قطار الحل السياسي في سوريا: خطة مسير متغيرة ومسار بلا وجهة
“على عكس الحروب بين الدول؛ نادراً ما تنتهي الحروب الأهلية بتسويات متفاوض عليها. بين عام 1940 و1990 تم حلّ 55% من الحروب بين الدول على طاولة المفاوضات، في حين فقط 20٪ من الحروب الأهلية توصلت إلى حلول مماثلة. وبدلاً من ذلك كانت معظم الحروب الداخلية تنتهي بإبادة أو طرد أو استسلام الجانب الخاسر”[1]. صحيحٌ أن هذه ليست قاعدة للتعاطي مع “النزاعات الداخلية” كما باتت تُوصَف به الحال السورية عالمياً؛ إلا أنها مؤشرٌ مهمٌّ لفهم مدى حضور “الحل السياسي”.
منذ انطلاق الثورة السورية في عام 2011 دأبت الدول في تصريحاتها على تأكيد فكرة “ليس ثمّة حل سوى طريق الحل السياسي”، حتى صارت هذه العبارة أشبه بـ “اللازمة” لأي تصريح بخصوص القضية السورية، على الرغم من أن هذه القضية شهدت تحولات وتغيرات كثيرة من السلمية إلى مرحلة العسكرة إلى مرحلة “الجمود المؤقت”.
على الرغم من تعدُّد الوثائق الدولية والمحلية -الرسمية وغير الرسمية- الصادرة عن قوى الثورة والمعارضة أو عن مراكز الأبحاث التي تحدثت عن الحل السياسي في سوريا؛ إلا أن بيان جنيف1 مثّل أساسها الذي بُني عليه لاحقاً قرارا مجلس الأمن 2118/2013، 2254/2015، مع العلم أن بيان جنيف1 لم يكن بحضور أو مشاركة أي طرف سوري، سواءٌ من جهة نظام الأسد أو من جهة قوى الثورة والمعارضة.
ثمّة اتفاق بين المتابعين والباحثين أن بيان جنيف1 وغيره من الوثائق الدولية بما فيها قرار مجلس الأمن 2254 بُنيت وفق مقاربة “الغموض البنّاء”[2]، الذي يتيح للأطراف المعنية تجاوز خلافاتها مؤقتاً وبناء توافقات “هشّة”، يمكن لكل طرفٍ تفسيرها وفق مصالحه ورؤيته، وهذا ما لُوحظ على سبيل المثال بالنسبة لمستقبل بشار الأسد عقب صدور بيان جنيف1؛ إذ كان ثمّة اختلاف واضح بين تفسير الولايات المتحدة وتفسير روسيا له.
مع اختلاف موازين القوة على الأرض عقب التدخل العسكري الروسي المباشر أواخر عام 2015، إلى جانب عوامل أخرى؛ فقد استطاعت روسيا تحويل مسار الحل السياسي في سوريا من التمركز حول فكرة “الانتقال السياسي من خلال هيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية”، إلى فكرة “التغيير الدستوري والانتخابات” التي تُوّجت فعلياً بتشكيل اللجنة الدستورية السورية في أواخر عام 2019.
هذا التحول وما رافقه من تغيرات على المستوى البنيوي لقوى الثورة والمعارضة أثار خلافاً داخل قوى الثورة والمعارضة تجاه التعاطي مع التوجه الجديد لـ “مسار الحل السياسي”؛ بين مؤيدٍ له يرى فيه المتبقي المتاح، ومعارضٍ يراه فرصة تعطي نظام الأسد وحلفاءه ما يصبون إليه من وقت يساعدهم على حسم الملف عسكرياً، وفرض نظام الأسد كأمر واقع.
لعل هذه الأسطر تلخص ما يقارب عقداً كاملاً من التطورات السياسية؛ إلا أنها تثير الكثير من الأسئلة التي يرى السوريون أنها بحاجة للإجابة للإحاطة بمسار الحل السياسي، ومن أهمها:
- ما هي التحولات التي طرأت على مسار الحل السياسي في سوريا؟ وما هي العوامل التي أثّرت في هذه التحولات؟
- هل ثمّة تجارب مقارنة يمكن الاستفادة منها في هذا الملف؟
- ما هي مفردات الحل السياسي التي تمثل مصلحة مشتركة للدول وتلك التي ما تزال محل خلاف فيما بينها؟
- بالنظر إلى أن الولايات المتحدة وروسيا هما الدولتان الأكثر فاعلية في الملف السوري؛ فما هي ملامح سياستهما تجاه التعاطي مع الملف السوري، وتحديداً مسار الحل السياسي؟
- هل المآل الحالي للمسار السياسي الذي يتمركز حول اللجنة الدستورية بصورة أساسية يمثّل تقاطعاً لمصالح الدول الفاعلة؟
- إذا كانت اللجنة الدستورية هي الشيء الوحيد المتبقي من مسار الحل السياسي؛ فما هي مواقف قوى الثورة والمعارضة تجاهها؟ وهل يمكن لهذه القوى القيام ببعض الخطوات التي يمكن أن تسهم في عدم حصرية الحل السياسي في اللجنة الدستورية؟
تمثّل هذه الأسئلة قضايا إشكالية نسعى من خلال هذا الكتاب للإحاطة بها والمساهمة في الإجابة عنها، بحيث يكون بين يدي القارئ دراسة كاملة تغطي هذا المسار منذ بدايته حتى الآن.
ثمّة الكثير من الأبحاث والدراسات التي صدرت وتصدر عن المراكز السورية والأجنبية التي تتناول مسار الحل السياسي؛ إلا أن غالبيتها – نظراً لحالة السيولة وعدم الثبات التي تتصف بها القضية السورية بشكل عام – يركز على مقاطع زمنية محددة أو محطات سياسية معينة[3]، ولذا تبرز القيمة المضافة لهذا الكتاب فيما يلي:
- الشمول: يرصد هذا الكتاب مجمل تطورات الحل السياسي في سوريا منذ المبادرة الأولى التي أُطلق عليها “النقاط الست”، والتي أعلنها المبعوث الأممي كوفي عنان عام 2011، انتهاء بقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، ثم اقتصرت من الناحية العملية حالياً على مسار اللجنة الدستورية.
- الإطار التفسيري: لا يتوقف الكتاب عند استعراض مجمل التطورات التي حدثت لمسار الحل السياسي؛ إنما يسعى لتقديم إطار تفسيري لمجمل تلك التطورات، الأمر الذي يساعد على تحليلها واستشراف مآلاتها.
- الإطار المقارن: مقارنة مسار الحل السياسي في سوريا مع حالات أخرى مشابهة، كالحالتين البوسنية والفلسطينية؛ بما يساعد على استخلاص الدروس المستفادة، وإمكانية تطبيقها في سياقنا السوري.
- الاستعانة بعدة منهجيات بحثية لدراسة الموضوع، كالمنهجية الوصفية والمقارنة والتاريخية، بما يغطي مختلف زواياه.
- الاستعانة بمصادر معلومات أصلية.
واجهت فريقَ العمل تحدياتٌ أثناء إعداد هذا الكتاب، من أهمها:
- رصد التغييرات التي تطرأ على الملف السوري؛ وما أكثرها! خصوصاً في سياق سائل كالسياق السوري؛ ففي كل مرة كنا نريد قفل الكتاب كانت تطرأ بعض الأحداث المهمة التي تضطرنا لإعادة تحديثه ومحاولة رصد أثرها في مسار الحل السياسي.
- قلة المراجع والأبحاث والكتب الرصينة التي يمكن الاعتماد عليها؛ مما اضطرنا في كثير من الحالات للاعتماد على التقارير والمقالات الصحفية والإخبارية مصدراً ومادةً للتحليل والربط.
اعتمد هذا الكتاب الموسع بصورة أساسية على الإصدارات المتتالية التي أصدرها مركز الحوار السوري خلال السنوات الخمس الماضية والمرتبطة بمسار الحل السياسي، إلى جانب أوراق تقدير المواقف والنقاشات التي درات حولها في ندوات “مسار الكشاف” التي عقدها المركز على مدى سنة كاملة تقريباً وقاربت /12/ خلال عامَي 2017/2018[4].
عالج هذا الكتاب مواضيع الحل السياسي في سوريا عبر عدة منهجيات، من أبرزها:
- المنهج التاريخي: بهدف رصد مجمل الوثائق والقرارات والرؤى الصادرة عن الفواعل المحلية والدولية بخصوص مسار الحل السياسي السوري على مدى /11/ سنة الماضية، والمقارنة فيما بينها وتحليلها والوقوف على أبرز التغييرات التي طرأت عليها.
- المنهج الوصفي التحليلي: بهدف تحليل الأحداث المرتبطة بمسار الحل السياسي، وربطها بالتغييرات والمواقف الدولية؛ بما يعطي القارئ صورة شاملة للسياق والأسباب والنتائج، معتمداً في كل ذلك على منهجَي الاستقراء والاستنباط بحسب الواقعة المراد تحليلها.
- المنهج المقارن: عبر مقارنة مسار الحل السياسي في سوريا بغيره من المسارات التي حدثت في سياقات مشابهة، وتحديداً في السياقَين البوسني والفلسطيني.
- منهج تحليل المحتوى: الذي يركز على تحليل الوثائق والقرارات الدولية المرتبطة بالحل السياسي في سوريا، إلى جانب التصريحات والسلوكيات الصادرة عن الدول الفاعلة في الملف السوري.
يتألف هذا الكتاب من خمسة فصول: يسرد الأول أبرز الوثائق السياسية الخاصة بالثورة السورية، ثم يستعرض الفصل الثاني تطورات الحل السياسي، ليناقش الفصل الثالث تقاطع المصالح الدولية وأثرها في هذا المسار، وليستعرض الفصل الرابع مواقف قوى الثورة والمعارضة من اللجنة الدستورية وسيناريوهاتها؛ ومن أجل اقتراح الحلول المناسبة للتعاطي مع مسار الحل السياسي بشكل عام يتقدم الفصل الخامس بالآليات والأدوات التي يمكن العمل عليها من قبل قوى الثورة والمعارضة.
لتحميل الكتاب PDF: اضغط هنا
[1] Barbara F. Walter, 1997. The Critical Barrier to Civil War Settlement, International Organization, P.335.
[2] يُعزى هذا المصطلح بصورة أساسية إلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر الذي يُعد أول مَن استخدم هذا المصطلح، وكان قد طبّقه عملياً في الاتفاق الذي أبرم مع الفيتناميين، وهو يشير إلى استخدام مصطلحات غامضة يمكن تفسيرها بأكثر من وجه من أجل تحقيق توافق بين الأطراف المتفاوضة. يُنظر:
Michael Byers, Still agreeing to disagree international security and constructive ambiguity. Journal on the Use of Force and International Law, VOL. 8, NO. 1, 2021, p. 92.
[3] يُنظر على سبيل المثال: علي حسين باكير، الغموض غير البنّاء في مسار فيينا: قراءة في بيان مجموعة العمل الدولية لدعم سوريا، academia، 19-11-2015، شوهد في: 11-11-2021، تحديات الإصلاح الدستوري في جنيف 8 وآليات التعامل معها ؛ مركز الحوار السوري والمرصد الاستراتيجي، 26-11-2017، شوهد في: 21-6-2022؛ دراسة لوثيقة إعلان المبادئ الخاصة بالمجموعة المصغرة من أجل سوريا، مركز دراسات وأبحاث مينا، 28-9-2018، شوهد في: 11-11-2021.
[4] “مسار الكشاف”: مسار حواري أطلقه مركز الحوار السوري بالتعاون مع المرصد الاستراتيجي يهدف إلى إنضاج الحلول والرؤى تجاه الأحداث المستجدة المرتبطة بالملف السوري، عبر ندوات حوارية دورية تجمع السياسيين والخبراء والباحثين.
2 تعليقات