هذا الوقت، وهي “محاربة الإرهاب” المتمثل بـ “قسد” وقوات الـpyd ، والمشهد الداخلي في تركيا، والموقف الدولي من الوضع في سوريا[34]. وبناءً على ذلك فإن تعاظم خطر وجود قوات “قسد” على الحدود الجنوبية لتركيا، وامتداد هجماتها ضد الأهداف التركية العسكرية والمدنية في شمال سوريا وفي داخل تركيا، وعدم استطاعة تركيا تنفيذ العملية العسكرية التي استعدت لها عدة مرات[35]، والانتخابات المفصلية التي يُقبل عليها الحزب الحاكم في أجواء مشحونة من التردّي الاقتصادي واستغلال المعارضة ملف اللاجئين السوريين ضد الحكومة الحالية[36]، والموقف الدولي الراهن من الأزمة في سوريا والذي يشير إلى تراجع أولوية الاهتمام بالملف السوري ودعم الثورة السورية وإلى تماهٍ ضمنيٍّ مع المقاربات الروسية للحل السياسي[37]، إضافة إلى الانزعاج التركي العميق من تجاهل الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لمخاوف تركيا الأمنية والاستمرار في دعم “قسد”[38]؛ كلُّ ذلك يدفع تركيا للمضيّ قدماً في خطوات الانفتاح على نظام الأسد.
ويمكن القول: إن فرضية كون الانفتاح التركي على نظام الأسد لا يتعدى مجرد المناورات التكتيكية التي يقوم بها الحزب الحاكم لسحب هذه الورقة من يد المعارضة التركية والفوز بالاستحقاق الانتخابي المقبل فحسب قد لا تصمد كثيراً أمام المعطيات السابقة، وإن التطورات واللقاءات التي أُجريت مؤخراً في موسكو على مستوى وزراء الدفاع هي دلالة إضافية على جدّية أنقرة للمضي قدماً في هذا المسار، لاسيما مع الأخذ بعين النظر ازدياد الفجوة والتنافر بين تركيا والقوى الغربية، والخطوات العملية التي تقوم بها أنقرة للتقارب مع موسكو، وما تثمره تلك الخطوات من مكاسب اقتصادية وأمنية كبيرة لأنقرة. إلا أن كل ذلك أيضاً لا ينبغي أن يغفل نقاش الأفق المحتمل لهذا التوجه التركي ومدى إمكانية الوصول إلى تطبيع سياسي بين أنقرة ونظام الأسد، في ظل التباين الكبير في الأهداف والمكاسب والأثمان التي سيدفعها كل طرف للوصول إليه، مما لا يبدو حتى الآن أن أياً من الطرفَين قادرٌ على دفعها أو مؤمنٌ حتى بتحقق مكاسبه بعد دفعها[39]؛ مما يعني أن خيار الانفتاح التركي على نظام الأسد سيرفع بلا شك عتبة التواصل المخابراتي إلى مستوى أعلى من التنسيق العسكري والأمني، ليتجلى على شكل لقاءات على المستوى الوزاري وتنفيذ خطط عمل مشتركة في الجوانب الأمنية والاقتصادية، مثل تأمين عودة اللاجئين “بعد تأمين البيئة المناسبة”، والتعاون من أجل إنهاء ملف “قسد”؛ وهي مطالب تركية. في حين يبحث النظام عن شرعية سياسية ومكاسب اقتصادية، مثل فتح المعابر مع تركيا والمناطق الخارجة عن سيطرته شمال سوريا، والسماح بالتجارة عبر الطرق الدولية؛ إلا أن كل ذلك لن يفضي فيما يبدو إلى تطبيع سياسي كامل إذا تمسك كل طرف بما تم طرحه مسبقاً من مطالبات[40].
قطارالتطبيع العربي مع نظام الأسد؛ عملية البحث عن الجدوى والمكاسب مستمرة:
كان هدف إبعاد نظام الأسد عن إيران هو الذريعة التي بررت بها الدول العربية مساعيها لإعادة العلاقات معه، وقصّت شريط البدء بها عدد من الدول العربية على اختلاف دوافعها الأيديولوجية والاقتصادية والأمنية، بدفعٍ روسيٍّ واضحٍ وموافقةٍ “إسرائيلية” ضمنية، على الرغم من تكرار الرفض الأمريكي لهذه التوجهات والتنديد بها[41]؛ إلا أن المؤشرات التي حملتها الأسابيع الأولى من العام 2022 عكست مزيداً من إمعان نظام الأسد في ارتمائه بحضن إيران والمراهنة عليها، وتجسدت هذه المؤشرات ابتداءً بتأكيد الطرفين على متانة العلاقات واستراتيجيتها[42]، والمزيد من الاتفاقيات واللقاءات الرسمية بين الطرفين؛ كان من ضمنها زيارة رأس النظام إلى طهران في شهر مايو من العام 2022[43].
كل المعطيات السابقة تطرح سؤالاً مهماً حول مدى تحقيق الدول العربية الأهداف التي كانت ترجوها من عملية التطبيع مع نظام الأسد؛ إذ تشير التطورات إلى سلةٍ خاليةٍ تقريباً من المكاسب جراء هذه التوجهات، فعلى سبيل المثال: لم يحقق الأردن النتائج الاقتصادية المرجوة من إعادة العلاقات، كما أن فتح المعابر بين البلدين وعودة الحركة التجارية فاقمت من أزمة تهريب المخدرات والتجارة بها، والتي بات نظام الأسد والميلشيات الإيرانية يعتمدان عليها مصدراً أساسياً للتمويل[44]، وهو ما دفع العاهل الأدرني لانتقاد الميلشيات الإيرانية ونظام الأسد علناً[45]، وللحديث عن رغبته بتعزيز دور الضامن الروسي في جنوب سوريا لضبط الأوضاع والحدود[46]. فيما لم تفلح كذلك الإمارات العربية المتحدة التي استقبلت رأس النظام السوري في أبو ظبي في ذكرى الثورة السورية في تحقيق هدف إبعاد النظام عن إيران، مما أدى في نهاية الأمر إلى فشل الجهود التي سعت منذ بداية العام إلى إعادة تفعيل عضوية نظام الأسد في الجامعة العربية وحضوره قمة الجزائر التي عقدت في شهر نوفمبر نهاية العام 2022[47]، وتعزيز موقف قطر والسعودية الرافض لعملية التطبيع مع النظام[48].
وفي سياق التطبيع مع نظام الأسد جاءت زيارة “حماس” إلى دمشق ضمن وفد فلسطيني من مختلف الفصائل تأكيداً للأنباء التي ظهرت إلى العلن منتصف العام عن رغبة الحركة باستعادة العلاقات المقطوعة مع نظام الأسد منذ بداية الثورة، ورغم تعنُّت نظام الأسد ورفضه هذه المبادرة التي جاءت كما قالت الأنباء بوساطة “حزب الله”[49] فإن إصرار الحركة فيما يبدو على هذه الخطوة أسفر في نهاية الأمر عن قبول نظام الأسد للخطوة، خاصة في ظل ضعفه وبحثه عن أية مكاسب، ومن الممكن القول: إن أثر هذه الزيارة على الأوضاع العامة في سوريا السياسية والعسكرية شبه معدوم، وقد تجني منه “حماس” -كما يجادل بعض مناصريها- بعض المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية جراء القبول الإيراني لهذه الخطوة[50]؛ إلا أن من المؤكد أن فاتورة التآكل الكبير لشعبية الحركة على الصعيد العربي والإسلامي باتت أكبر مع الوقت بسبب الانحياز المستمر نحو حلف إيران في المنطقة.
الوجود الإيراني في سوريا، آمال الانتعاش تتحطم أمام التحديات الداخلية والخارجية:
حملت الأشهر الأولى من العام 2022 بالنسبة لطهران بشارات قرب العودة إلى الاتفاق النووي مع الدول الغربية ضمن مسار فيينا الذي انطلق قبل ذلك بعام[51]، وقد كانت طهران تمنّي النفس بقرب التوقيع على الاتفاق مع ما يحمله ذلك من انتعاشات اقتصادية وسياسية داخلياً وخارجياً، كما كان نظام الأسد يتمنى ذلك أيضاً[52]؛ إلا أن هذه الآمال التي عقدتها كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية على قرب عودة الاتفاق قد انهارت في اللحظات الأخيرة قبيل الوصول إلى الصيغة النهائية له، ويمكن إجمال أسباب هذا الإخفاق بالتمسك الإيراني بضرورة أن يشمل رفع العقوبات الحرس الثوري الإيراني، وأن تقدم إدارة بايدن تعهدات مكتوبة تحول دون نقض الإدارات الأمريكية اللاحقة للاتفاق كما فعلت إدارة ترمب عام 2018م[53]. إضافة إلى أن دخول روسيا على خط المفاوضات وتقديم شروطها عرقل الاتفاق؛ إذ إنها تخشى من الانعكاسات الإيجابية له على طهران على المستوى الاقتصادي المتمثل بأخذ حيز من نصيب روسيا الدولي في تصدير الغاز والنفط بعد رفع العقوبات، وعلى مستوى الوجود العسكري في سوريا واستغلال الفراغ الذي ستخلّفه القوات الروسية هناك جراء الحرب في أوكرانيا.
وقبل توقف المفاوضات وبعدها كانت “إسرائيل” تسعى بشكل أساسي إلى الحيلولة دون التوقيع على الاتفاق[54]، في انعكاس لثبات موقفها من الاتفاق النووي، لاسيما مع دوره في إنعاش الميلشيات الإيرانية المنهكة في سوريا جراء تراجع الوضع الاقتصادي والضربات “الإسرائيلية”، إذ لم يخلُ أسبوع تقريباً من غارات وهجمات “إسرائيلية” ضد مواقع إيرانية في سوريا منذ بداية العام 2022[55]، وجاءت ذروة هذه الهجمات بعد تعثُّر توقيع الاتفاق بإخراج مطار دمشق عن الخدمة ثم مطار حلب اللذين تزعم “إسرائيل” أن إيران كانت تستخدمهما من أجل نقل شحنات الأسلحة والإمدادات إلى سوريا، وصولاً إلى التصريحات التي ادّعى فيها مسؤولون “إسرائيليون” تدمير حوالي 90% من البنية العسكرية الإيرانية في سوريا[56]، وتحدثت تقارير أخرى عن انسحاب تقوم به الميليشات الإيرانية من سوريا[57].
ويرجّح مراقبون أن هذه الهجمات جاءت بضوء أخضر أمريكي، في محاولةٍ لتليين الموقف الإيراني ودفع طهران للعودة إلى طاولة الاتفاق مجدداً[58]، كما حرصت كل من روسيا و”إسرائيل” على استمرار التنسيق بينهما في سوريا، مما أعطى “إسرائيل” الفرصة لتكثيف هجماتها على المليشيات الإيرانية؛ وبذلك يمكن القول: إن استمرار تشارك الفاعلين في الملف السوري بهدف تقويض النفوذ الإيراني في سوريا ما زال استراتيجة متبعة[59].
من جانب آخر حملت نهايات العام 2022 تطورات داخلية جديدة في إيران أسهمت في مزيد من الإرباك بالنسبة إلى طهران؛ حيث اندلعت احتجاجات متصاعدة في البلاد كانت شرارتها مقتل شابة كردية على يد شرطة الأخلاق المنوط بها مراقبة ملابس النساء وحجابهن في إيران[60]، لكنّ المراقبين يعزوون هذه الاحتجاجات إلى جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المركبة[61]، وعلى كل حال فإن هذه الاحتجاجات لا تشكل حتى الآن عاملاً مؤثراً على الوجود الإيراني في سوريا أو على توجهات طهران الخارجية، فما زالت هذه الاحتجاجات بعيدة عن تحولها إلى تهديد وجودي للنظام الإيراني[62]؛ إلا أن توسع رقعتها واستمراريتها قد تخلق حالة من الانشغال الداخلي لطهران، كما أنها قد تفرض عليها تكاليف اقتصادية زائدة على حساب دعمها لنظام الأسد وأنشطتها الإقليمية[63].
الولايات المتحدة الأمريكية والحل السياسي في سوريا؛ استمرار الفتور رغم تضافر المحفّزات:
منذ مجيء الإدارة الأمريكية الحالية إلى سدة الحكم في البيت الأبيض تراجع مستوى الاهتمام الأمريكي بالملف السوري عموماً، وقد كان هذا التراجع والفتور حاكماً للتحركات الأمريكية حول الملف السوري في العام2022 وبارزاً في حجم تناول وثيقة الأمن الاستراتيجي التي أصدرتها إدارة بايدن مؤخراً للملف السوري؛ فقد ركّزت الوثيقة على التعامل مع الملف السوري من خلال ثلاثة محددات، وهي: ملف “الإرهاب”، وتسوية الصراع وعودة اللاجئين، وموضع سوريا في السياسة الخارجية التوسعية الروسية[64]، وهو ما يعكس غياب الإرادة الأمريكية عن الانخراط بشكل أكبر في الملف السوري، والرضا عن حالة الجمود التي آلت إليها الأوضاع العسكرية والسياسية، وهو ما ينسجم كذلك مع توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة الساعية إلى خفض الانخراط في الصراعات الدولية من جهة، والتركيز على التحديات الدولية الجديدة المتثملة بصعود الصين وطموحات روسيا من جهة أخرى.
ولكنْ مع عودة الاهتمام الأمريكي بالملف السوري الذي فرضته انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا على الساحة الدولية فقد توعدت الولايات المتحدة الأمريكية رأس النظام السوري بشار الأسد بعدم الإفلات من العقاب[65]، كما تناول تقرير وزارة الخارجية الأمريكي حول حقوق الإنسان انتهاكات نظام الأسد في مجال حقوق الإنسان[66]، وأخيراً، اختتم العام بتبني الإدارة الأمريكية لقانون مكافحة المخدرات الخاص بنظام الأسد، مع وجود ملامح لزيادة طفيفة في الفاعلية والحضور[67].
من ناحية أخرى يبدو أن هذه التصريحات الأمريكية وما رافقها من غضب أمريكي/ أوروبي تجاه روسيا بعد حربها على أوكرانيا شجّعت الائتلاف الوطني السوري للتحرك باتجاه طلب الدعم والأسلحة من واشنطن من أجل إسقاط نظام الأسد؛ إلا أن هذه التحركات قُوبلت برفض أمريكي[68] منسجم مع توجه واشنطن نحو عدم التصعيد في سوريا، والتريث حتى الوصول إلى تسوية وفق القرار 2554.
ويمكن القول: إن الموقف الأمريكي من الملف السوري يتلخص في ضمان عدم تحويل روسيا مكاسبها العسكرية والميدانية إلى مكاسب سياسية واقتصادية، أي أن واشنطن لن تعطي الشرعية لأي اتفاق سياسي لا يتوافق ولو شكلياً مع قرار مجلس الأمن 2554حول الانتقال السياسي في سوريا، كما أنها تعارض جولات التسويق السياسي التي تسعى موسكو من خلالها إلى إعادة شرعنة النظام وتقبله محلياً ودولياً، وتصدر واشنطن باستمرار إدانات ترفض أشكال التطبيع السياسي مع النظام، مع أنها لا تقوم بخطوات أكثر جدية لمنع هذا التطبيع؛ بل تغضّ الطرف عنه نسبياً كما حصل في اتفاق خط الغاز العربي[69]، إلا أنها تعلن باستمرار وقوفها ضد عملية إعادة شرعنة النظام، وصدّقت ذلك من خلال رفضها للتحركات التركية الأخيرة للانفتاح على النظام[70]، ورفضها لزيارة حماس-التي تعدها واشنطن “منظمة إرهابية”- إلى دمشق[71]، من ناحية أخرى لن تسمح واشنطن كذلك بتدفق أموال الإعمار إلى سوريا دون تحقيق الانتقال السياسي، وبذلك تحرم كلّاً من روسيا ونظام الأسد من الاستفادة من هذه الأموال، كما تؤكد باستمرار مواصلة تطبيق قانون قيصر وعدم التراجع عنه، رغم تمريرها عدداً من الاستثناءات التي تفرضها عليها مصالحها مع “قسد”[72] والشراكة معها في “الحرب على الإرهاب” وفي إمساك الأوراق التي تناور من خلالها أنقرة وتضغط عليها بها، إضافة إلى التنسيق مع “إسرائيل” ودعم سياستها في منع الانتشار المهدد لأمن “إسرائيل” من قبل المليشيات الإيرانية.
التطورات الميدانية في مختلف مناطق النفوذ؛ خروقات واضطرابات مستمرة لا تغير الخطوط المجمدة:
مناطق النفوذ التركي في شمال غرب سوريا:
يقترب اتفاق موسكو 2020م الذي جمّد النزاع وأوقف العمليات العسكرية في محافظة إدلب[73] من إتمام عامه الثالث، مع وجود رغبة ضمنية بضرورة الحفاظ عليه والبناء عليه من أجل تحويله إلى وقف إطلاق نار دائم، ومما لا شك فيه أن الوجود العسكري التركي الضخم في مدن وبلدات إدلب هو العائق الأكبر الذي يقف وراء عدم محاولة نظام الأسد وحلفائه فتح عملية عسكرية جديدة في المنطقة في ظل الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية؛ مما يعني عدم وجود قرار ودعم روسي لهذه العملية، في الوقت الذي تزداد فيه خطوات التقارب بين أنقرة وموسكو أكثر من أي وقت مضى.
ولذا فإن جميع التكهنات التي تحدثت عن احتمالية فتح نظام الأسد وحلفائه عملية عسكرية جديدة ضد المنطقة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا تبدو غير قابلة للتحقق، ليبقى خيار الإيلام ومعاقبة المدنيين عبر الهجمات والقصف الممنهج هو الخيار المفضل لروسيا ونظام الأسد في الوقت الحالي؛ فقد أحصت منظمة الدفاع المدني السوري أكثر من 800 هجمة خلال عام 2022، خلّفت أكثر من 165 قتيلاً ومئات من الجرحى[74]، وتدخل هذه الهجمات في معظمها كما يبدو في دائرة التحذيرات والرسائل التي تريد موسكو إيصالها إلى أنقرة والفاعلين المحليين، كما أنها تصبّ في صالح روسيا ونظام الأسد من ناحية عدم إعطاء المنطقة الراحة والاسقرار اللازم للتعافي والنهوض، والتدمير الممنهج للمنشآت الحيوية والإنسانية، وتتذرع روسيا للاستمرار بهذه الخروقات بعدم قيام أنقرة بالوفاء بتعهداتها حول تصفية المجموعات “الإرهابية” في محافظة إدلب التي تسيطر عليها “هتش”، في حين أدانت أنقرة بعض هذه الهجمات ضد المخيمات ودعت إلى الحفاظ على الهدنة[75].
ومن جهة أخرى، استمرت حالة الهشاشة الأمنية في المنطقة رغم وجود العديد من القواعد العسكرية التركية فيها، ووجود فصائل الجيش الوطني وقوات الشرطة المدنية والعسكرية، فقد كانت المنطقة خلال هذا العام ساحة للعديد من عمليات الاغتيال والتصفية والعبوات الناسفة التي استهدفت شخصيات عسكرية ومدنية وناشطين، كما تعرضت المنطقة للقصف المتكرر عدة مرات والذي استهدف مناطق مدنية وأسواق شعبية كان مصدره مناطق “قسد”، أو روسيا، في حين تكرر مشهد الاقتتالات الداخلية بين فصائل الجيش الوطني عدة مرات في مناطق متعددة، وتكرر دخول هتش ثم انسحابها، وقد خلفت هذه الأحداث بعمومها خسائر بشرية، وعززت من حالة عدم الاستقرار الأمني داخلياً وخارجياً[76].
مناطق قسد والنفوذ الأمريكي شمال شرق سوريا:
شهدت مناطق شمال شرق سوريا الواقعة تحت نفوذ “قسد” المدعومة أمريكياً العديد من موجات التصعيد العسكري صعوداً وهبوطاً مع كل مرة يتجدد فيها الحديث عن تحركات تركية للقيام بعملية عسكرية جديدة ضد المنطقة، وتصاعد الحديث عن العملية التركية أول مرة بُعيد الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعد طرح أنقرة خطة العودة الطوعية للاجئين التي تستهدف إعادة مليون سوري من تركيا[77]، فيما يبدو أنه توجه تركي لقطف ثمار موقفها القائم على توازنات المشهد الدولي والصراع بين روسيا من جهة والدول الغربية وأوكرانيا من جهة أخرى[78]؛ إلا أن مساعيها هذه لاقت معارضة روسية أمريكية مزدوجة، ليعود الحديث مجدداً حول العملية العسكرية بعد التفجير الذي تعرضت له مدينة إسطنبول[79]، واتهمت تركيا “قسد” بالوقوف خلفه؛ مما عزّز شرعية حديثها عن ضرورة القضاء على التهديدات “الإرهابية” على حدودها[80].
وتجلى هذا التصعيد العسكري في القصف المتبادل بين “قسد” من جهة ونقاط الجيش الوطني والنقاط التركية في مدن ريف حلب الشمالي والذي استمر طوال العام، كما واصلت تركيا هذا العام الهجمات بالطائرات المسيرة ضد أهداف وقيادات تابعة لـ “وحدات حماية الشعب – pyd” الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني “pkk” كما تتهمه تركيا، وصعدت تركيا من هذا العمليات مع استغلال الهوامش التي أتاحها الانشغال الروسي في أوكرانيا وإقناع إيران وروسيا لها بالعدول عن خيار العملية العسكرية إلى سياسية قطع الرؤوس والتفتيت من الداخل[81]، كما أن تصعيد هذه الهجمات وتكثيفها منتصف العام يمكن تقدير أنه جاء نتيجة لغضّ الطرف الأمريكي عنه بعد تراجع تركيا عن عرقلة عملية انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وانتزاع التصريحات الأمريكية التي تتفهم مخاوف تركيا الأمنية مع استمرارها في معارضة العملية العسكرية[82].
في مواجهة ذلك قامت “قسد” ببعض التحركات التي تجنّبها البقاء وحيدة أمام عملية عسكرية تركية جديدة، كما تجنبها الوقوع في قبضة الابتزاز الروسي الذي يدعوها إلى تسليم مواقعها إلى النظام والاتفاق معه من جهة[83]، والوقوع كذلك ضحية للتفاهمات والأثمان التي من الممكن أن تقوم أنقرة بدفعها للقوى الغربية لإطلاق يدها من جهة أخرى، ويمكن أن نعدّ المناورات العسكرية المشتركة التي قامت بها “قسد” مع قوات نظام الأسد مؤشراً على التحركات في الباب الأول[84]، وإعلان “قسد” توقيف عملياتها ضد “داعش” ثم تعليق العمل مع التحالف بعد ذلك مؤشراً على التحركات في الباب الثاني[85].
وبالمجمل: يبقى الحديث عن مستقبل مناطق شمال شرق سوريا ونفوذ “قسد” فيها رهن المفاوضات والتوازنات القائمة بين الفاعلين، كما يبقى مرهوناً كذلك باستمرارية الوجود العسكري الأمريكي فيها وموقف واشنطن من الحل السياسي في سوريا، وبين هذا وذاك يبقى الخط الأحمر التركي المتمثل بعدم السماح بإقامة جيب كردي انفصالي على حدود تركيا الجنوبية عاملاً مهماً وحاسماً في مستقبل هذه المنطقة، والذي من الممكن أن يدفع -كما يبدو- الآن إلى ظهور مسارات وترتيبات عسكرية وأمنية جديدة على الساحة السورية؛ حيث إن لقاء موسكو الثلاثي بين وزراء دفاع كل من روسيا وتركيا ونظام الأسد يمكن أن يفتح الباب أمام مسار جديد يحاول فرض توجهات ميدانية وسياسية جديدة تحقق أهداف الأطراف المشتركة فيه.
الجنوب السوري؛ انفلات أمني متصاعد في درعا، واحتجاجات متكررة في السويداء:
منذ اتفاق التسوية الأول في درعا عام 2018 كان الانفلات الأمني وعمليات الاغتيال العنوان الأبرز في المحافظة[86]، ومن الممكن إرجاع أسباب هذا الانفلات وعدم مقدرة نظام الأسد على بسط سيطرته الأمنية بشكل كامل وإدماج كامل المجموعات المعارضة في بنيته الأمنية والعسكرية أسوة ببقية المناطق إلى: ازدحام الفاعلين المحليين والدوليين في المنطقة، وخصوصيتها الأمنية والعسكرية، وطبيعة التسوية التي تم عقدها بضمانة روسية على شكل غير مسبوق وغير معهود في مناطق أخرى من سوريا؛ حيث ألقت المجموعات المحلية المعارضة للنظام سلاحها بتنسيق روسي، وانضم قسم منها إلى تشكيلات أمنية وعسكرية مختلفة تابعة لروسيا وإيران والنظام، فيما تم تهجير مَن لم يقبل بهذه التسويات إلى الشمال السوري، وحافظت بعض المجموعات الأخرى على استقلاليتها وسلاحها الخفيف مستفيدةً من ترهُّل الاتفاق الذي تم عقده ومن التنافس القائم بين الفاعلين.
هذه الأجواء المضطربة والتنافس بين مختلف الفاعلين أسهم في تعميق الانفلات الأمني في المحافظة؛ متمثلاً باستمرار مسلسل الاغتيالات، وأوجد العديد من الهوامش كذلك للتحرك في مختلف الاتجاهات، الأمر الذي استفادت منه الحاضنة الشعبية للثورة وتشكيلاتها المدنية الداعمة للمجموعات المحلية التي رفضت الانضمام إلى اللواء الثامن المدعوم روسياً أو غيره من التشكيلات التابعة لأجهزة نظام الأسد العسكرية والأمنية المدعومة إيرانياً، فاستطاعت تكريس حالة مناهضة لنظام الأسد، ورافضة للاندماج فيه بشكل كامل، فتكررت المظاهرات المعارضة لنظام الأسد[87]، كما تم منع نظام الأسد من إجراء “الانتخابات الرئاسية” منتصف العام 2021م، ما جلب على المنطقة حملة عسكرية عنيفة، أراد من خلالها نظام الأسد وميلشياته استعادة السطوة الأمنية على أحياء درعا البلد تحديداً وإنهاء هذه الحالة الثورية المناهضة له، مما أدى في نهاية الأمر إلى عقد تسوية جديدة في ستمبر عام 2021[88].
إلا أن هذه التسوية الجديدة لم تحمل معها في العام 2022 نهاية لحالة الانفلات الأمني وتصارع النفوذ التي تعاني منها مدينة درعا، واستمرت الديناميكيات ذاتها التي فاقمت الأوضاع على طول السنوات الماضية بالعمل في هذا العام؛ فقد تم تسجيل أكثر من 359 محاولة اغتيال منذ اتفاق التسوية الثاني راح ضحيتها 316 شخصاً، شملت عسكريين سابقين أو حاليين ومدنيين مستقلين أو منتمين لتشكيلات تابعة للنظام، كما شملت تجار مخدرات محليين[89]، ويعكس هذا التنوع في الاستهداف حالة الصراع الموجودة بين مختلف الأطراف في المنطقة، وغياب الاستقرار جراء المقاربة الأمنية التي يتبعها النظام والتوازنات التي فرضتها التسوية الروسية. إضافة إلى ذلك انعكس الانشغال الروسي في أوكرانيا على المنطقة كذلك، وتمثل ذلك في الازديار الكبير في نشاط صناعة المخدرات والاتجار بها وتهريبها إلى الخليج العربي ودول الخارج عبر بوابة الأردن بعد تطبيع العلاقات وفتح التبادل الاقتصادي بين الأردن ونظام الأسد، الأمر الذي استدعى نقداً أردنياً لاذعاً لنظام الأسد والميلشيات الإيرانية، كما دفع الأردن لمطالبة الضامن الروسي بالعودة إلى المنطقة لضبط الأوضاع.
وفي السويداء التي حافظت طوال سنين الثورة والحرب في سوريا على موقفها المبني على خصوصية المحافظة وانتمائها الطائفي شهد العام 2022 تجدُّد الاحتجاجات ضد نظام الأسد أكثر من مرة، كانت أعنفها في نهاية العام؛ إذ تم إحراق مبنى المحافظة وصور بشار الأسد، ونادى المحتجون بإسقاط نظام الأسد ومحاسبته[90]، ويمكن إجمال أسباب هذه الاحتجاجات بتردّي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في المدينة، وممارسات الخطف والاعتقال، وتجارة المخدرات التي تقوم بها مجموعات محلية تابعة للأفرع الأمنية السورية والميلشيات الإيرانية، كما أن استياء نظام الأسد من “حركة رجال الكرامة” ونفوذها المتزايد في المحافظة وملاحقتها المجموعات الفاسدة المرتبطة بأعمال السرقة والخطف وتجارة المخدرات دفعها إلى القيام بخطوات تقوّض حضوره في المشهد الاجتماعي والأمني في المحافظة[91]؛ مما أسهم في تأزيم الموقف أكثر في المدينة، وزيادة الاحتقان ضده في الشارع.
تنظيم الدولة “داعش”؛ ازدياد الزخم رغم استراتيجية قطع الرؤوس ضده:
فجّر تنظيم “داعش” مطلع العام 2022 مفاجأة ميدانية بالعودة إلى تكتيك العمليات العسكرية الضخمة منذ اعتماده مبدأ حرب العصابات والهجمات الخاطفة طوال السنوات الماضية؛ إذ استهدف سجن الصناعة في مدينة الحسكة حيث يقبع المئات من السجناء التابعين للتنظيم، في تنفيذٍ للاستراتيجية المعلنة للتنظيم بأولوية تحرير أسراه من السجون انطلاقاً من “مبدأ شرعي” ومصلحة تنظيمية عسكرية[92]، وقد هزّت الأحداث مدينة الحسكة وفاجأت قوات “قسد” ووضعتها في موقف دولي حرج[93]، كما أن العملية أثارت التساؤلات والمخاوف حول أسرى التنظيم في سجون”قسد” وقدرتها على ضبط الأوضاع وتأمين المحاكمات العادلة والمعاملة الإنسانية لهم[94]، بالإضافة إلى خطورة هذه السجون كونها تشكل حواضن لفكر التنظيم وقياداته، كما أن حالة الإهمال والمعاملة السيئة التي يتعرض لها نزلاء هذه السجون والمخيمات تسهم في تغذية عوامل التطرف والمظلومية عندهم، وتدفعهم للانضمام للتنظيم والقتال معه في أول فرصة سانحة[95].
أعقب ذلك إعلان الولايات المتحدة الأمريكية مقتل زعيم التنظيم “أبو إبراهيم القرشي” المعروف باسم “عبد الله قرداش” في مدينة أطمة شمال محافظة إدلب[96]، فيما يبدو وكأنه رد للاعتبار بعد الضربة المعنوية التي تعرض لها التحالف وقوات “قسد” جراء الهجوم على سجن الصناعة في الحسكة، ويبدو أن اغتيال زعماء الجماعات المتطرفة بات تقليداً رئاسياً أمريكياً بوصفه علامة نجاح، أعقب ذلك اغتيال أحد زعماء التنظيم في سوريا “ماهر العقال”، لتعود الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية العام 2022 لإعلان مقتل ثاني زعيم للتنظيم “أبو الحسن القرشي” في درعا جنوب سوريا على يد “الجيش الحرّ” بحسب إعلان واشنطن[97].
ويفتح اتباع التحالف الدولي استراتيجة قطع الرؤوس الباب أمام تساؤل حول جدوى هذه العمليات في إنهاء التنظيم؛ إذ يجادل بعض الخبراء بأن التنظيم معتاد على مقتل زعمائه ولا يؤثر ذلك كثيراً في بنيته التنظيمية والهيكلية، خصوصاً بعد اتباع نهج اللامركزية وحرب العصابات بعد خسارة معاقله في العام 2019م[98]، في حين تشير المعطيات إلى أن التنظيم يعاني فعلياً من أزمة في القيادة بعد خسارة أغلب قيادة الصف الأول المؤسسين للتنظيم، ويدعم هذه الفرضية التأخر في إعلان مقتل “قرداش” وسرية هوية “أبو الحسن القرشي” الذي تم تعيينه بدلاً عنه والذي قُتل كذلك في نهاية العام. ومع ذلك يبقى تأثير التنظيم وعملياته ملحوظة؛ حيث شهد العام 2022 تنفيذ التنظيم عشرات العمليات الخاطفة ضد قوات نظام الأسد في البادية السورية وضد عناصر “قسد” شرق الفرات.
واقع قوى الثورة والمعارضة السورية:
سياسياً حركت أصداء الحرب في أوكرانيا بداية العام 2022 المعارضة السياسية السورية لطلب الدعم من واشنطن، ومحاولة الاستفادة من انتعاش ذكر الملف السوري في أروقة السياسة والرأي العام الدولي؛ إلا أن هذه المطالب لم تلقَ آذاناً مصغية، ليس بسبب عدم رغبة الدول الغربية بافتعال نزاع جديد مع موسكو فحسب، ولكن لغياب الرؤية الجامعة التي توحّد قوى الثورة والمعارضة، ولغياب الهيكل المؤسساتي الذي يجمع الفصائل العسكرية ويكون قادراً على فرض الإرادة العسكرية والسياسية، إضافة إلى الفجوة الموجودة بين الفصائل الموجودة على الأرض والأجهزة والتشكيلات السياسية والإدارية التي من المفترض أنها تمثلها[99]، كما شهد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حالات انقسام وتمزق تبادلت فيها الأطراف المختلفة داخل الائتلاف الاتهامات حول مطامع الإقصاء والاستئثار بالمناصب والقرار، مما عكس مزيداً من تململ الشارع الثوري السوري ويأسهم بسبب تهلهل الائتلاف وفشله في تمثيل السوريين وثورتهم بالشكل المطلوب.
من ناحية أخرى لم تكن فصائل الجيش الوطني في مدن ريف حلب الشمالي أفضل حالاً على المستوى الهيكلي والتنظيمي، ولا على مستوى النجاح الأمني والإداري والحوكمي؛ حيث اشتعلت الاضطرابات ابتداءً في مناطق انتشار هذه الفصائل في مدينة الباب على خلفية رفع أسعار الكهرباء والمطالب الخدمية، ثم انطلقت اضطرابات عنيفة على خلفية إطلاق سراح أحد الموقوفين المتهمين بجرائم وقضايا فساد، لتشتعل الأحداث الأضخم والأكبر على خلفية مقتل أحد الناشطين وزوجته الحامل على يد مجهولين، ليتم القبض عليهم فيما بعد ويُكشف عن انتمائهم إلى فصيل “الحمزات” أحد فصائل الجيش الوطني، وقد استغل الفيلق الثالث غضب الشارع الثوري للاستيلاء على مقرات الحمزات داخل مدينة الباب، ليرد الأخير بقصف المدينة من الخارج؛ مما زاد من حالة الغضب والاحتقان لدى الشارع الثوري.
وتمثل التطور الأخطر في قضية مقتل الناشط “أبو غنوم” بدخول “هتش” على خط الصراع للمرة الثانية خلال العام 2022؛ إذ اعتبرت أن الفيلق الثالث يستغل غضب الشارع الثوري ليقوم بعمليات تصفية انتقامية وتوسيع لمناطق نفوذه، مما دفعها للدخول في حلف إلى جانب فرقتَي “الحمزات” “والسلطان مراد – العمشات”، ثم السيطرة على مدينة عفرين إحدى أكبر وأهم مدن ريف حلب الشمالي، الأمر الذي استدعى تحذيراً أمريكياً، واستمر القتال عدة أيام تراشقت فيه جميع الأطراف الاتهامات، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل دخول “هتش” إلى المنطقة وإجبارها على الانسحاب إلى مواقع نفوذها في إدلب، لتُطوى بذلك صفحة جديدة من صفحات الاقتتال الفصائلي التي كشفت مجدداً عن العيوب القاتلة التي تعاني منها هذه الفصائل، وما يعكسه ذلك من ارتدادات على المستويات الأمنية والإدارية والاقتصادية والإنسانية والاجتماعية للمنطقة[100].
الواقع الإنساني في سوريا؛ نحو ضرورة إيجاد حلول أكثر ذاتية واستدامة:
يشهد الوضع الإنساني والمعيشي في سوريا مزيداً من التدهور على جميع الأصعدة وفي مناطق النفوذ المختلفة؛ ففي شمال سوريا لم تكن الصعوبات الحياتية التي يعاني منها الملايين من المهجرين في المخيمات هي أسوأ ما يتعرضون له في العام 2022؛ فقد أسهم القصف الروسي للمخيمات والمشافي والمرافق الخاصة بها في تعزيز حالة الرعب وغياب الأمن والاستقرار في هذه المخيمات، وفي مناطق سيطرة الأسد وصلت الليرة السورية إلى مستويات غير مسبوقة من الانهيار في نهاية العام، وأدت أزمة الوقود الخانقة التي يعاني منها النظام في الأسابيع الأخيرة من العام إلى تعطيل أجهزة المؤسسات الرسمية وشلّ حركتها، مع فقدان الحلول والبدائل وقطع إمدادات النفط من قبل حلفاء النظام وعلى رأسهم إيران طلباً لمزيد من التنازلات والامتيازات في سوريا[101]، يأتي هذا كله في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية وغلاء فاحش في الأسعار وفقدان للمواد الغذائية الأساسية، وانتشار لمرض الكوليرا.
من جانب آخر يهدّد الابتزاز الروسي المستمر بإيقاف تجديد آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود في تعميق الأزمة الإنسانية لملايين السوريين شمال سوريا، وتفقد الحلول الحالية جدواها في ظل التعنّت الروسي، وفي ظل الانصياع كذلك وراء المكاسب التي تريد روسيا تحصيلها من خلال تغيير آلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى آلية إيصالها عبر الخطوط عن طريق تسليمها لنظام الأسد وتوكيله بإيصالها لمستحقيها شمال سوريا، مع ما في هذا الخيار من خطورة تعرض هذه المساعدات للسرقة من نظام الأسد الواقع أساساً في أزمة اقتصادية ومالية خطيرة؛ لذلك تبرز إلى السطح ضرورة البحث عن حلول إنسانية جديدة أكثر ذاتية واستدامة تفعّل دور المؤسسات والجمعيات والمكونات المحلية في تقديم المساعدات تحسباً للرفض الروسي الذي يتجدد الحديث عنه كل ستة أشهر[102]، وفي هذا السياق يتم طرح أفكار جديدة، مثل إنشاء صندوق ائتمان للدول المانحة[103].
خاتمة:
لعل التطور الأبرز الذي ألقى بظلاله على الملف السوري كان الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أشغلت روسيا إلى حد ما عن الملف السوري مما ساهم في صمود اتفاق موسكو في العام 2020 وثبات الجبهات، إضافة الى ما أتاحه هذا من هوامش و توازنات عالمية جديدة للفاعلين، حيث مددت الولايات المتحدة وجودها وعززته، مما عزز دورها الأساسي في أي توجه نحو حلول نهائية، كما وسعت تركيا هوامش تحركها ميدانياً وسياسياً، في ذات الوقت، كان للعوامل الداخلية التركية والاستحقاقات الانتخابية الدور الأبرز في دفع تركيا نحو مقاربة جديدة باتجاه التطبيع مع نظام الأسد بعد سلسلة من التطبيع مع دول المنطقة، مما يبقي القضية السورية ساخنة على الرغم من الهدوء النسبي للجبهات، ذلك الهدوء أتاح أيضاً الفرصة لقوى الثورة والمعارضة السورية الناشئة المختلفة لالتقاط الأنفاس والتعبير عن نفسها بشكل سياسي يتجه ليكون أكثر تنظيماً وتعبيراً عن الشارع السوري، حيث تتيح بعض هوامش الهدوء النسبي العودة لبعض من النشاط السياسي الاعتيادي دون أن يكون تحت وابل البراميل والقنابل والصواريخ التي تفرض عادة تركيز الجهود في اتجاه أعمال الطواريء وإطفاء الحرائق دون غيرها.
لمشاركة التقرير:
مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة