الورقة البحثية ” إيران والتنظيمات المتطرفة …. علاقات وتوافقات في مناطق الصراع “
المقدمة:
يأتي الإصدار الثاني من دراسة “استثمار إيران في جماعات الغلو والتطرف[1]” تحت عنوان: “إيران والتنظيمات المتطرفة …. علاقات وتوافقات في مناطق الصراع”، ويبحث ابتداءً في العلاقة المعقَّدة لأدوات إيران[2] في المنطقة مع تلك الجماعات من العراق إلى سوريا ولبنان؛ لأن العلاقة بين الطرفَين لم تبدأ مع الثورة السورية، ولأن أنشطة أدواتها في العراق ولبنان تؤثّر بشكل خاص في الساحة السورية. وعلى نحو ما شرحنا في الإصدار الأول ابتداء العلاقة المحرَّمة لإيران مع الغُلاة المتطرفين فقد وسّعنا هنا دائرة النظر في الخريطة الجغرافية لفهم أبعاد العلاقة الاستثمارية بينهم، فكما أن للقاعدة “أخوات” ذاقت الثورة السورية الويلات على أيدي عناصرها فإن لإيران “أدوات” في المنطقة تضرب بها؛ لذا نظرنا في الدراسة إلى الطرفَين نظرة شاملة موحدة، مع شرح أدلة الاستثمار المتبادل الذي لا تخرج عنه أدوات إيران ولا أخوات القاعدة في العراق وسورية ولبنان وغيرها.
ولأنه لا يمكن للتنظيمات المتطرفة تنفيذ عملياتها الإرهابية بسهولة، ويلزمها تمويلٌ عالٍ يفوق ما قد يُجمع لها من المتعاطفين معها بحثْنَا فيما وصل بداعش لتكون “أغنى منظمة إرهابية في التاريخ”؛ ومع تعدُّد أسباب ذلك إلا أنَّ لإيران وأدواتها صلةً في ذلك التمويل المشبوه، ثم في طرق تنظيمات الغلو والتطرف استثمار تلك الأموال وتحصيل موارد جديدة؛ فكشفْنَا اضطلاع إيران وأدواتها في تمويل تلك التنظيمات وتحسين مواردها.
ولم تقف العلاقة بين إيران والتنظيمات المتطرفة على الساحة السورية والساحة العراقية المجاورة؛ بل امتدت لتشمل بمشاريع استثمارية تخريبية بلداناً أخرى، فكشفَ هذا الإصدار من الدراسة عن علاقة إيران بدعم الغلاة المتطرفين في دول الخليج العربي خاصة، وفي مناطق الغالبية السنّية عامة.
لتخلص الدراسة إلى بيان اعتماد كلا الطرفَين (إيران وجماعات الغلو والتطرف) براغماتية نفعية عالية جعلوا معها ما يعلنون من شعاراتِ عداوة بعضهم بعضاً وراء ظهورهم في سبيل تحقيق أهدافِهم المتقاطعة.
ونختم الدراسة بجملة توصيات بعد دراسة الاستثمار الإيراني في جماعات الغلو والتطرف[3]؛ لأن علاقة إيران مستمرة مع تلك التنظيمات، فيلزم الاستفادة مما كُشف عنها توفيراً لدماء وجهود جديدة.
إيران “وأدواتها” …. والاستثمار في سوق الغُلاة ذاته:
سبق في الإصدار الأول من هذه الدراسة بيان تأسيس علاقة إيران بالقاعدة و”أخواتها”، ونبيّن هنا صلة أدوات إيران في المنطقة بتنظيمات الغلاة، ونحاول كشف مساعيها للاستثمار في سوق الغُلاة المتطرفين ذاته؛ فإيرانُ بأيديولوجيتها الطائفية التوسعية صار لها أدواتٌ تضرب بها خارج حدودها في المنطقة عسكرياً وثقافياً، وصارت تدور في فلكها ميليشياتٌ طائفيةٌ[4] في لبنان والعراق وسوريا لا تخرج عما تراه قيادة إيران وعن أهدافها في المنطقة؛ وهذه الدراسة تنظر إليها على أنها مكوّن واحد في الحالة السورية، إذ لا يخرج نظام الأسد والميليشيات التابعة لإيران -غالباً وخصوصاً في موضوع الدراسة- عن خطّها، وحيث إنّ النفوذ الإيراني في العراق لا يقلّ عنه في سوريا حالياً، وإنّ تنظيمات الغُلاة دخلت الأراضي السورية بعد انطلاق الثورة السورية من الأراضي العراقية وما زالت تربطها صلات على جانبَي الحدود[5]؛ فقد جرت الدراسة على تتبع آثار استثمار إيران في تنظيمات الغُلاة المتطرفين في البلدَين.
أدوات إيران في العراق …… وإنعاش داعش:
لعل أوضح ما يبيّن أثر أدوات إيران في العراق بإنعاش تنظيم داعش سقوطُ الموصل بيد التنظيم في حزيران 2014، حينما عظمت خسائر تنظيم داعش في سوريا بعد احتشاد الفصائل ضده وطرده نحو مناطق نفوذه في العراق؛ حتى إن تنظيم داعش اضطر لطلب الهدنة وقتذاك مع تعاظُم خسائره[6]. فجاء سقوط الموصل بما حمله من الأموال والأسلحة ولادةً ثانيةً للتنظيم، فأزال الحدود واكتسح مناطق واسعة بين سوريا والعراق، وأعلن “خلافته” في نهاية حزيران 2014[7].
وبالتدقيق في سقوط الموصل ثاني أكبر مدن العراق[8] يعنينا أوامر الانسحاب التي أصدرها رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي للتشكيلات العسكرية؛ إذ يكشف “بن رودس” نائب مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما[9] في كتابه “العالم كما هوThe world as it is “: أن المالكي “أمرَ الجيش بالهروب من الموصل عمداً، وبتركِ العتاد العسكري الذي تزيد قيمته على 20 مليار دولار”[10]، ويضيف الكاتب: أن المالكي تعمّد إبقاء مبلغ 600 مليون دولار في فرع البنك المركزي في الموصل؛ وبهذا يكون قد أسهم في إدخال 600 عنصر من التنظيم إلى الموصل في عام 2014، وزوّدهم بما يلزمهم من أموال وعتاد، لكي يبدأ مسلسل التنظيم وإيران، وتتحرك الأمور وفق ما يشتهيه حكّام طهران وفقاً لرودس، ويؤكد رودس أن أوباما كان على علم بأن إيران هي مَن يحرّك تنظيم الدولة، وكان يغضّ الطرف عن ذلك؛ لأنه كان يريد أن يختم عهده باتفاق يمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وفي سبيل هذا الهدف كان على استعداد لدفع أي ثمن”[11]. وقبل ما كشفه “بن رودس” عن هذا كانت لجنة برلمانية عراقية اتهمت رئيس الوزراء نوري المالكي و35 مسؤولاً بالمسؤولية عن سقوط الموصل بيد داعش، وأن القائد العام للقوات المسلحة آنذاك نوري المالكي هو الذي أصدر أوامر انسحاب القطاعات العسكرية وفقاً لشهادات القادة العسكريين[12]. والذي يجعلنا نؤكد استثمار إيران في هذا الحدث المفصلي في عمل تنظيم داعش بين العراق وسوريا أن المالكي كان ذراع إيران في العراق، وهو ابن حزب الدعوة المُتبنَّى من إيران، والذي لا يمكن أن يتحرك إلا بأمر من إيران، وليس بموافقتها فحسب[13]، وقد بلغ من وضوح الأمر أن العديد من العراقيين اتهم المالكي بدعم داعش وتسخيره لخدمة التطلعات الإيرانية[14]. فلا يُستغرب مع النفوذ الإيراني في العراق أن تتعطل لجنة سقوط الموصل سنوات بسبب الضغوط السياسية؛ بل مُنعت اللجنة من قراءة الملف المكوَّن من 125 صفحة في مجلس النوّاب لأسباب سياسية[15]. ولأن أدوات إيران واحدة وتتصافح من فوق الحدود لجأ المالكي إلى أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله لحمايته من الـمُساءلة القانونية والمحاكمة بالفساد[16]؛ ولا عجب في هذا ما دامت مليارات الدولارات قد سُرقت من العراق وأُرسلت إلى مناطق حزب الله في جنوب لبنان كما كشفت وثائق نُشرت مؤخراً[17]. وقد استثمرت إيران سقوط الموصل الذي لا يخفى أثرها فيه بشكل مميز؛ إذ مثّلت فرصة كبرى لها لتقوية الميليشيات العسكرية التابعة لها ودفعها بحجة مواجهة داعش وتحرير الموصل[18]، ومع الِمنَّة على أكراد العراق لمسارعتها للحد من تقدّم داعش باتجاه أربيل حينها[19] قدّمت إيران نفسها كقوة مشاركة في مواجهة إرهاب المتطرفين[20] الذين كانت دفعتهم بيدها الأخرى، لاسيما مع إدارة أوباما الذي امتدح إيران بأنها لعبت دوراً حاسماً في الجهود المبكرة لمنع تقدّم داعش[21]، حتى بدا تسليم الموصل وكأنه صفقة أمريكية إيرانية دفعَ المالكي ثمنها بتحميله مسؤولية فشل الجيش العراقي في حماية الموصل[22].
ويُلاحظ أن مناطق انتشار تنظيم داعش ومسرح عملياته تركزت منذ بداية تدخُّل التنظيم في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، وهي مناطق ذات غالبية سنّيّة[23]؛ حيث تغلَّبت الميليشيات الإيرانية وانتشرت، وصار الحرس الثوري الإيراني يُشرف حتى على الأنشطة الإنسانية في الجانب السوري[24]، وتبسط الميليشيات التابعة للحشد الشعبي العراقي وعملاء إيران سيطرتها على الجانب العراقي منها[25].
أدوات إيران في سورية … الأسد وتمكين القاعدة في العراق ولبنان:
على أن هذه المنطقة لم تعرف أول ظهور للغُلاة بعد الثورة السورية عند التدقيق؛ فقد شهدت الحدود السورية العراقية هذه بُعيد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 تسهيل المخابرات السورية دخول “الجهاديين” إلى العراق، بناءً على ما سبق من فكر نظام الأسد في استثمار عناصر القاعدة؛ فكان هدفه التخلص من “الجهاديين” المحليين في حرب خارجية لا يعود معظمهم منها ليؤرّق النظام من جهة، ولزعزعة احتلال العراق خوفاً من أن تكون سوريا الهدف التالي للأمريكيين من جهة أخرى، ثم بدأت خطوط تدفق المخابرات السورية تستقطب “الجهاديين” من ليبيا ودول المغرب والخليج، فجنّدت مخابرات الأسد عملاءها من أمثال “أبي القعقاع” الخطيب الحلبي[26] لتجنيد الآلاف للحرب في العراق[27]، وحسب سجلاتٍ عثر عليها الجيش الأمريكي قرب الحدود العراقية فإن الخدمات اللوجستية كانت موكلة من قبل مخابرات الأسد إلى شبكة دقيقة تضمّ مئة عنصر على الأقل، منتشرين في أرجاء البلاد ولديهم مخابئ ومستودعات أسلحة في دمشق واللاذقية ودير الزور وغيرها[28]، حتى إن حوالي 85 إلى 90 بالمئة من المقاتلين الأجانب في العراق وصلوا البلاد عبر سوريا بتسهيل من المخابرات السورية[29] وبإشراف كبار القادة الأمنيين[30]. وهذه الخدمات الاستثمارية التي قدّمها نظام الأسد لتنظيم القاعدة آنذاك، وساعدتْه في احتوائها لاحقاً واختراقها[31] لم ينكرها قادة القاعدة، بل مَنُّوا على نظام الأسد الاستثمار المشترك بينهما في مناسبة أخرى؛ فقال أبو عمر البغدادي: “يجب أن يدرك البعثيون في سوريا أنه لولا جهاد أبناء الرافدين لكانوا اليوم على أعواد المشانق؛ فلذلك ننصحهم ونحذّرهم أن يقعوا في الفخّ الذي وقع فيه مشرّف[32]، فيضعوا أيديهم مع واشنطن لكبح جماح الجهاد في العراق؛ لأن هذا غير مفيد لهم على كل الأصعدة”[33]. ففضلاً عن اللباقة غير المعهودة من الغُلاة المتطرفين مع أقرب الناس إليهم في هذه النصيحة لنظام الأسد فإن لعبة الأسد تبدو قد انكشفت لهم؛ فبعد أن وصلت المخابرات السورية إلى اتفاق مع الأمريكيين لضبط الحدود أخذَ الأسد يضيّق على حركة “الجهاديين” وعناصر القاعدة عبر الحدود، ويستقبل العائدين منهم في السجون بعد الضغوطات الأمريكية وشكوى العراق للأمم المتحدة رسمياً ضد نظام الأسد لتنسيقه مع القاعدة ودعمها في العمليات الانتحارية داخل العراق[34].
ولحُسن استثمار الأسد مع القاعدة فقد وجّه قسماً من عناصرها العائدين أحياءً من العراق إلى لبنان، فكانت تجربة المخابرات السورية في دعم واختراق تنظيم “فتح الإسلام” و”عصبة الأنصار” لزيادة الصراع الطائفي وتوريط أهل السنّة في لبنان، ثم للتشويش على تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري[35]، وكان الزعيم اللبناني وليد جنبلاط قد حذّر الأسد من تحويل لبنان إلى “عراق ثانٍ” عبر تهريب عناصر القاعدة إلى لبنان بعد العراق واستعمالها للتخريب[36].
وقد سبق في الإصدار الأول بيان الدعم الميداني من قوات الأسد وطائراته لتنظيم داعش في معاركه ضد فصائل قوى الثورة والمعارضة السورية[37]؛ وكشفَ تحقيق صحفي لصحيفة “دير شبيغل” الألمانية: أن تحليل 15 اشتباكاً بين الثوّار وتنظيم داعش ما بين أوائل 2014 وحزيران 2015 بيّن أن القوات الجوية للنظام السوري قد قصفت الثوّار حصراً؛ ووفقاً للصحيفة “يمكن القول: إن داعش اقترضت قوات النظام الجوية؛ وذلك كان الدليل الأوضح على أنهما ربما يساعدان الواحد الآخر”[38].
أداة إيران في لبنان: حزب الله مع القاعدة وداعش.. تدريب وتنسيق قديم جديد:
يعتقد المتابع لوهلةٍ استحالة اجتماع حزب الله اللبناني المعروف بتشيُّعه والمشهور بشعارات “المقاومة” مع تنظيمات الغُلو والتطرف من القاعدة وغيرها؛ ولكنْ في ظل براغماتية الطرفَين[39] قد تجمع بينهما مصالحُ متبادلةٌ وما يرفعونه من شعار “الحرب ضد أمريكا”؛ بغضّ النظر عن مصداقية كلّ طرف منهما في الشعار وتبنِّيه. فالوساطة التي سبق ذكرها لحزب الله بعد سقوط إمارة طالبان في أفغانستان ومشاركة “عماد مغنية” بتهريب قادة القاعدة إلى إيران[40] لم تأتِ من فراغ، ولا يُتصوَّر أن طرفاً يُفترض أنه بعيدٌ عن القاعدة في أيديولوجيته وأهدافه يتدخل للتوسط دون سابق اتصال وعلاقة، وفي الوثيقة ذاتها التي كتبها القائد في تنظيم القاعدة عرضٌ من إيران على عناصر سعوديين من القاعدة للتدرّب في معسكرات حزب الله اللبناني لضرب مصالح أمريكا في السعودية والخليج[41].
ومع استحضار ما سبق إيجازه في الإصدار الأول عن ضلوع حزب الله في تدريب عناصر القاعدة، وإذا تجاوزنا الكلام في العناصر المتهمين بالانتماء إلى حزب الله من القاعدة وداعش[42] لورودها في معرض تراشق الاتهام بين “الإخوة الأعداء”[43]، وتجاوزنا كذلك ما كشفتْه صحيفة هآرتس “الإسرائيلية” عن لقاءات حزب الله والقاعدة في السودان بمشاركة المخابرات السورية[44] كونها من مصدر “إسرائيلي”؛ فإننا عند التفصيل نجد أن مختلف الصحف ومراكز البحث والاستخبارات العالمية قد نشرت ذلك. فالمركز الفرنسي للبحث الاستخباراتي (CF2R) كشف عام 2006 عن أن إيران قرّبت بين القاعدة وحزب الله لقدرتها على التلاعب ببعض عناصر الطرف الأول وسيطرتها على الطرف الثاني، وأن اللقاء بينهما حصل في السودان خلال فترة وجود بن لادن فيها (1992-1996) بحضور القيادي في حزب الله عماد مغنيّة، وتم الترتيب خلال ذلك لتدريب عناصر القاعدة على التعامل مع المتفجرات والعمليات الانتحارية في معسكرات حزب الله في سهل البقاع، مع موافقة بن لادن على تمويل الخدمات المقدَّمة[45]، وهذا ما أكدته صحيفة نيويورك تايمز بعد ذلك بأشهر كما نقلت في اعترافات أحد المقرّبين من قيادة القاعدة[46]، وجاء نحو ذلك في واشنطن بوست عن ضابط سابق منشق عن فيلق القدس[47]، وفي تحقيق لصحيفة ذي أتلانتيك الأمريكية أن الدعوة للتدريب في معسكرات حزب الله في لبنان كانت برعاية فيلق القدس الإيراني[48]، وكذلك مجلة فورين بوليسي[49]، وقد حدّد تقرير اللجنة الوطنية الأمريكية الخاصة بالتحقيق في أحداث 11 أيلول أن اللقاءات في السودان أثمرت سفر “كبار عملاء القاعدة والمدربين إلى إيران لتلقي التدريب على المتفجرات، وفي خريف 1993[50] ذهب وفد آخر إلى سهل البقاع في لبنان لمزيد من التدريب على المتفجرات، وكذلك في مجال الاستخبارات والأمن”، كما أشار التقرير إلى أن عناصر من الخلية التي ضربت السفارة الأمريكية في نيروبي (كينيا) كانوا تدربوا في معسكرات حزب الله في لبنان[51].
وحيث إن حزب الله اللبناني أداةٌ إيرانيةٌ تضرب بها في المنطقة العربية وخارجها فقد رعت إيران كما سبق ترتيب لقائه وتنسيق جهوده مع القاعدة؛ فحزب الله لا يخرج في صفقاته مع أية تنظيمات أو جهات عما تُمليه عليه إيران، ويخدم تنفيذ أجندتها في المناطق التي يسيطر عليها. من ذلك ما شهدته المناطق الحدودية مع لبنان حيث كانت تنتشر عناصر داعش وجبهة النصرة، فتوصل حزب الله لعقد صفقة مع الفصائل التابعة لـ “داعش” للسماح لحوالي 300 عنصر مع أُسَرهم بالانسحاب من الحدود السورية اللبنانية إلى البوكمال في شرق سوريا بموافقة نظام الأسد[52]، وبعد ذلك أنجز صفقة مماثلة مع عناصر “جبهة النصرة”[53].
ولم يغب “حزب الله” عن صفقة نظام الأسد مع “النصرة” التي سُمح فيها لأفراد من أهم قيادات “النصرة” بالانتقال من حوران في الجنوب عبر مناطق النظام إلى الشمال[54]؛ فإن قادة النصرة الكبار – حسب شهادات ميدانية – ركبوا سيارات خاصة لحزب الله تعلوها رايات الحزب من الجنوب ومرّت بمناطق النظام حتى الشمال المحرر[55]؛ فيما بدا استكمالاً لجهود إيران ونظام الأسد في التغيير الديموغرافي وتغيير خارطة المعارك، مع استحضار الإشراف الإيراني المباشر على كافة عمليات التهجير القسري التي تمّت لحشر السوريين من الغالبية السّنّيّة في إدلب وريفها[56].
وقد كشفت اعترافات نائب البغدادي “قرداش” أن ما عُرفت بـ “صفقات الباصات الخُضر” الخاصة بتسويات داعش مع الإيرانيين ونظام الأسد وحزب الله كانت تُدار من البغدادي زعيم داعش والقادة المقربين منه[57]؛ ولذلك لا عجب إنْ خرج المسؤولون الإيرانيون للدفاع عن صفقة حزب الله مع داعش ووصفها بالانتصار![58]
علماً أن صفقات حزب الله مع داعش والنصرة على الحدود اللبنانية السورية لم تكن بسبب ضغط عسكري بين الطرفين، بقدْر ما كانت عن تنسيق واستثمار منهما معاً؛ فقد كشفت “تقارير أمنية[59] أن قيادات في كلٍّ من جبهة النصرة وداعش كانت تتنقّل بحرّية بين لبنان وسوريا، وأنها تنسّق مع شخصيات لبنانية في أمور تتعلق بشؤون النازحين السوريين لاسيما في المخيمات القريبة من الحدود، إضافة إلى تنسيق عالي المستوى في الشقَّين اللوجستي والأمني[60]، بما يزيد التأكيد أن الصفقة لعبة من الطرفين (حزب الله وتنظيمات الغلو والتطرف)[61] لضرب الثورة السورية وتنفيذ الأجندة الإيرانية؛ فوفقاً لشهادة ضابط منشق كان قائداً ميدانياً في جرود القلمون على الحدود السورية اللبنانية[62]: أعدمت داعش عدداً من قادة الجيش الحرّ، وأفشلت عدة عمليات ضد قوات الأسد وحزب الله قبل تسليم قادةٍ من داعش أنفسهم لحزب الله اللبناني، وخروج البقية من داعش والنصرة إلى الشمال في صفقة مع حزب الله ونظام الأسد بإشراف ومباركة إيرانية.
ووفقاً لشهادة أخرى أكدت ما قاله الضابط المنشق، وأفادت: أن ما كانت تستولي عليه تنظيمات الغلو والتطرف في حربها ضد الجيش الحرّ بوصفهم “صحوات”[63] من سيارات ومُصادرات كان يُباع في لبنان بالتنسيق مع قيادات من حزب الله، ومن خلال هذا التنسيق تمت تصفية كثير من العناصر والقادة المحليين في الأراضي السورية واللبنانية ممن يرفضون التعاون مع حزب الله، أو يكشفون العلاقة والتنسيق[64].
على أنَّ في صفقة تنظيمات الغلو والتطرف مع حزب الله وإيران جانباً آخر؛ فإيران بهذه الصفقة تجاوزت نظام الأسد الذي التزم بالتعليمات الإيرانية، فلم تُسجل حالات اعتداء على حافلات الغلاة المتطرفين التي اجتازت مناطق سيطرة الأسد إلى شمال وشرق سوريا، على نحو الاعتداءات التي تعرضت لها قوافل المهجَّرين المدنيين من حلب[65] ومن الغوطة[66].
وعلى الجانب العراقي للحدود التي وصلتْها قوافل داعش تلك في صفقة حزب الله أعلن رئيس الوزراء العراقي في حينها حيدر العبادي رفضه الصفقة، وقال: “إن نقل أعداد كبيرة من داعش إلى المناطق الحدودية مع العراق إهانة للشعب العراقي … القوات العراقية تسعى للقضاء على داعش وليس احتوائه”[67]، وقد جاء الرفض العراقي الرسمي للصفقة بعد كلام لمسؤولين عراقيين عن تنسيق حزب الله اللبناني مع الميليشيات العراقية الموالية لإيران لإدخال عناصر من مسلحي داعش من الأراضي السورية إلى الأراضي العراقية تحت إشراف فيلق القدس الإيراني؛ ما يعزّز المخاوف من إعادة إنعاش لتنظيم داعش في الأراضي السورية والعراقية[68]، على نحو ما حصل في تسهيل تسليم الموصل[69] قبل ذلك بمباركة إيرانية كما سبق. وكذلك فإن حزب الله اللبناني كان حاضراً في الترتيب لإدخال عناصر من داعش قبل ذلك إلى سوريا، بعد اقتراح حسن نصر الله زعيم الحزب ضرورة وجود جماعات تكفيرية في الساحة السورية لحشد الرأي العام لصالح نظام الأسد، وشارك الحزب بالتنسيق مع أمنيين إيرانيين لتسهيل دخول عناصر من تنظيمات الغلو والتطرف إلى سوريا منذ عام 2012؛ كما كشفت وثيقة مسربة من المخابرات السورية[70].
داعش الأغنى مالياً بين أدوات الإرهاب عالمياً …….. وإيران و”أدواتها” السبب والمستفيد:
في التمويل وتكوين الثروة:
إذا كان المالُ عصباً للحياة عامةً فهو لتنظيمات الغلو والتطرّف أكثر من ذلك؛ لأن العمليات الإرهابية تستهلك أكثر، فضلاً عما تستهلكه عمليات استقطاب العناصر إليها وضمان استمرارها في طريق أهدافها. وحيث إن أهدافها غير مشروعة فغالباً ما تُجيز لنفسها طرقاً ملتوية للحصول على المال اللازم لدعم عملياتها، كما في فتوى شرعي داعش “أبو همام تركي البنعلي” بجواز بيع وتهريب النفط للعدو أثناء هدنة[71]، وكما مرّ في فتوى شرعيّ القاعدة المذكورة سابقاً بجواز أموال المخدرات والاستفادة من دعم دول “كافرة” عندهم[72].
وإن كانت صُنّفت داعش على أنها “أغنى منظمة إرهابية في التاريخ” حسب فورين بوليسي وغيرها[73] فالذي يعنينا هنا من هذا صلة إيران وحلفائها بهذا الغنى واستثمارها فيه؛ فقد مضى وباعتراف زعماء القاعدة أن إيران هي الممرّ الرئيس لهم للأموال، وهي بهذا تكون قد حلّت للقاعدة أكبر مشكلة تواجهها التنظيمات -وكذلك الأفراد- في نقل الأموال وتوزيعها[74]، فضلاً عن تمويل إيران ابتداءً للظواهري بمليونَي دولار في التسعينيات، وبعدها تمويلها بعض الأنشطة والعمليات للقاعدة في العراق، والتي تأسست عليها داعش فيما بعد[75].
وقد سبقت كذلك شهادة مستشار أوباما بتسهيل أعوان إيران في العراق لداعش بتحقيق “الطفرة المالية”[76] عبر السيطرة على مئات ملايين الدولارات من بنوك الموصل، وإنعاشها بالسيطرة على رقعة واسعة بين سوريا والعراق بسلاح يُقدّر بمليارات الدولارات في منطقة غنية بحقول النفط والغاز، ليكون النفط بعد ذلك سلاح داعش الاستراتيجي حسب فاينانشيال تايمز[77]، والذي حقق لها أكبر مورد مالي بنحو ثلاثة ملايين دولار يومياً[78]، حتى قُدرت ميزانيتها بما يقرب من مليارَي دولار عام 2014[79].
وفي تقرير الأمم المتحدة بشأن تمويل داعش والنصرة لعام 2015 قدّرت مالية داعش بمبلغ يتراوح بين 50 مليون و300 مليون دولار[80]، وفي أواخر 2019 كشفت نيويورك تايمز أنه ما زال بإمكان داعش الاستفادة من صندوق حرب يصل إلى 400 مليون دولار[81] تم إخفاؤه في العراق وسوريا أو تهريبه إلى الدول المجاورة لحفظه[82].
في الاستثمار والخدمات:
وإن كانت إيران وأدواتها سبباً في بناء ميزانية الغلاة المتطرفين فقد ساعدتها في الاستثمار كذلك؛ فمنذ الأيام الأولى لسيطرة داعش على النفط عقدَ نظام الأسد صفقة لشراء نفط داعش من جميع أنحاء سوريا[83]، وهذا ما أكّده تسريب الاستخبارات التركية لاجتماعٍ رتّبه “علي مملوك”[84] في الحسكة بين ممثلين عن نظام الأسد وأمراء من داعش، وكان مما اتفق عليه الطرفان – مع استمرار داعش في حربها ضد فصائل المعارضة المسلحة – ضمانُ استمرار وصول النفط من الآبار التي تسيطر عليها داعش إلى مناطق النظام[85].
وفي العراق و”بسبب مواقف إيران الداعمة لـ “داعش” – وفق اعترافات قيادي منشق عن التنظيم – فقد سلّمت داعش بعض آبار النفط العراقية لإيران، مع بيعها النفط العراقي بثمن بخس عن طريق تجّار عراقيين وسوريين، بغرض استفادة إيران من هذه الحقول لأنها كانت تحت الحصار، وبدأ النفط العراقي والسوري بالتدفق إلى أوربا على أنه نفط عراقي، وكان يُنقل بصهاريج، وكانت حساباتها في إيران. وهنا استفادت إيران من ناحيتَين؛ الأولى: فكّ الحصار بشكل جزئي والاستفادة من النفط العراقي والنفط السوري، والثانية: دعم التنظيم، كما في اعترافات القيادي الداعشيّ[86].
دون أن يقف الاستثمار مع الغُلاة المتطرفين على النفط، فقد تعدّاه إلى مجال الطاقة الكهربائية؛ إذ “أشارت بيانات البنك الدولي إلى ضرورة أن تكون أنابيب الغاز صالحة في سوريا، لأن أكثر من نصف الطاقة الكهربائية للنظام الأسدي تعتمد على الغاز، وهذه الأنابيب تحت سيطرة داعش؛ ولو أرادت تدميرها لَفعلت”، ولو فعلت فإنها تضرب بشار الأسد في مَقتل، ولكنها لا تفعل ذلك؛ لأن تنظيم داعش معنيّ بتوفير شروط الحياة لنظام الأسد[87]، ولذا تركت للأسد الاستفادة من كهرباء السدود على الحدود السورية العراقية أيضاً[88].
وفي ميدان الاتصالات تركَ نظام الأسد شركتَي الهاتف المحمول الرئيستَين في البلاد تعملان في الرقة بعد سيطرة داعش وفقاً لشهادة رجل أعمال سوري لصحيفة أمريكية، مع إرسال كلا المشغِّلَين مهندسين إلى مناطق سيطرة داعش لإصلاح الأضرار في الأبراج[89].
وفي الوقت الذي كان نقصُ الفنيين المدرَّبين كابوساً لإدارة النفط في مناطق سيطرة داعش آنذاك لأنه سيؤدي إلى خفض الإنتاج وفق ما ذكرته فورين بوليسي[90]؛ فقد تدخّلَ نظام الأسد وحلفاؤه لحلّ هذه المعضلة للشركاء في الاستثمار من داعش عبر فنيين إيرانيين أو روس، مع شركات روسية عاملة في الأراضي التي تسيطر عليها داعش[91].
ولا يخفى أثر توفير تنظيمات الغلو هذه الخدمات في كسب دعم وتأييد السكان والمجتمع المحلي[92]؛ مع استحضار حرص نظام الأسد وحلفائه على تدمير البُنى التحتية وتشديد الحصار على مناطق قوى الثورة والمعارضة ومحاولة تعطيل إنشاء المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني فيها أية مشاريع وخدمات أساسية[93].
ومما حلّه نظام الأسد وحلفاؤه للغُلاة المتطرفين التسهيلات المالية والمصرفية؛ فلا يكتفي نظام الأسد بالسماح للمصارف بالاستمرار في تقديم الخدمات للفروع الواقعة في مناطق تحت سيطرة داعش فحسب، بل يبدو أنه يستخدم هذه الخدمات لتعزيز مصالحه التجارية مع داعش؛ حتى إن أكثر من عشرين مؤسسة مالية سورية كانت لديها أعمال في الأراضي التي تحت سيطرة داعش، كما أن فروع المصارف في أراضي داعش كانت متصلة بمقراتها الرئيسة بدمشق وتنسّق مع بعض السلطات[94].
وكذلك فعلَ أعوان إيران في العراق؛ فقد ذكرت فاينانشيال تايمز أن الحكومة العراقية استمرت بتسليم رواتب 400 ألف موظف عراقي في أراضي داعش؛ ما حقق لداعش من ضرائب الرواتب فقط نحو 23 مليون دولار لعام 2015[95].
فضلاً عن المبالغ المجموعة من الضرائب على الشاحنات التي لم تتوقف بين مناطق الغلاة المتطرفين ومناطق سيطرة أعوان إيران في سوريا والعراق[96]، ومنها الشاحنات التي لم تتوقف بين مناطق الأسد ومناطق سيطرة جبهة النصرة في ريف حماة وإدلب[97]؛ رغم ما في الأمر من أضرار بإغراق المناطق المحررة بالليرة السورية وتأمين العملة الصعبة لنظام الأسد في الأزمة المالية التي يعيشها[98]، ولذا وجدنا “هيئة تحرير الشام” تقاتل بقوة للسيطرة على المعابر، وتصرّ على فتحها مجدداً مع النظام بمعدل تبادل تجاري يتجاوز 10 مليون دولار يومياً[99] من معبر واحد، وكذلك كانت فعلت “النصرة” من قبل في حوران بالتغلّب على حواجز الجيش الحرّ عند نقاط التماس مع النظام وتفعيل التبادل التجاري والبضائع بينهما[100]؛ ليستمرّ الاستثمار مع الغلاة المتطرفين.
ومما جاء في شهادة أبي صفية اليمني الشرعيّ المنشق عن داعش قوله: “لم أرَ ممن وُضع في تلك الزنازين من جيش بشار أو شبيح معلوم للناس أنه كذلك؛ ولكن كل مَن رأيتهم عبارة عن أناس مقاتلين وقادة جبهات أو أناس نصحوا للدولة أو أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.. والمصيبة أنني سمعت من بعضهم أن أبا الأثير (كان أمير داعش في حلب) وغيره يُعين المهربين إلى الجهة الأخرى، أي لجماعة بشار بضاعة وبكميات كبيرة”[101].
وفي الحضور الروسي والإيراني في تنمية موارد تنظيمات الغلو والتطرف تأكيدٌ لمشاركة حلفاء النظام في دعم الإرهاب، وكذلك ففي توافق أدوات إيران في العراق وسوريا على دعم المتطرفين تأكيدٌ آخر على استمرار وكلاء إيران في منهجها بعقد الصفقات الذي درجت عليه منذ صفقاتها الأولى مع القاعدة[102].
بين أحلام إيران وأوهام الغُلاة … يستمرّ التعاون والاستثمار العابر للحدود:
لا تُخفي إيران أحلامها التوسعية خارج حدودها وفقاً لنظرية “أم القرى”[103] التي تتبنّاها وللحُلم الإيراني بإعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ولعل هذه الأحلام العابرة للحدود تلاقت مع أوهام الغلاة المتطرفين العابرة للحدود كذلك بعالمية عملهم “الجهادي”، ما فتح للطرفين فرصة أخرى للاستثمار وتبادل المنافع؛ فتجاوز التعاون بين إيران وتنظيمات الغلو والتطرف حدود العراق وسوريا إلى دول أخرى استفادت إيران من تلك التنظيمات في أعمال تخريبية حققت للطرفين أهدافهم. ومن ذلك:
دعم إيران الغُلاة في دول الخليج العربي خاصة
لا تخفى أطماع إيران في دول الخليج العربي عامة[104]؛ ومنذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 عمدت إيران للتعبئة الإعلامية لشيعة دول الخليج للتمرّد على أوضاعهم، وقدّمت تأييداً معنوياً وإعلامياً لتظاهرات الشيعة فيها، واستضافت إيران حركات معارضة سعودية وبحرينية وعراقية، ونظّمت لهم مؤتمرات سنوية، ووجّهت أجهزة الإعلام إليهم، واستغلت رجال الدين الشيعة في المنطقة[105]، وتعمل باستمرار على تجنيد وتدريب أفراد متطرفين داخل البحرين أعلنوا ولاءهم لإيران لمهاجمة البحرين[106]؛ لذا تتقدم دول الخليج العربي – لاسيما السعودية – أهداف الاستثمار الإيراني مع الغلاة المتطرفين، لأنها وجدت فيهم شركاء في العداء لتلك الدول.
وقد سبق أن أول ما عرضته إيران على السعوديين من عناصر القاعدة الذين دخلوا أراضيها من التدريب والسلاح لضرب أهداف في السعودية حسب الوثيقة[107]، وإن نُفي التعاون في تلك الوثيقة فقد ثبت بشهادات عناصر القاعدة وداعش بعد ذلك بالتدرُّب في إيران لتنفيذ الهجمات، ولعل أول ثمار ذاك التعاون تنفيذ القاعدة هجمات الرياض في أيار 2003[108]؛ فقد أعلن البنتاغون وقتَها عن اعتراضه مكالمات هاتفية جرت بين ناشطين من القاعدة في كل من السعودية وإيران، ثم جاء التبرير الساذج بأن الحكومة الإيرانية غير متورطة لأنها لا تدري عن تلك الأنشطة للقاعدة[109]؛ مع إغفال النظام الأمني فيها الذي يراقب عناصر القاعدة حتى داخل مساكنهم كما سبق[110].
وتعزز ذلك في اعترافات عنصر من القاعدة كشف عن علاقة الاستخبارات الإيرانية بالحوثيين وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وإبداء استعدادها لمدّهم بالمال والأسلحة اللازمة لتنفيذ العمليات الإرهابية، وأنه كان يسافر إلى إيران للتنسيق مع قيادة القاعدة لإدارة عملياتها في السعودية وغيرها[111].
وفي تموز 2016 كشف الدبلوماسي الإيراني المعارض “فرزاد فرهنكيان”[112] عن اجتماع قادة الاستخبارات والحرس الثوري في إيران مع قيادات من داعش والقاعدة في أصفهان لإحداث تفجيرات في السعودية، تقوم بها الخلايا النائمة والمنتمون والمتعاطفون مع الغلاة المتطرفين[113].
هذا؛ فضلاً عما كانت تضبطه البحرين والسعودية من عمليات تهريب كبسولات التفجير والذخائر؛ يكون فيها الناقل أو المهرّب من الشيعة المرتبطين بميليشيات إيران في العراق، ومنفّذ التفجير من السنّة المرتبطين بداعش أو القاعدة[114]؛ في مفارقةٍ لا تستقيم إلا مع استحضار استثمار إيران في تنظيمات الغلو والتطرف بما يخدم أهدافها.
في اليمن والقرن الإفريقي:
وفي زاوية الجزيرة العربية بقي “اليمن” ملاذاً مهماً لتنظيم القاعدة ومنطلقاً لعمليات كبيرة له منذ بدايات التنظيم[115]، ومع اضطراب الوضع الأمني ووقوع أكثر اليمن في قبضة الحوثيين تنامت قوة تنظيمات الغلوّ والتطرف من القاعدة ثم داعش[116]، مستفيدةً من ظروف الحرب في بناء ميزانية مالية ضخمة من موارد التهريب والسطو على البنوك وتحرير سجنائها رغم سيطرة الحوثيين النسبية[117]، في سيناريوهات شبيهة بما فعلته داعش في الموصل. دون أن تغيب إيران عن المشهد؛ فالحوثيون أداتها في اليمن، وقد سبق ذكر اختطاف القاعدة دبلوماسياً إيرانياً في اليمن ثم الإفراج عنه برعاية الحوثيين مقابل الإفراج عن قادة من القاعدة في إيران.
وقد توقفت بعض الصحف والمراكز العالمية عند براغماتية الحوثيين – أداة إيران في اليمن – مع تنظيمات الغلوّ في عمليات تبادل الأسرى بين الطرفَين، في مقابل إفشال الحوثيين صفقات التبادل مع الجهات الحكومية اليمنية المحلية المدعومة من السعودية وغيرها[118]؛ في إشارة لا تخفى إلى ضلوع إيران وحسن استثمارها مع الغلاة عن ذلك. في الوقت نفسه الذي أثبت تقرير الأمم المتحدة الصادر في كانون الثاني / يناير 2020 أن ميليشيات الحوثي قدّمت لتنظيم داعش في اليمن “المساعدة التكتيكية، وتعاونوا معه وبادلوا الأسرى، وسلّموا إليه المعسكرات تحت إشراف الحوثي”[119]، وفي تقرير لمركز السياسة العالمية (CGP)تأكيد أن ما يحدث من صراع بين الحوثيين وتنظيم داعش في اليمن أقرب ما يكون للتمثيل وتجميل صوريّ للطرفَين لتحقيق مكتسبات لهما؛ لكنّ الطرف الحوثي – الإيراني يبقى الرابح الأكبر في “تقديمه نفسه للمجتمع الدولي كطرف مظلوم وحليف محتمل في محاربة داعش”[120]، كما ذكر التقرير[121]. لذا كانت تفجيرات في اليمن ضد أهداف عربية[122] وغربية تتداخل فيها بصمات تنظيمات الغلوّ مع الحوثيين وإيران التي يهمّها إبقاء اليمن مضطرباً ومنطلقاً لتخريب أمن السعودية ودول الخليج[123]، حتى تحدثت صحف غربية عن رسالة منسوبة إلى الظواهري يشكر فيها إيران لتسهيلاتها المقدمة للقاعدة في استهدافها السفارة الأمريكية عام 2008[124]؛ ولم تستبعد مواقع يمنية محلية ذلك ودعمتْه بوقائع عدة[125]. دون أن يغيب عنا ما جاء في اعترافات القيادي في تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية “محمد العوفي”؛ إذ أكّد علاقة الاستخبارات الإيرانية بالقاعدة عن طريق الحوثيين في اليمن ووعودها لهم بالمال والسلاح لتنفيذ بعض العمليات[126]، على نحوٍ يذكرنا بما فعلتْه إيران مع القاعدة في العراق.
وعلى الجانب الآخر لخليج عدن تنشط في الصومال وحولها حركة الشباب التي انضمت رسمياً إلى تنظيم القاعدة عام 2008[127]، ومع حظر توريد الأسلحة إلى الحوثيين في اليمن واجتهاد إيران في دعمها لم تفوّت إيران فرصة الاستثمار مع حركة الشباب الصومالية لمساعدتها في ذلك؛ فقد كشفت الحكومة الصومالية عن علاقة فيلق القدس الإيراني بحركة الشباب لنقل الأسلحة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، وكذلك نقل الأموال والأسلحة للدول الإفريقية التي تنشط فيها إيران، كما تستثمر إيران مع القاعدة في الصومال لتهريب النفط الإيراني عبر الصومال وبيعه في دول إفريقيا تهرباً من الحظر المفروض عليها[128]، في مقابل استفادة القاعدة في الصومال من الموانئ الإيرانية لتصدير الفحم الذي يدرّ ملايين الدولارات سنوياً على حركة الشباب، كما كشف تقرير للأمم المتحدة[129]. مع امتداد استثمار مع الغلاة في منطقة القرن الإفريقي بالدعم بالمال والسلاح بحجة ضرب الأهداف الأمريكية[130]؛ لكنّ هدف إيران الحقيقي – كما كشفت فورين بوليسي[131] – استمرار زعزعة الاستقرار في المنطقة وتمكين مشروعها للتغلغل الديني والثقافي والاقتصادي في إفريقيا[132]. ومع استثمار إيران في تنظيمات الغلوّ بأفريقيا نجد أداتها حزب الله اللبناني حاضراً بقوة في مجمل أنشطة إيران العسكرية والاقتصادية والدينية في عموم الدول الإفريقية[133]؛ ما يذكّر بحضور حزب الله مع فيلق القدس في اللقاءات الأولى التي جمعت إيران والقاعدة في السودان كما سبق[134].
دعم إيران الغُلاة في دول شتى لزعزعة الاستقرار وكسر خصومها
وعلى نحو ما تجاوزت إيران في استثمارها مع تنظيمات الغلوّ والتطرف دول الخليج العربي القريبة منها جغرافياً، فامتدّ التعاون بين طرفَي الإرهاب إلى اليمن ودول القرن الإفريقي؛ فقد عُثر على بصمات إيران في عمليات الجماعات المتطرفة في الجزائر التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران عام 1993 بسبب تأكّد الحكومة الجزائرية من دعم إيران للغُلاة بالمال والتدريب[135]، وذلك بعد تضييق الحكومة نشاط إيران لنشر التشيّع في الجزائر[136]؛ فاختارت إيران الرد على تضييق التشييع باللجوء إلى دعم الغُلاة المتطرفين لتخريب البلد[137]، وقد لبّوا الدعوة الإيرانية وتلقّى عددٌ منهم الدعم والتدريب في معسكرات حزب الله ذاتها في لبنان عبر سوريا[138]؛ ما يثبت علاقة أدوات إيران في سوريا ولبنان في خدمة أهدافها واستثمارها مع المتطرفين في الجزائر أيضاً.
وعلى ذلك النحو حاولت إيران دعم التنظيمات الراديكالية في باقي بلدان المغرب العربي، ما اضطر بعضها لقطع العلاقات مع إيران لسنوات[139].
وفي مصر ساعدت إيران في تدريب عناصر من “تنظيم الجهاد” المصري على محاولة انقلاب عسكري في مصر للإطاحة بحكم حسني مبارك، وأجرت لقاءات سرّية مع قائد التنظيم حينها أيمن الظواهري في بداية التسعينيات[140]؛ وافتتحت خط التواصل مع الظواهري والقاعدة بعد تلك اللقاءات. لِتجدّد إيران دعمها للغلاة المتطرفين في مصر بدعم داعش في سيناء بالأسلحة التي وُجدت مع عناصر داعش هناك[141].
حتى جارة إيران دولة أفغانستان شكَتْ من دعم إيران لداعش فيها حسب الصحف الأفغانية والقادة المحليين[142]، في تأكيد لمساعي إيران القديمة على عدم قيام دولّة سنّيّة مستقرة على حدودها[143].
مع ما سبق في فتوى شرعيّ القاعدة عن الجهات المدعومة علناً من إيران وتعرض على خلايا الغلاة والمتطرفين العمل معها مقابل دعمها؛ وقد أجازهم شرعيّوهم بذلك وإن كان الدعم من إيران مباشرة[144].
فالإرهاب هو أداة المشروع الإيراني التوسعي، ومِن شركائها فيه الغُلاةُ المتطرفون في دول شتى؛ وإنما تدعمهم لإظهار قوتها وتوسيع نفوذها من خلالهم، ولزعزعة الاستقرار وتقويض المنافسين الإقليميين خاصة[145].
“لسنا جامدين” …. الغُلاة والدوران مع المصالح في خدمة المشروع الإيراني: الخاتمة والتوصيات
الخاتمة:
لعل ما تم استعراضه يدفع ما تدّعيه إيران من “محاربة الإرهاب”؛ فهي شريك مهم للغلاة المتطرفين في الإرهاب العابر للحدود، فضلاً عن إنشائها ورعايتها إرهابَ أدواتها ومليشياتها؛ وإنما هي البراغماتية[146] التي تُعد أساس تحرُّك إيران في سياستها الخارجية[147]، لذا تعتمد في تحقيق أهدافها على أدوات اصطنعتها ودعمتها لعقود، وعلى تحالفات ابتنتْها وإن كان مع أعدائها المفترضين.
وإن كان ذلك لا يبعد عن إيران “الوليّ الفقيه” وفي عقيدة زعمائها مبدأ “التقيّة”[148] فالذي يُتوقف عنده موقف الغلاة المتطرفين الذي لم يكونوا أقل من إيران براغماتيةً ومصلحيةً[149]، حتى كانت تنظيمات الغلاة المتطرفين أرضاً خصبةً للاستثمار الإيراني -العدوّ العَقَديّ المفترض- لعقودٍ من الزمن وعلى امتداد الخريطة العالمية؛ مع أن مما جاء في كلام زعيم القاعدة ومؤسسها أسامة بن لادن قوله: “لسنا جامدين؛ سندور حيث تدور العقيدة”[150]!
ويبدو أن تلك العلاقة بين إيران وتنظيمات الغلوّ مستمرة، وكما وصفته لوموند الفرنسية بأنه “زواج مصلحة” وقالت: “إذا كان زواج المتعة (أو المصلحة) بين طهران والجهاديين ينقطع في بعض الأحيان فإن طلاقهما لم يظهر بعدُ في الأفق”[151].
وإن كانت دراستنا هذه قد أُوقفت على بيان استثمار إيران في تنظيمات الغلو فهذا لا ينفي استثمار غيرها في تلك التنظيمات، كما سبقت الإشارة في الإصدار الأول إلى تزاحم الدول بأجهزتها الأمنية والعسكرية على اختراق الغلاة وتوظيفهم[152].
وفي ضوء هذا الاستثمار الذي يبدو حقاً أنه لم ينتهِ بعدُ بين طهران والغلاة المتطرفين، وبعد ما مرّ تخلص الورقة إلى جملة توصيات، هي الآتية:
- كثير من تاريخ تنظيمات الغلو والتطرف مكتومٌ لم يُنشر؛ وهذا ما تسبب بقصورٍ في قراءة تجاربهم وعلاقاتهم لمعرفة الطريق الصحيحة للتعامل معهم، فحدثت بسبب ذلك مذابح كبرى في العراق وسوريا وغيرهما في صفوف الثوّار الحقيقيين؛ فتجب دراسة تلك التنظيمات دراسة شاملة تكشف علاقاتها وطرق تفكيرها وعملها.
- في دعم إيران لتنظيمات الغُلاة المتطرفين المنتسبة للسنّة هدفٌ لترويج الإرهاب على أنه إسلاميّ سنّيّ، وهذا يخدم مشروع إيران الطائفي للتغلغل الثقافي؛ لاسيما في المجتمعات غير المحصَّنة دينياً وفكرياً، فلا يخرج دعم إيران للمتطرفين عن مشروعها التوسعي؛ وهذا يُوجب محاربة مشروع إيران عامةً بكل وسائله وأدواته.
- سمحت الإدارة الأمريكية لإيران بتقوية ميليشياتها الطائفية بحجة محاربة داعش؛ وهذا خطأ فادح وفق تعبير فورين بوليسي[153]. فيجب التنبه وتصحيح هذا الخطأ الذي ساعد في تنمية الإرهاب وليس في محاربته؛ إذ سيؤدي تزايد قوة الميليشيات إلى إضعاف بنية الدولة لاحقاً وزعزعة شرعيتها[154].
- وأخطأت الإدارة الأمريكية في تقوية الميليشيات الكردية الانفصالية لمحاربة داعش، فاستفاد منها الانفصاليون الأكراد في قضم أراضٍ جديدة لتعزيز مشروعهم الانفصالي وضرب دول الجوار[155]؛ فيمكن للمعارضة السورية في أمريكا خاصة العمل للضغط على الإدارة الأمريكية والتنبيه على خطورة هذا المسلك، وإمكانية استعداء الغالبية السنّيّة وهي القوة الأكبر في محاربة المتطرفين.
- أثبت التحالف الدولي فشله في كسر التنظيمات المتطرفة تماماً وإن كان يُضعفها، ولكن تلك التنظيمات مع الدعم من إيران وأدواتها زادت شوكتها وانتعشت غير مرة، ولا يمكن مواجهتها إلا بأيدي الثوّار الوطنيين؛ فيلزم العمل على تحفيز الدول لعودة دعمها للجيش الوطني التابع للحكومة السورية المؤقتة، حتى لا تخلو الساحة للتنظيمات المتطرفة بالتمويل العالي الذي تملكه.
- لا يُفسّر كشف الاستثمار الإيراني في التنظيمات المتطرفة كامل جوانب هذه التنظيمات ولا يكفي لإسقاطها، فلها جوانب عديدة عملت عليها مع الحواضن الشعبية اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً وإعلامياً[156]؛ فهذه جوانب يلزم متابعة الغلاة المتطرفين فيها لمحاربتهم والتخفيف من مخاطرهم لتحقيق نصر استراتيجي، لا نصر تكتيكي قد ترجع بعده وبأشد مما كانت قبله[157].
- أي مسعى ناجح لتدمير الغُلاة المتطرفين لابد أن يشتمل على تنسيق سياسي تشعر فيه المجتمعات السنّيّة بأن لها مستقبلاً في كل من سوريا والعراق؛ فالغلاة المتطرفون قد يستمدون القَبول -على مضض- من السنّة المضطهدين في كلا البلدَين[158].
- شملَ التنسيق بين إيران والغلاة أكثر من دولة؛ واستثمرت إيران تنظيمات التطرف لضرب مراكز الثقل العربي السنّي في الشام والعراق والخليج والمغرب، وتركَ إرهابُ الغلاة المتعاونين مع إيران الغالبية السنّيّة في موقع المتّهم، مما كان يدفع كثيرين منهم للانجرار في المشروع الإيراني للبراءة من تهمة “الإرهاب السّنّيّ”؛ ما يوجب جهوداً مشتركةً لمواجهة الغُلاة والمتطرفين وأعوان المشروع الإيراني.
- شاركت روسيا أكثر من مرة في مساعدة إيران وأدواتها بدعم الغلاة المتطرفين[159]؛ ما يؤكد اشتراكها في دعم الإرهاب، ولا يمكن أن تكون جزءاً من “الحرب على الإرهاب”؛ وعلى المعارضة السورية استثمار ما يثبت ذلك سياسياً للضغط على روسيا.
- في ثبوت تورُّط نظام الأسد وحلفائه بضرب الموالين له عبر المتطرفين ما يجب فضحه في صفوف الموالين للنظام؛ لتثبيت تلاعب إيران وأدواتها بهم وتقديمهم قرابين للإرهاب لتحصيل مكاسب سياسية، وفضح إجرام النظام وشراكته مع الإرهابيين الحقيقيين الذي عمل مع حلفائه على تسمينهم ولم يقاتلهم، بل استفاد الطرفان من بعضهما لضرب الثورة.
- يستمر الغلاة في سوريا في دعوى المراجعة والتصحيح بتغيير التموضع المصلحي النفعي؛ دون التبرُّؤ من تاريخهم، ولم تحصل مراجعات فكرية صحيحة يثبت فيها تراجعهم عن أفكار الغلاة وضوابطهم في العمل والتنسيق مع إيران وغيرها، فلا يبعد التعاون بينهم من جديد إن فرضت الظروف ذلك.
- وكذلك فإن الخلافات والانشقاقات بين جماعات الغلو والتطرف قديمة متجددة، وصلت في كثير من البلدان على امتداد عقود من عملها إلى الصدام والتعذيب والقتل فيما بينها[160]؛ لكنّ البراغماتية العالية التي اصطبغت بها هذه التنظيمات كانت تحملها على التقارب والذوبان في بعض ولو بعد دماء بينها، وعلى التقارب مع إيران وغيرها وفق قواعد المصلحة البراغماتية بعيداً عن أية ثوابت أو مبادئ، على حساب المخالفين لأهدافها من منافسيها المحليين؛ ما يوجب الحذر وعدم الانخداع بهم.
- لا تبرر براغماتية تنظيمات الغلو كامل صلتها بإيران، بل ابتدأت العلاقة بين الطرفين نتيجة إعجابٍ من الظواهري وغيره بالثورة الإيرانية ونظامها؛ ولعل هذا ما يفسّر تسارع خطوات التقارب ثم تحالف المصالح وعدم الاعتداء بين الطرفَين.
- أبدَتْ تنظيمات الغلو براغماتية عالية جمعتْها مع إيران وأدواتها؛ لكنّها كانت ترفض أية توافقات أو مقاربات مع التشكيلات السنّيّة المفترض أنها الأقرب إليها، فكان الغلاة مِعول هدمٍ وتفرقةٍ حيث حلّوا في ساحات التحرر والتغيير الشعبية.
- تسامحت إيران وأدواتها مع الغلاة وساعدت في تأمينهم، مقابل مساعدتها في تدمير مناطق المعارضة وتفريغها وتهجير أهلها، مع أن إيران لم تكن تسمح لأدواتها بأية تنازلات مع الفصائل الوطنية مهما بلغت مأساة المدنيين الإنسانية، وكذلك كانت تنظيمات الغلو تعيق التوصل لأي هدنة أو اتفاق يخفّف عن الناس متهمةً من يطلب ذلك بالخيانة والانبطاح للعدوّ، مع أنها ذاتها عقدت عدة اتفاقات وهدن خاصة بها؛ بما يؤكد تعاون الطرفَين في ضرب الأمن الديموغرافي للمجتمعات المحلية، لتحقيق أهداف ضيقة تتقاطع بينهما.
- أقامت تنظيمات الغلوّ نفسها مقام الدول وإن كانت بالأوهام[161]؛ فأجرت من العلاقات والأنظمة ما يكون لدولة حقيقية قائمة بمؤسسات وقيادة شرعية. علماً أن الاختلافات كبيرة بين ما يكون من تعامل وعلاقات بين الدول، وما يكون من علاقات وتحالفات بين فواعل ما دون الدول (تنظيمات الغلو والتطرف مثلاً) مع الدول (إيران مثلاً) من جهة، وما يكون من تلك العلاقات والتحالفات لمصلحة الدولة والشعب وما يكون لأهداف الفواعل ما دون الدول وتحقق الدول منه عوائد أكبر تضرّ بمجتمعات تلك الفواعل من جهة أخرى[162].
- قد تبدو داعش أكثر تطرفاً من أخوات القاعدة الأخريات في سوريا؛ لكن هذا لا يغيّر أن “أخوتها الأعداء” استفادوا من هذا لتقديم أنفسهم كنسخة مقبولة أمام الناس تحضيراً للعبة أطول[163]، وإن كانت بدأت تتكشف حقيقة تنظيمات الغلو الأخرى فلم يصل بعدُ حدّ مواجهة الغلاة بشكل شعبي شامل؛ وهذا يزيد من مسؤولية القيادات المجتمعية والمفكرين والباحثين لكسر مشروع المتطرفين عامة.
- لا تقبل البيئة الشامية في سوريا التنظيمات المتطرفة؛ فيجب تدعيم الجهات الدينية المعتدلة، والتوسع في نشر خطابها الديني على أوسع نطاق للحد من خطاب الغلو. لاسيما و”محاربة التطرف ستستمر لأجيال”[164]، فلابد من التحصين الديني والفكري بشكل جيد [165].
- في صفوف تلك التنظيمات عناصر كثيرون مغرَّر بهم، وآخرون انضموا إليها تحت مطامع شخصية؛ فعلى المعارضة السورية العمل على استقطاب المخدوعين من أفراد التنظيمات المتطرفة، مع الحذر الشديد من دعاوى الانشقاق التي أراقت دماء كثيرة، والاستفادة من بعض التجارب في إعادة تأهيل المخدوعين بفكر الغلو ودعاوى المتطرفين؛ دون التعجّل في تصديرهم وتقديمهم.
- أكثر الأجواء مناسبةً لنشاط الغلاة المتطرفين هي أجواء الاضطراب السياسي والأمني، وقد نشطوا ابتداءً في العراق بحجة محاربة الغزو الأمريكي؛ فتمكّنت إيران من السيطرة على العراق، وامتدوا إلى سوريا بحجة تأييد الثورة؛ فكانوا خنجراً مسموماً في خاصرتها. فيجب التأكيد للمجتمع الدولي الذي يُظهر الاهتمام بمحاربة الإرهاب أن المفتاح هو في تسريع الحلّ السياسي القائم على الخلاص من رموز الإرهاب جميعاً، في نظام الأسد والمتعاونين معه من المتطرفين لتحقيق بيئة مستقرة لا تقبل التطرّف والغلو.
- عانَى فريق العمل خلال إعداد الدراسة في جمع المعلومات من المناطق التي تغوّلت فيها التنظيمات المتطرفة، ولم نقف على دراسات جادة توثّق ما حدث فيها، ولم يتعاون معنا في كشف ذلك إلا القليل من القادة الميدانيين والشرعيين[166]؛ وهذا تفريطٌ من أبناء الثورة بالتضحيات التي بُذلت في مواجهة الغلاة، وتضييعٌ لجهود دامت سنوات في طريق الثورة؛ فيجب استنفار الجهود لتوثيق أحداث الثورة -لاسيما المواجهة مع الغلاة الذين أفسدوها- وفق خطة محكمة، لتقديمها كوثائق وشهادات تكون معتمدة في مراكز البحث والقرار عربياً ودولياً.
لتحميل الورقة:
الورقة البحثية ” إيران والتنظيمات المتطرفة …. علاقات وتوافقات في مناطق الصراع “
لتحميل الإصدار السابق:
الورقة البحثية “استثمار إيران في جماعات الغلوّ والتطرّف”
لمشاركة الصفحة: https://sydialogue.org/fmce
- Yemen: ‘Major Staging Base’ for Al Qaeda, Bruce Riedel, The Brookings Institution, January 5, 2010: https://cutt.us/ySaqQ
- AQAP in South Yemen: Past and Present, by Summer Ahmed, the Washington Institute for Near East Policy, Aug 30, 2019: https://cutt.us/1H1nI
- Islamic State in Yemen – A Rival to al-Qaeda? (PfPC), by Clausen, Maria-Louise, Disunity in Global Jihad. WINTER 2017: https://cutt.us/sHKpL
- The Failing Islamic State Within The Failed State of Yemen, Elisabeth Kendall, Perspectives on Terrorism Vol. 13, No. 1 February 2019: https://cutt.us/v7i13
- Insight – In Yemen chaos, Islamic State grows to rival al Qaeda, Reuters, JUNE 30, 2015: https://cutt.us/FrKrR
- Hezbollah allegedly training Nigerian Shiites to expand influence in West Africa, Middle East Institute, July 5, 2018: https://cutt.us/aSguX
- HOW HEZBOLLAH IS WINNING IN WEST AFRICA, By Michael Keating, WORLD POLICY INSTITUTE, SEPTEMBER 30, 2013: https://cutt.us/WC2bH
- As Iran Looks to Hit US Interests, it May Turn to Africa, By Salem Solomon, January 04, 2020: https://cutt.us/mPj46
- From Beirut to Bangui: inside Iran’s plan to take proxy wars to Africa, Albin Szakola and Jack Losh, May 20, 2020: https://cutt.us/dxVgj
3 تعليقات