ما بعد قيصر؛ مَن يتحمل المسؤولية عن تردّي الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في سوريا؟
تقرير صادر عن الوحدة المجتمعية
يقود نظام الأسد حملة إعلامية واسعة النطاق تسعى للترويج لروايته التي تحمّل مسؤولية تردّي الأوضاع الإنسانية داخل سوريا للعقوبات الاقتصادية التي اشتدت وطأتها بعد إقرار قانون قيصر مطلع عام 2020؛ فقد أرسلت مجموعة شخصيات سياسية وثقافية معظمها مسيحية من عدة دول عربية رسالتَين قُدمتا إلى الرئيس الأمريكي والرئيس الفرنسي، تُطالبان برفع العقوبات ضد النظام السوري؛ على اعتبار أن الإجراءات القسرية المفروضة من الولايات المتحدة على النظام قد فاقمت من معاناة الشعب السوري[1].
وتأتي هذه التحركات المدنية في أعقاب تحركات سياسية ودعوات من حليفَي النظام روسيا والصين للاتحاد الأوروبي برفع العقوبات بحجة أنها تقوّض “بشدة” القاعدة الاقتصادية السورية، وتعوق وصول السوريين إلى الإمدادات والخدمات الطبية[2]، مستندة على بيانٍ أصدرته المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأثر السلبي للإجراءات القسرية الأحادية على التمتع بحقوق الإنسان، معتبرة أن العقوبات قد تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني الصعب بالفعل في سوريا، وخاصة في سياق جائحة كوفيد-19، وربما يتعرض الشعب السوري إلى مخاطر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان[3].
ويثير البيان السابق الكثير من التساؤلات فيما إذا كانت العقوبات الاقتصادية -وآخرها قانون قيصر- أحد أسباب تردّي الوضع الاقتصادي والإنساني في سوريا، ومدى تأثير تلك العقوبات على المساعدات الإنسانية التي تلقّتها سوريا، خاصة في ظل جائحة كورونا، أم أن الوضع الحالي هو نتاج الكثير من الأسباب الأخرى الذي يُعد قانون قيصر أحدها؟
الاقتصاد السوري قبل عام 2011
تتحسر شريحة من السوريين -خاصة من الموالين لنظام الأسد- على الأوضاع التي كانوا يعيشونها قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، ويرون أن سياسة النظام كانت تحقق نموّاً اقتصادياً لولا “المؤامرة الكونية” التي تعرضت لها البلاد ونظامها “المقاوم”؛ إلا أنه وبالنظر إلى السياسة الاقتصادية التي حكمت سوريا خلال حكم بشار الأسد حتى عام 2011 لا تبدو هذه المقولة صحيحة.
فقد انخفض الإنتاج الزراعي قبل عام 2011 لأكثر من %30؛ فبعد أن كان يسهم بربع الناتج المحلي الإجمالي أصبح يسهم بنحو 16% منه وفقاً لإحصائيات عام 2010، وتحولت سوريا إلى بلد مستورد للحبوب – خاصة القمح- بعد أن كانت مُصدّراً له، وتراجعت أعداد قطعان الماشية منذ عام 2008 بشكل كبير، وشهدت البلاد هجرة داخلية كبيرة من الريف إلى المدن قُدرت بـ 1.5 مليون شخص؛ وذلك نتيجة الجفاف من جهة، وسياسات نظام الأسد الفاشلة التي فاقمت من آثاره من جهة أخرى[4].
لمحة عن الاقتصاد السوري قبل عام 2011[5] | 2000 | 2005 | 2010 |
مساهمة الزراعة في الناتج المحلي | 24.7% | 23% | 16.3% |
مساهمة الصناعة والتعدين في الناتج المحلي | 30.1% | 24.8% | 23.7% |
مساهمة التجارة في الناتج المحلي | 14.9% | 20.2% | 20.2% |
مساهمة قطاع النقل في الناتج المحلي | 12.6% | 10.8% | 13% |
معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي | 5% | 6.2 % | 3.3% |
فيما أشارت دراسة خارطة الفقر الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2004 ؛ إلى أن معدل انتشار الفقر بشكل عام في المناطق الريفية بلغ 62%، وهي نسبة أعلى من المناطق الحضرية، وبلغ عدد المواطنين الذين لم يتمكنوا من تغطية احتياجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية في سوريا عام 2003/2004 قرابة 2.02 مليون فرد ( 11.4% من السكان)، وارتفع الفقر الإجمالي في سوريا إلى 30.12% ليشمل 5.3 ملايين شخص؛ فقد ذكرت الدراسة أن “النمو الاقتصادي” الذي حققته البلاد لم يخدم الفقراء، وإنما استفاد منه غير الفقراء، حيث كانت حصة الشريحة الأدنى اقتصادياً والتي تشكل 20% من مجموع السوريين ما قيمته 7% فقط من معدل الإنفاق الحكومي، في حين كانت استهلاك الشريحة الأكثر ثراءً من السوريين -والتي بلغت 20% من مجموع السوريين- ما قيمته 45% من إجمالي الإنفاق[6].
معدلات الفقر والبطالة في سوريا قبل عام 2011 | 2000 | 2004 | 2007 | 2010 |
معدل الفقر العام | 30.12% | 33.6% | ||
معدل الفقر المدقع | 11.4% | 12.3% | ||
معدل البطالة من إجمالي القوة العاملة | 9.5% | 12.7% | 8.4 % | 8.61% |
معدل البطالة بين الجامعين | 2.5% | 2.6% | 6.1% | 9.4% |
وقد ارتفع معدل الفقر خلال 6 سنوات؛ فأشارت النشرة التنموية الاقتصادية الخاصة بالمؤشرات الربعية للربع الأخير من عام 2011 الصادرة عن مديرية دعم القرار في رئاسة مجلس الوزراء إلى أن أكثر من نصف سكان سوريا كانوا تحت خط الفقر، وأن معدل البطالة وفقاً للشرائح العمرية بين الشباب ارتفع ووصل إلى ما يقارب 40% من الشريحة العمرية 15-24 سنة، بعد أن كان يبلغ 20.4% عام 2010، بنسبة زيادة سنوية بلغت حوالي 75.5%[7]؛ وهو ما يؤكد أن نظام الأسد لم يكن يملك سياسة اقتصادية واضحة، بل كان يقود البلاد نحو الانهيار الاقتصادي البطيء.
سياسات نظام الأسد ودورها في الانهيار الاقتصادي
أدت سياسة نظام الأسد في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في سوريا عام 2011 إلى استنزاف موارد الدولة والإضرار بالاقتصاد، خاصة مع اعتماده الحل العسكري على مدار سنوات؛ وهو ما دمّر البنية التحتية للبلاد، وحوّل مساحات شاسعة من المدن السكنية والصناعية لأنقاض، وتسبب بخسارة المعابر وحركة التجارة والترانزيت وتوقف عمليات الاستيراد والتصدير، والوقوع تحت العديد من العقوبات الدولية، وهروب الكفاءات واليد العاملة الخبيرة والاستثمارات إلى خارج البلاد.
2010 | 2011 | 2015 | 2016 | 2017 | 2019 | |
نسبة الانفاق العام من الناتج المحلي | 29% | 17.6% | 13% | |||
نسبة الانفاق الجاري من الناتج المحلي | 21.6% | 15.3% | 10.5% | |||
الدعم الحكومي كنسبة من الناتج المحلي | 20.2% | 5.1% | 4.9% | |||
الإيرادات كنسبة من الناتج المحلي | 25.4% | 10.5% | 7.4% | |||
إجمالي الدين المحلي من الناتج العام | 17% | 109% | 59% | 93% | ||
إجمالي الدين الخارجي من الناتج العام | 7% | 7% | 127% | 116% | ||
إجمالي الدين العام من الناتج المحلي | 30% | 196% | 208% | |||
معدل البطالة | 14.9% | 51.8% | 42.3% | |||
معدل الفقر الإجمالي (كامل سوريا) | 21% | 89.4% | 86% | |||
معدل الفقر المدقع (كامل سوريا) | 17% | 44.9% | 71% |
تغير المؤشرات الاقتصادية بعد عام 2011[8]
وقد أسهم ارتهان نظام الأسد لإيران ومشروعها في المنطقة، والدعم غير المحدود – المادي والعسكري -الذي تلقّاه منها منذ بداية اندلاع الثورة السورية بتعويض بعض الموارد الاقتصادية المفقودة إلى حد ما خلال السنوات الماضية؛ فقد أشارت تقديرات تقدير الأمم المتحدة إلى أن متوسط إنفاق إيران في سوريا يعادل 6 مليارات دولار سنوياً، وهذا يعني أنها أنفقت بين عامي 2012-2018 مقدار 36 مليار دولار[9]، في حين قدّر الدعم الإيرانيّ غير العسكريّ المقدَّم إلى سوريا خلال الصراع بنحو 15.6 مليار دولار أميركيّ على شكل خطوط ائتمانية[10]؛ ضمّ صادرات نفطية وغذائية وطبية ومنحاً مالية، وفاقم من حجم الدين الخارجي لصالح إيران[11].
مقارنة بين حجم الصادرات الإيرانية والصادرات السورية بين عامي 2010-2018[12]
ورغم الدعم الإيراني السخي فقد تقلص حجم الاقتصاد السوري بمقدار الثلثين مقارنة بعام 2010، و تحولت السياسة الاقتصادية في سوريا إلى ما يُعرف بـ”اقتصاد النزاع”، الذي يعتمد على السيطرة على الموارد وتوزيعها مع الحفاظ على السلطة ومواصلة النزاع، وذلك من خلال نهب وسلب الثروات الخاصة والعامة والموارد الطبيعية التي استخدمت لإعادة توزيع الموارد المتبقية على أمراء الحرب والفئات المستفيدة من الصراع، وهو ما شكّل أكبر عملية إعادة توزيع للثروة في سوريا المعاصرة، وأنتج حوافز لاستمرار النزاع، وحوّل الأسس الاقتصادية السورية إلى اقتصاد عنف ذاتي الاستدامة تعرض فيه مخزون رأس المال الأساسي للتدمير أو لدعم أنشطة مرتبطة بالنزاع، لاسيما وأن السياسة المالية لحكومة نظام الأسد تعطي الأولوية للإنفاق العسكري، وتقوم بتخصيص معظم الموارد المتاحة له على حساب الأنشطة والخدمات التي يقدمها القطاع العام، وتسعى أيضاً لزيادة إيرادات الحكومة من خلال فرض الرسوم والضرائب وتحرير أسعار السلع الرئيسية، لاسيما المحروقات، وإلغاء دعمها جزئياً[13].
لقد كانت فاتورة التدخل الروسي والإيراني باهظة؛ فخسرت البلاد ما تبقى من مواردها الاقتصادية وثرواتها الباطنية لصالح حلفاء النظام الذين استولوا على مناجم الفوسفات والموانئ والقطاعات الحيوية، واستحوذوا على عقود استثمارية طويلة الأمد، إلى جانب خسارتها السيطرة على العديد من حقول النفط والغاز ومساحات واسعة من حقول القمح التي كانت من الموارد الأساسية للاقتصاد.
وقدّر البنك الدولي في تقرير عام 2018 أن الاقتصاد السوري يسير نحو الاضمحلال في حال استمرت الحرب[14]، وذلك قبل إقرار العقوبات الأمريكية، وقبل تراجع الدعم الإيراني نتيجة الأزمة الاقتصادية والداخلية التي ضربت إيران في وقت لاحق[15].
تراجع الناتج الإجمالي السوري بين عامي 2011-2017[16]
فقد بدأت بوادر الانهيار الاقتصادي في سوريا بالظهور بشكل فاقع في منتصف عام 2019، بعد تراجع رقعة العمليات العسكرية واستعادة النظام السيطرة على أغلب المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة؛ فبدلاً من تحسُّن المؤشرات الاقتصادية بدأت الليرة السورية بالانهيار بعد أن طفت الخلافات الداخلية مع رامي مخلوف على الواجهة إثر مصادرة شركاته بعد صراع داخلي على ما تبقى من موارد، وذلك قبل إقرار قانون قيصر بستة أشهر [17].
كما تفاقم التضخم وتضاعفت قيمة الاحتياجات الأساسية 250 مرة، بينما تراجع الدعم الحكومي على المنتوجات الأساسية، وتضاعف سعر الخبز المدعوم. وارتفعت الميزانية الشهرية للعائلة السورية بنسبة 74% خلال الأشهر التسعة الأولى لسنة 2019، وذلك قبل تطبيق قانون قيصر، فيما تضاعفت أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية[18].
وفي ظل هذه الأزمة، ورغم كل المؤشرات السابقة لم يلتفت نظام الأسد لتطوير سياساته الاقتصادية؛ بل ركّز على الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، فنشطت تجارة المخدرات بشكل كبير في العامَين الأخيرَين بإشراف بعض أفراد عائلة الأسد، كسامر الأسد ابن عم رأس النظام الذي يسيطر على ميناء اللاذقية وعدد من الشخصيات الأمنية، وأصبحت هذه التجارة شرياناً اقتصادياً بديلاً يحاول من خلالها كل من نظام الأسد وحزب الله تأمين موارد مالية جديدة، وهو ما حوّل سوريا إلى مركز عالمي لإنتاج الكبتاغون الذي تطورت عمليات تصنيعه أكثر من أي وقت مضى، وقُدرت حجم صادراته بقيمة سوقية لا تقل عن 3.46 مليار دولار وفقاً لدراسة أصدرها مركز تحليل وبحوث العمليات (COAR)[19].
وقد سُجّل في العامَين الماضيَين اعتراض ما لا يقل عن 15 شحنة من حبوب الكبتاغون في الشرق الأوسط وأوروبا، آخرها ما كُشف في السعودية ثم تركيا، تم إرسالها جميعاً من سوريا، أو عبر الحدود اللبنانية حيث تشكلت شبكة من عائلات الجريمة وزعماء الميليشيات والشخصيات السياسية، حوّلت المناطق الحدودية بين البلدَين لمركز تصنيع وتوزع كميات من المخدرات على نطاق صناعي[20].
وقد ألقت الأوضاع الداخلية والسياسية والاقتصادية في لبنان أواخر عام 2019 بظلالها على سوريا، لاسيما وأن الشركات والمصارف اللبنانية كانت الحديقة الخلفية التي يُجري من خلالها نظام الأسد وأركانه معاملاتهم المالية، في محاولةٍ للالتفاف على العقوبات؛ فقد أدت الانهيارات المالية والنقدية وتعطُّل النظام المصرفي اللبناني إلى تجميد مليارات الدولارات التي كانت ملك التجار السوريين المقربين من النظام في البنوك اللبنانية بسبب انهيار نظام المصارف[21].
ويشير تقرير صادر عن منظمة الأغذية العالمية ومكتبها في سوريا إلى أن أسعار السلع الغذائية ارتفعت بشكل كبير نتيجة التقلبات في سعر صرف الليرة السورية، وبلغت مستوى وصل إلى 3972 ليرة سورية مقابل الدولار في بداية عام 2020، وتزامن ذلك مع انهيار الليرة اللبنانية إلى مستويات قياسية؛ وقد اعتبر التقرير أن التقلب في العملة السورية يعود بشكل أساسي للاضرابات المالية والسياسية في لبنان ولسياسات البنك المركزي التي تقييد حجم التحويلات النقدية بين المحافظات،أو التي تحدد حجم السحوبات من الحسابات المصرفية السورية[22].
وعلى الرغم من الرواية الإعلامية الرسمية التي استخدمت العقوبات الدولية والأمريكية -خاصة قانون قيصر- ذريعةً تُلقي عليها مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها عامة الشعب، وتبرر إخفاقات الحكومة؛ فقد خرج رأس النظام في 5نوفمبر/تشرين الثاني2020 ليصرّح في مقابلة تلفزيونية أن: “السبب الجوهري لتفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا يعود إلى حجز ودائع للسوريين تُقدر ما بين 20 و42 مليار دولار فُقدت في القطاع المصرفي اللبناني، وأن هذا الرقم بالنسبة لاقتصاد سوريا رقم مخيف”، مشيراً إلى أن “الأعباء الاقتصادية الحالية ليس سببها قانون “قيصر”، وإنما بدأت الأزمة الحالية قبل قانون قيصر بعد الحصار بسنوات“[23].
آثار قانون قيصر بعد عام على إقراره
من الصعب تتبع تأثير قانون قيصر بشكل منفرد بمعزل عن العوامل الأخرى التي تؤثر بشكل مباشر في الاقتصاد السوري، لاسيما وأن هدف القانون كان سياسياً أكثر من كونه اقتصادياً؛ فقد سعى بالدرجة الأولى للضغط على نظام الأسد للانخراط في حلّ سياسي[24]، إلا أن هذا القانون الذي يستهدف قطاعات الطاقة والطيران والاتصالات بشكل رئيسي أثّر بوضوح وبشكل سلبي على الدول التي تدعم النظام.
لقد شهدت إيران منذ عام 2017 عقوبات اقتصادية نتيجة الانسحاب من الاتفاق النووي مع أمريكا، إلا أن ذلك لم يؤثر بشكل واضح على دعمها للنظام أو دعم العمليات العسكرية التي بلغت أشدها عامي 2017-2018، ولكننا نجد آثار تلك العقوبات وبعض العوامل الأخرى ظهرت لاحقاً بشكل تراكمي على شكل أزمة اقتصادية سياسية اجتماعية ضربت العمق الإيراني، وبرزت خلال العامين الأخيرين[25]، مما أدى إلى تراجع حادّ في حجم الدعم المالي الإيراني لسوريا، وبدا بشكل واضح مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ؛ حيث لم تعد إيران تجرؤ على إمداد النظام السوري بالنفط أو الغاز كالسابق لأن شحناتها ستُستهدف[26].
ومن جهة أخرى كشفت روسيا على لسان سفيرها في دمشق صعوبة تقديم دعم روسي مالي للنظام السوري، خاصة وأن روسيا اليوم تحت تأثير العقوبات، وتعاني من ركود اقتصادي بسبب جائحة كورونا؛ فأكّد السفير الروسي أن “الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سورية اليوم صعب للغاية، ربما يكون هو الأصعب على مدار سنوات الصراع، حيث يبدو الاستنزاف العام للاقتصاد السوري واضح عاماً بعد عام”[27].
ويعتقد بعض المحللين الاقتصاديين السوريين أن نظام الأسد يعاني من شحّ في السيولة النقدية بشكل كبير، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ العديد من القرارات التي تفرض قيوداً على حركة الأموال، أو إلى لجوئه لرفع أسعار المشتقات النفطية مرتين، وهذا يعود بشكل أساسي إلى عجز النظام المالي وعدم قدرته على دفع تكاليف الاستيراد، وانخفاض التوريدات النفطية الإيرانية نتيجة تشديد العقوبات الأمريكية[28].
ومما يؤكد سياسة نظام الأسد المالية سعيه لجمع العملات الصعبة من السوق عبر مجموعة من الإجراءات التي بدأها باعتماد سعر رسمي قريب من أسعار السوق السوداء، والاشتراط بأن يتم دفع المبالغ السورية مقابل شراء دولار بتسليم آجل لعشرة أيام أو عشرين، والتحفظ على أرصدة الليرة في البنوك وعدم السماح بسحبها إلاّ في نطاق ضيق؛ وهو ما شجّع المغتربين على إرسال حوالات إلى عائلاتهم وأدّى إلى ضخّ مبالغ صغيرة للغاية أثّرت في قيمة الليرة السورية جزئياً[29].
ومما سبق: يبدو أن العقوبات الأخيرة وما رافقها من إجراءات حاسمة بحق الكيانات والشركات التي تقدم دعماً لنظام الأسد قد أربكت الدول الداعمة له بشكل كبير، خاصة إيران وروسيا، وأثرت عليهما بشكل ما، وترافق ذلك مع تنامي آثار أزمة كورونا التي ضربت دول العالم جميعها، ومع الأزمات التي شهدتها هاتان الدولتان على المستويين الداخلي والسياسي، الأمر الذي أدى إلى تحجيم وتراجع حجم التمويل المقدم لنظام الأسد، سواء كان على شكل مساعدات مادية أو رواتب لبعض المجموعات التابعة لها أو شحنات نفطية؛ مما سارع في وتيرة الانهيار الاقتصادي، إلى جانب الكثير من السياسات الاقتصادية المتخبطة التي انتهجها نظام الأسد لضمان بقائه وسلطته.
العمل الإنساني في سوريا؛ ما بعد قانون قيصر
يصرُّ نظام الأسد على تصدير أزمته الداخلية والاقتصادية، وعلى ادّعاء أن العقوبات الأمريكية هي السبب في المعاناة التي يعيشها المواطن السوري، وأنها هي التي حرمته من الوصول إلى احتياجاته الأساسية وحرمته من وصول المساعدات، رغم وجود الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن وتيرة تدفق المساعدات لم تتراجع قط[30].
وفي محاولة لاستقراء واقع الاستجابة الإنسانية في سوريا يبدو الأمر متعذراً، لاسيما مع شحّ المعلومات حتى تلك الصادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة UCHA الموجود في دمشق، وغياب التقارير والشفافية عن عمل المنظمات؛ فمن بين المعلومات القليلة المتاحة ما يشير إليه موقع التتبع المالي العالمي الخاص بالمساعدات الإنسانية أن الهلال الأحمر السوري تلقى عام 2019 مساعدات تصل قيمتها إلى 2.88مليون دولار[31]، بينما بلغت مجموع المساعدات التي تلقاها الصليب الأحمر السوري والفلسطيني عبر شركائه الدوليين ما يقارب 18 مليون دولار عام 2020[32]، أي بعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، فيما تؤكد تقارير أخرى أن إجمالي ما تلقاه كل من الهلال الأحمر السوري والصليب الأحمر السوري منذ عام 2012 وحتى عام 2020 بلغ 190 مليون دولار، بنسبة بلغت 91% من حجم تعهدات التمويل الممنوحة[33].
وفيما يتعلق بخطة الاستجابة العاجلة لجائحة كورونا يشير تقرير آخر إلى أن حجم التمويل المقدم للمناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد بلغ 78 مليون دولار، بنسبة تغطي 44% من إجمالي التمويل المطلوب، كما تم توزيع 6ملايين قطعة من معدات الوقاية الشخصية الطبية للعاملين الصحيين ومليون قطعة للمنظمات لشركاء القطاع الصحي، في حين قامت اليونيسيف بإعادة تأهيل العديد من المرافق الصحية ومحطات ضخّ المياه الصالحة للشرب في العديد من المحافظات[34]، ورغم ذلك كانت فعالية هذه الاستجابة محدودة جداً؛ إذ لم تظهر آثار هذه المساعدات على النحو المطلوب، وارتفعت أعداد الوفيات من العاملين في القطاع الطبي[35].
وقد تلقت 159 منظمة داخل سوريا بعد إقرار قانون قيصر مساعداتٍ خارجيةً من الصعب تحديد حجمها؛ نظراً لشحّ البيانات المالية، بينها 11 وكالة أممية و20 منظمة دولية غير حكومية و12 منظمة حكومية، ونفذت من خلالها عمليات استجابة إنسانية بدعم من الخارج وصلت إلى قرابة 4 مليون مستفيد[36]، كما يوضح الجدول الآتي:
عدد المنظمات العاملة داخل سوريا(مناطق سيطرة النظام) | الأعوام | ||
2018 | 2019 | 2020 | |
المنظمات التابعة للأمم المتحدة UN | 9 | 9 | 11 |
المنظمات المحلية غير الحكوميةNNGOs [37] | 126 | 128 | 114 |
المنظمات الدولية غير الحكومية INGOs | 19 | 26 | 20 |
المنظمات الحكومية GOS | 14 | 11 | 12 |
الهلال الأحمر السوري SARC | 1 | 1 | 1 |
الهلال الأحمر الفلسطيني PARC | 1 | 1 | 1 |
المجموع | 170 | 179 | 159 |
وبالتالي فإن المساعدات الإنسانية التي وردت إلى مناطق نظام الأسد أو إلى المنظمات التي تعمل في مناطقه لم تتأثر نتيجة إقرار قانون قيصر؛ بل قد تكون حصة ما حصلت عليه مناطق نظام الأسد أكبر من حصة ماحصلت عليه مناطق المعارضة، إلا أن أثر هذه المساعدات لم يظهر للعيان نتيجة الفساد أو سوء التوزيع أو ضعف الاستجابة[38].
فعالية الاستجابة الانسانية في مناطق النظام
مع غياب الشفافية والشحّ الشديد في المعلومات يغدو من الصعب جداً متابعة فعالية أعمال الاستجابة الإنسانية التي تجري في مناطق سيطرة نظام الأسد، والتأكد من آلية تقييم الاحتياجات وآلية التوزيع وتقارير الرقابة والتقييم، سواء للمساعدات العينية أو للمساعدات الواردة على شكل خدمات أو حتى رواتب القائمين عليها، لاسيما مع وجود الكثير من الأدلة التي تشير إلى استخدام المساعدات الإنسانية في الأعمال العسكرية[39] وتسييس توزيع المساعدات، خاصة من قبل بعض المنظمات التي تتبع بشكل غير مباشر لنظام الأسد، كالهلال الأحمر السورية والأمانة العامة للتنمية[40].
ويشير أحد المطلعين على سير العمليات الإنسانية ضمن مكتب الأوتشا داخل سوريا[41] إلى أن المنظمات العاملة في سوريا تعاني من العديد من المشاكل، سواء الدولية أو المحلية؛ فقد نصّت القوانين السورية منذ سنوات على استلام مبالغ الدعم الدولي الوارد لهم من الخارج بالليرة السورية وبسعر المصرف المركزي الذي يصل إلى نصف السعر الحقيقي، وهو ما يعني أن نظام الأسد كان يستولي على نصف التبرعات بشكل غير مباشر[42].
وإلى جانب انخفاض سعر الصرف أدى تذبذب العملة واضطرابها إلى تخفيض القيمة الحقيقية لتنفيذ أي مشروع والتي لم تتجاوز 35 % من قيمته النقدية وفق تقديرات مطّلعين، على اعتبار أن الكتلة المالية الأكبر في أي مشروع تصرف على الرواتب وفي عمليات الشراء، ونتيجة لهذا فإن الكثير من المشاريع حتى لو وصلت إلى مستحقيها فإنها ستكون أقل جودة وأضعف مردوداً من المتوقع[43].
وإلى جانب التداعيات الاقتصادية تعاني المنظمات العاملة في الشأن الإنساني من نقص حادّ في الخبرات المؤهلة التي يمكنها أن تدير العمل الإنساني أو تقدم الخدمات اللازمة؛ فمعظم الكفاءات السورية قد غادرت البلاد في وقت سابق هرباً من تداعيات الحرب أو من عمليات التجنيد الإجباري، لاسيما تلك العاملة في المجالين الطبي والتعليمي[44].
وقد حاولت بعض المنظمات استقدام كوادر أجنبية مختصة لسد هذه الثغرة، إلا أنها فُوجئت بعرقلة إدارية قام بها نظام الأسد الذي يتحكم بالتأشيرات والإقامات الممنوحة للعاملين الأجانب؛ إذ غالباً ما كانت تلك التأشيرات والإقامات تأتي بالرفض أو تُمنح بمدة قصيرة جداً، ولا تُعطى بسهولة إلا لموظفين من نمط معين، كأن يكونوا من أصحاب رأي سياسي قريب لنظام الأسد، سواء كانوا من خلفيات دينية شيعية أو من المتطرفين اليمينيين الذين لديهم مواقف معادية لوجود اللاجئين، وبالتالي يضمن نظام الأسد أن تخرج تقارير هؤلاء الموظفين الأممين متعاطفة معه تروّج لروايته إلى حد كبير[45].
ومن جهة أخرى من الصعب معرفة أين ذهبت المساعدات وهل وصلت إلى مستحقيها؟[46] لاسيما مع عدم وجود تقييم حقيقي للاحتياجات من جهة، ولعدم الوثوق بالجهة التي تدعي تقييمها تلك الاحتياجات من جهة أخرى؛ فالكثير من المنظمات التي تعمل في الداخل هي واجهة للعديد من الشخصيات التابعة للنظام، والكثير من المنظمات متورطة في منظومة فساد، حتى بعض المنظمات الأممية[47].
وإلى جانب هذا الفساد الممنهج الذي ينتهجه الجهاز البيروقراطي في نظام الأسد تعيش كثير من المنظمات ما يمكن أن يُعد ثقافة فساد عامة منتشرة بين شرائح واسعة، خاصة مع غياب الرقابة الحكومية أو تغافلها؛ حيث يسعى معظم العاملين في أي مشروع إنساني على اختلاف مسؤولياتهم إلى تحصيل أكبر قدر من المنفعة، سواء من خلال توزيع المساعدات على معارفهم أو بيع جزء منها[48].
ويصرّ نظام الأسد على إحكام سيطرته على عملية الاستجابة الإنسانية برمّتها، بغضّ النظر عما يجري داخلها من فساد؛ حيث يتحكم بعمل المنظمات المحلية وحتى الدولية، ويوقف بعضها أو يسمح بترخيص أخرى أو يصدر بعض القوانين التي تسمح له بهامش واسع من المراوغة والالتفات على العقوبات، وتعطيه أوراق ضاغطة يمكن أن يستثمرها لصالح أهدافه السياسية[49]، التي يمكن أيضاً أن تكون شكلاً من أشكال التهرب من قانون قيصر والالتفاف حوله، كتحويل الأموال والحوالات وما إلى ذلك، ويبرروها بمساعدات إنسانية.
هل يوقف رفع العقوبات الانهيار الاقتصادي؟
لا يبدو أن إقرار قانون قيصر كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والأزمة الإنسانية التي ترافقت معه، وإنما كان عاملاً إضافياً إلى جانب عشرات العوامل الأخرى الداخلية والخارجية ذات التأثير الأوضح، لاسيما مع السياسات الاقتصادية التي فرضت القيود والتعقيدات على المستثمرين وعلى حركة السحوبات المالية من جهة، واستغلت من جهة أخرى أي فرص لتصدير المنتجات في عمليات تهريب المخدرات إلى الدول المجاورة؛ وهو ما سيضرّ بسمعة أي صادرات سورية، وسيزيد القيود عليها أو يوقفها، ويوقف معها ما يمكن أن توفره للبلاد من قطع أجنبي.
ومن المتوقع أن تستمرّ سياسات نظام الأسد التي أعطت الأولوية لصرف كل الموارد المالية المتاحة في دعم العمليات العسكرية التي استهلكت مقدرات البلاد البشرية والاقتصادية– بما فيها المساعدات الأممية- لخدمة مصالحها، وتسخيرها لخدمة عمليات لاحقة قد تشنّها آلته العسكرية لانتزاع ما تبقى من مناطق تقع خارج سيطرته، ولو كان ذلك على حساب تهديد حياة ملايين المدنيين القاطنين فيها، ممن سبق أن عانوا من الحصار والقصف والتهجير الذي فرضه عليهم النظام نفسه.
كما لا يبدو أن رفع هذه العقوبات يمكن أن يحسّن من وضع ملايين السوريين الذين تجاوزوا خط الفقر، في ظل تلك السياسات الممنهجة التي يتحكم فيها نظام الأسد بعمل المنظمات الإنسانية، والقيود القانونية والبيروقراطية التي يفرضها، ومنظومة الفساد الممنهج التي لا يمكن تجاوزها أو إصلاحها، وغياب تقارير تقييم الاحتياجات والكوادر الكَفُوءة التي تقود هذه العملية بشكل نزيه وعادل، وتقدر على تحقيق استجابة حقيقية وفعّالة تصل إلى أصحاب الاحتياج بأكبر فائدة متاحة.
- قرار غير معلَن من المصرف المركزي، تجار حمص يعانون من تخفيض سقف السحب اليومي، عنب بلدي، تاريخ النشر 11/4/2021، https://bit.ly/3sYsrQw نشرة أسعار السوق في سوريا
- SYRIA COUNTRY OFFICE, MARKET PRICE WATCH BULLETIN, March 2021 ISSUE 76, https://bit.ly/32RKhdk
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة