تسييس نظام الأسد حادثة الزلزال؛ مكاسب سياسية اقتصادية قد تكسر عزلته
تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري
ملخص:
- سعت الماكينة الإعلامية التابعة لنظام الأسد إلى إطلاق حملات مكثفة روّجت أن العقوبات الغربية المفروضة على سوريا كانت السبب وراء عدم وصول المساعدات، وأنها شكّلت عوائق في مواجهة تداعيات الزلزال؛ حتى تمكّنت تلك الحملات من الضغط على الولايات المتحدة فقامت بإعفاء سوريا من العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر” لمدة ستة أشهر لجميع المعاملات المتعلقة بالاستجابة للزلزال.
- ادّعى نظام الأسد أنه مستعدّ للمساعدة وتنسيق توصيل المساعدات إلى جميع السوريين في أراضي سوريا كافة؛ إلا أن نمط الاستجابة الإنسانية التي قادها في مناطقه وتجلّت بسرقة المساعدات وبيعها وابتزاز القائمين عليها، ووضع العراقيل اللوجستية أمام دخولها إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية التي كانت الأكثر تضرراً؛ يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن نظام الأسد يستثمر مجدداً في الكارثة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية، وأن آخر همّه التحرُّك لمساعدة ودعم الشعب السوري.
- أكّد تعديل الخزانة الأمريكية أن قرار تجميد العقوبات لم يشمل السماح بالتعامل المالي مع أية جهة تتبع لحكومة نظام الأسد، ولا التعامل مع الأشخاص المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يزال حظر استيراد النفط السوري مفروضاً؛ وهو ما يعطي نظام الأسد فرصة مؤقتة لتحقيق بعض المكاسب السياسية والاقتصادية.
- تأخّرت الأمم المتحدة في إرسال المساعدات من معابر جديدة إلى سوريا بحجة ضرورة موافقة نظام الأسد بزعم عدم انتهاك مبدأ “السيادة”؛ مع أن خبراء في القانون وقضاة سابقين في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية أرسلوا رسالة توضّح أن استمرار مرور المساعدات عبر الحدود إلى سوريا قانونيّ دون تفويض من مجلس الأمن.
- ركّزت سياسات نظام الأسد في التعاطي مع كارثة الزلزال على تعويم نفسه على الساحة العربية والدولية وتسويق نفسه أمام حاضنته؛ وهو ما يظهر في تكثيف الإعلام الرسمي التابع له نشرَ أخبار عن تفاعل دولي وسياسي معه، وعن التسابق لتقديم المساعدات والدعم المطلوب. وتظهر عدد من الدول العربية كانت ترعى مسار التطبيع المتعثر مع نظام الأسد في قائمة المسارعين إلى عمليات التطبيع وتوظيف الظرف الإنساني لرفع وتيرة التواصل والتمثيل، معتبرةً تجميد العمل بقانون العقوبات بمثابة ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية للمضي قدماً في هذه الجهود.
- تبدو السياسات الأوروبية والأمريكية أكثر تحفظاً في المضي قدماً بأي شكل من العلاقات السياسية، مع تحذيرات واسعة من مغبة استثمار الأسد كارثة الزلزال من أجل تلميع نفسه والعودة إلى الساحة؛ لاسيما وأن الظروف السياسية قد تجعل إعادة تعويم الأسد وإبقاءه عملية أسهل وأقل كلفة وأكثر تبريراً للجميع.
- تتحمل المعارضة السورية مسؤولية إنشاء حراك سياسي موازٍ يمنع نظام الأسد من الاستفادة والاستئثار بالمشهد، ويعيد التذكير بجرائمه السابقة والحالية، وينقل للعالم الانتهاكات المستمرة التي يقوم بها، ويحرّك ملفات حقوقية وقانونية على الساحة العربية والدولية تُحرج الدول المهرولة للتطبيع وتؤكد أن سياسات هذا النظام لم ولن تتغير، وأن جرائمه لا تسقط بالتقادم أو بحدوث ظروف استثنائية.
مقدمة:
منذ اليوم الأول للزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وامتد إلى سوريا سعى نظام الأسد إلى استثمار الحدث من أجل رفع العقوبات الغربية عنه، عبر محاولات نشر معلومات مغلوطة مفادها أن تلك العقوبات تقف حائلاً أمام وصول المساعدات إلى المتضررين من الزلزال في مناطق سيطرته.
يناقش هذا التقرير محاولات نظام الأسد كسر العزلة الغربية عنه عبر محاولة توظيف حادثة الزلزال سياسياً، كما يعرض بعض المكاسب السياسية والاقتصادية التي حصل عليها وردود الأفعال الأمريكية والأوروبية والأممية، وصولاً إلى واقع المساعدات التي وصلت مناطق سيطرة نظام الأسد وممارساته التي أسهمت في زيادة مستوى الكارثة في سوريا.
رواية نظام الأسد وإعلامه حول منع وصول المساعدات؛ مغالطات وتناقضات فجّة:
إثر الزلزال انطلقت حملات افتراضية منظَّمة من قبل الموالين لنظام الأسد على مواقع التواصل الاجتماعي باللغتَين العربية والإنكليزية تطالب المجتمع الدولي برفع العقوبات عن سوريا، كما سعت الماكينة الإعلامية التابعة لنظام الأسد إلى ترويج أن العقوبات الغربية المفروضة على نظام الأسد هي السبب وراء عدم وصول المساعدات وأنها تشكّل عوائق في مواجهة تداعيات الزلزال[1]، في مشهدٍ يتناقض مع ما كانت تنشره وسائل الإعلام تلك بشكل شبه يومي منذ وقوع الزلزال؛ فقد قُدّر حجم المساعدات الخارجية التي حطّت في المطارات الواقعة ضمن مناطق سيطرة الأسد من دول مختلفة، مثل: إيران والعراق وتونس والجزائر وروسيا وعُمان والهند والصين وليبيا والأردن وأرمينيا والإمارات ومصر وفنزويلا وباكستان وغيرها من الدول بحمولات طائرات وصلت إلى 150 حسب المصادر الرسمية لدى نظام الأسد[2]؛ وهو ما يُفنّد تماماً رواية نظام الأسد عن وجود عراقيل تحول دون وصول المساعدات إلى مناطق سيطرته، ويؤكد بالضرورة أنه يستغل كارثة الزلزال لتحقيق غايات سياسية في ظل تدهور الوضع الاقتصادي الكبير في مناطق سيطرته وسط ضغوط جديدة من الولايات المتحدة لتضييق الخناق عليه، خصوصاً بعد إصدارها قانون مكافحة الكبتاغون قبل أشهر[3].
سعى نظام الأسد إلى ترويج أن العقوبات هي السبب وراء عدم وصول المساعدات، وأنها تشكّل عوائق في مواجهة تداعيات الزلزال؛ في مشهدٍ يتناقض مع ما كانت تنشره وسائل إعلامه بشكل شبه يومي منذ وقوع الزلزال لطائرات مساعدات خارجية تحطّ في المطارات |
ورغم أن نظام الأسد لم يقدم الاستجابة المطلوبة للمتضررين في مناطق سيطرته فقد صرّح سفير نظام الأسد لدى الأمم المتحدة “بسام صباغ” أن النظام يجب أن يكون مسؤولاً عن توصيل جميع المساعدات إلى داخل سوريا، بما في ذلك المناطق التي لا تقع تحت سيطرته، زاعماً أن النظام مستعد لـ “المساعدة وتنسيق توصيل المساعدات إلى جميع السوريين في كافة أراضي سوريا”[4].
زعم النظام استعداده لتوصيل المساعدات إلى شمال غرب سوريا من مناطقه، وهذا ما يُعيد إلى الأذهان محاولات سابقة له ولروسيا في إغلاق معبر باب الهوى الحدودي أمام دخول المساعدات بحجة إمكانية إدخالها عبر خطوط التماس |
وتُعيد هذه الخطوة إلى الأذهان محاولات سابقة لنظام الأسد وروسيا في إغلاق معبر باب الهوى الحدودي أمام دخول المساعدات الإنسانية بحجة إمكانية إدخالها عبر الخطوط؛ أي: عبر مناطق سيطرة نظام الأسد[5]، بما يُسهّل عليه التحكم بتلك المساعدات وسرقتها على الحواجز العسكرية، على غرار ما كان يحصل مع المساعدات التي كانت تحاول الأمم المتحدة إدخالها إلى المناطق المحاصرة الخاضعة لسيطرة المعارضة، مثل الزبداني ومضايا والغوطة وشرق حلب وغيرها من المناطق التي مارس فيها نظام الأسد آنذاك سياسة تجويع قاسية بسبب سيطرته على المساعدات ومنع دخولها واستخدامها سلاحاً[6].
ويبدو أن السياسة التي انتهجها نظام الأسد طول السنوات الماضية إزاء سرقة المساعدات الإنسانية كانت السبب وراء تصلُّب الموقف الأمريكي والأوروبي عموماً تجاه رفض التعامل معه بشكل مباشر فيما يخصُّ توصيل المساعدات للمتضررين من الزلزال، لاسيما وأن هناك الكثير من التقارير الأجنبية التي توثّق سرقة نظام الأسد للمساعدات بشكل ممنهج ومدروس؛ إذ تؤكد إحدى الدراسات أن النظام يحصل على 51% من كل دولار يدخل إلى سوريا كمساعدات دولية، وهذه المبالغ يتم استعمالها في دعم اقتصاد الحرب وتعزيز القبضة الأمنية من جديد[7].
ومن جهته أكد “أندرو ميتشل” وزير التنمية الدولية البريطاني المعني ببرامج المساعدات أن المملكة المتحدة ستدعم مجدداً منظمة الدفاع المدني المعروفة بالخوذ البيضاء التي تنشط في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، مثلما فعلت على مدى سنوات عديدة في المنطقة، كما أعلنت الحكومة البريطانية تقديم تمويل إضافي لمنظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” لمواجهة آثار الزلزال بقيمة 963 ألف دولار[8]، وكذلك أكدت الخارجية الفرنسية أن نهج باريس إزاء نظام الأسد لن يتغير بعد الزلزال[9].
أمريكياً استبعد “نيد برايس” المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية توصيل المساعدات عبر نظام الأسد، وقال: “سيكون تهكمياً بالنسبة إلينا -بل قد يأتي بنتائج عكسية- إذا تواصلنا مع حكومة تعاملت بوحشية مع شعبها على مدار أكثر من عشر سنوات حتى الآن، وهاجمتهم بالغازات وذبحتهم، وكانت مسؤولة عن الكثير من المعاناة التي تحمّلوها”[10]، مردفاً: “بدلاً من ذلك لدينا شركاء في المجال الإنساني على الأرض يمكنهم تقديم نوعية العون في أعقاب هذه الزلازل المأساوية؛ هؤلاء الشركاء -على النقيض من النظام السوري- موجودون لمساعدة الشعب بدلاً من التعامل معهم بوحشية”.
لكنّ المسؤول الأمريكي يرى ضرورة أن تكون لدى الأطراف الفاعلة في المنظمات غير الحكومية والناشطين قدرة على عبور الحدود ذهاباً وإياباً لتوصيل المساعدات الإنسانية؛ مما يشير إلى أن البيروقراطية إزاء ضرورة موافقة نظام الأسد على دخول المساعدات بحجة “السيادة” ما زالت موجودة، الأمر الذي عرقل فعلياً عمليات إنقاذ الضحايا بسبب التباطؤ الأممي والدولي في تقديم المساعدات؛ ولذا فإن الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” رأى أن تأخر الأمم المتحدة في تقديم المساعدة “عار على جبينها”[11]، داعياً إلى “فتح تحقيق دولي حول تأخر وصول المساعدات إلى الشمال السوري”.
وفي هذا الصدد أصدرت مجموعة من كبار المحامين الدوليين وخبراء القانون والقضاة السابقين في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية رسالة توضّح أنه يمكن للدول المانحة ووكالات الأمم المتحدة تقديم المساعدة غير المباشرة للرد على رفض نظام الأسد الذي يزعم أن المساعدات عبر الحدود “انتهاك لسيادة سوريا”[12]، مؤكدين أن استمرار مرور المساعدات عبر الحدود إلى سوريا قانوني دون تفويض من مجلس الأمن[13].
تأخرت الأمم المتحدة بإرسال المساعدات من معابر جديدة بسوريا بحجة ضرورة موافقة مجلس الأمن، مع أن خبراء قانونيين أكدوا أن استمرار مرور المساعدات عبر الحدود إلى سوريا قانوني دون تفويض من مجلس الأمن |
كما أكد الخبراء أن انتظار تفويض مجلس الأمن في الحالة السورية يُعدّ “غير قانوني”؛ إذ أكدت محكمة العدل الدولية الجهاز القانوني الرئيسي للأمم المتحدة بشكل رسمي أنه “لا يمكن أن يكون هناك شك بأن المساعدة الإنسانية للمحتاجين -بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية أو أهدافهم- تدخُّل غير قانوني”، بل إن رفض دخول المساعدات هو الأمر غير القانوني، خاصة عندما يكون تعسفياً، وهو ما يبدو منطبقاً على الحالة السورية في ظل ما يمارسه نظام الأسد من انتهاكات ضد السوريين وسعيه لحصارهم طوال السنوات الماضية[14].
لكنّ ما جرى قد كرّس البيروقراطية لدى الأمم المتحدة بشكل واضح رغم الحاجة الماسّة للمساعدة؛ فالأمم المتحدة اعترفت في اليوم التاسع من الزلزال أنها كانت تنتظر موافقة نظام الأسد على فتح معبري باب السلامة والراعي – الواقعين في مناطق خارجة عن سيطرته – لتتوسع بإدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا[15]، ورحّب أمينها العام أنطونيو غوتيريش بموافقة نظام الأسد، علماً أن القرار لن يستمر سوى 3 أشهر فقط، في حين أن الكثير من قوافل المساعدات غير الأممية دخلت من معابر أخرى دون انتظار موافقة نظام الأسد أو مجلس الأمن الدولي[16].
وتثير هذه الخطوة الكثير من الأسئلة حول الأسباب الحقيقية وراء هذا التلكؤ والبيروقراطية التي فرضتها الأمم المتحدة، في وقتٍ كان يتطلب الحدث منها تحركاً سريعاً، لاسيما مع وجود بعض أخبارٍ تناقلها ناشطون تشير إلى إصرار نظام الأسد على استثمار الأزمة الإنسانية لأبعد حدّ لإعادة اعتباره سياسياً؛ ما يمكن تفسيره بالخضوع الضمني لهذا الإصرار من طرف المنظمة الأممية رغم ما سبق توضيحه من رأي أجهزتها القانونية بالأمر.
مكاسب نظام الأسد من الزلزال؛ استثناءات أمريكية مؤقتة:
على الرغم من تأكيد الولايات المتحدة أكثر من مرة أن العقوبات على نظام الأسد تستثني الحالات الإنسانية[17]؛ إلا أن وزارة الخزانة الأمريكية أصدرت قراراً يقضي بإعفاء نظام الأسد من العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر” لمدة ستة أشهر لجميع المعاملات المتعلقة بالاستجابة للزلزال، حيث يسمح الترخيص بمعالجة أو تحويل الأموال نيابة عن أشخاص من دول أخرى إلى سوريا أو منها لدعم المعاملات المصرح بها، في حين لا يسمح الترخيص بأي معاملاتٍ حول استيراد النفط والمنتجات البترولية ذات المنشأ السوري إلى الولايات المتحدة، كما أنه لا يسمح بأي معاملات تجارية مرتبطة بأشخاص مشمولين بنظام العقوبات ضد سوريا[18].
وقد برّر نائب وزير الخزانة الأمريكي “والي أدييمو” ذلك الإجراء بأن العقوبات الأمريكية في سوريا لن تقف في طريق جهود إنقاذ حياة الشعب السوري، مؤكداً أن برامج العقوبات الأمريكية تحتوي استثناءات قوية للجهود الإنسانية، مشيراً إلى أن الترخيص الصادر عامٌّ وشامل لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال.
تعديل الخزانة الأمريكية لم يشمل السماح بالتعامل المالي مع أية جهة تتبع لحكومة نظام الأسد، ولا التعامل مع الأشخاص المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يزال حظر استيراد النفط السوري مفروضاً. |
لكنّ قرار الخزانة الأمريكية قُوبل بانتقادات واسعة من قبل لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي التي أعربت عن “القلق البالغ” من سماح إدارة الرئيس جو بايدن بالتعامل المباشر مع نظام بشار الأسد، محذّرة من أن التعامل مع نظام الأسد تحت غطاء المساعدات الإنسانية يمثّل “صفعة في وجه السوريين”، وقال العضوان الجمهوريان البارزان رئيس اللجنة “مايكل ماكول” والعضو البارز “جيم ريتش” ردّاً على “الترخيص العام” الذي أصدرته وزارة الخزانة الأميركية: إن الترخيص الذي أصدرته وزارة الخزانة “يُقوّض السياسة الأميركية طويلة الأمد في ظل كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية، بما في ذلك تعليقات إدارة بايدن”، في إشارة إلى تأكيدات المتحدث باسم الخارجية الأميركية “نيد برايس” عدم موافقة واشنطن على أي تواصل مع نظام الأسد[19].
مضيفين: أن “هذا التفويض بالمعاملات المباشرة مع نظام الأسد ليس غير ضروري فحسب، بل إنه يفتح الباب أمام النظام الذي يسرق المساعدات، وسيُساء استخدامه لخلق مسار لتطبيع العلاقات مع النظام السوري”. ويبدو أن بيان المشرِّعين الجمهوريين نابع من كون العمل الإنساني مستثنى أساساً من العقوبات، وهو ما مكّن المنظمات الإنسانية من العمل لسنوات، كما أن البيان انتقد طول فترة الترخيص المقدّرة بـ 6 أشهر، في حين أنها برأي المشرّعين في حالات الكوارث تستمرّ عادة لبضعة أسابيع فقط.
بينما يعتقد مراقبون[20] أن القرار محدود الأثر؛ إذ إن العقوبات لم تكن العائق الرئيس للاستجابة الإنسانية في سوريا، لافتين إلى أن القرار يُفقد النظام أحد أدواته لنشر “البروباغندا”، كما لا تُمثّل التعديلات الأمريكية الأخيرة إعادة للتطبيع مع نظام الأسد بقدر ما تُمثِّل سحباً لبساط المظلومية من تحت أقدامه، ورمياً للكرة في ملعب النظام وحلفائه، وتحميلهم مسؤولية عدم الاستجابة لمساعدة المتضررين[21]. والأهم من كل ذلك أن تعديل الخزانة لم يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة تتبع لحكومة نظام الأسد، ولا التعامل مع الأشخاص المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يزال يفرض حظراً على استيراد النفط السوري[22]. في المقابل ترى شريحة أخرى من المراقبين أن نظام الأسد سيعدّ تمرير المساعدات بمثابة خرق للحصار والمقاطعة، وتالياً سيحقق مكاسب سياسيةً[23].
لقد استطاع نظام الأسد استثمار الكارثة الإنسانية للحصول على بعض المكاسب السياسية الفعلية، ومحاولة تعويم نفسه على الساحة العربية والدولية وتسويق نفسه أمام حاضنته، وهو ما يظهر في تكثيف الإعلام الرسمي التابع له نشرَ أخبار عن مكالمات وبرقيات تُعزّي بالزلزال من قبل رؤساء ومسؤولي دول[24]؛ إذ أفرد في مقدمة كل نشرة أخبار وقتاً طويلاً للإعلان عن المكالمات والبرقيات والرسائل التي تلقاها بشار الأسد، في وقتٍ لم يُبدِ فيه الأخير اهتماماً كبيراً بالمناطق المتضررة من الزلزال ولم يزرها إلا بعد عدة أيام من وقوع الكارثة، بل إنه ظهر مبتسماً يلتقط الصور التذكارية “سيلفي” مع آخرين وكأن شيئاً لم يحدث في المنطقة[25].
ومن جهة أخرى نشط الحراك الديبلوماسي -خصوصاً العربي- عقب الزلزال، وتمثّل في الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الأردني إلى دمشق وتُعد الأولى له منذ العام 2011 بحجة “التضامن” إزاء كارثة الزلزال[26]، واستثمرها رأس النظام ليقول: إنه يُرحّب بأي “موقف إيجابي” يصدر من الدول العربية التي قطع عدد منها علاقته مع دمشق منذ بدء الثورة السورية[27]، ما يعني أنه يحاول دفع دول أخرى إلى التقارب مع نظامه، غير الأردن المحسوب على الدول المطبّعة مع النظام منذ سنوات. كذلك قرّرت تونس رفع تمثيلها الدبلوماسي في دمشق، وقامت بتكليف دبلوماسيّ من السفارة التونسية في بيروت بتعزيز بعثتها في دمشق؛ في خطوةٍ رآها البعض مقدمة لإعادة العلاقات مع نظام الأسد، بحجة تأمين أفضل ظروف الرعاية والإحاطة للمواطنين التونسيين المقيمين في المناطق المنكوبة[28].
وفي هذا السياق تقول صحيفة “نيويورك تايمز”: إن الزلزال وضع بشار الأسد في دائرة الضوء العالمية، ومنحه فرصة للعودة إلى الساحة الدولية من خلال ما يُعرف بـ”دبلوماسية الكوارث” التي منحته التعاطف والمساعدة والاهتمام من بعض الدول[29].
جانب آخر يمكن التقاطه لبعض المكاسب التي يمكن القول إن نظام الأسد قد يحصل عليها بعد الزلزال، وهو ما نقلته وكالة رويترز عن مسؤول تركي كشف أن الحكومة التركية تدرس إعادة فتح معبر “يايلاداغ – كسب” على الحدود مع سوريا، من أجل نقل مساعدات الأمم المتحدة إلى مناطق نظام الأسد عبر المعبر[30]، مؤكداً أن “المناقشات والتخطيط مستمران” بهذا الشأن؛ إذ يُعتقد أن فتح المعبر سيزيد من حجم المساعدات الداخلة إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، فضلاً عن أنه قد يُعد مؤشراً إيجابياً من أنقرة في سياق التطبيع المرتقب مع نظام الأسد.
سرقة المساعدات بعد تسييسها؛ نظام الأسد يكرّر نهجه ويتجاهل المأساة ويفتح الباب لعصابات “التعفيش”:
رغم فداحة كارثة الزلزال فإنّ نظام الأسد استمر بأسلوبه ذاته في سرقة المساعدات الإنسانية التي أُرسلت بكثافة من العديد من الدول للمتضررين في مناطق سيطرته؛ إذ كشفت مصادر إعلامية -بما فيها الموالية للنظام- عن حرمان عدد من البلدات والقرى المتضررة من المساعدات التي أرسلتها الدول العربية وغيرها، بل إن تلك المساعدات باتت تُباع في الأسواق[31]، وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات تُوثّق انتشار المساعدات بشكل كبير في الأسواق ضمن مناطق خاضعة لسيطرة نظام الأسد لم يضربها الزلزال، في وقتٍ حُرمت فيه المناطق التي ضربها الزلزال من المساعدات.
رغم فداحة كارثة الزلزال استمر نظام الأسد بأسلوب ذاته في سرقة المساعدات الإنسانية التي أُرسلت بكثافة من العديد من الدول للمتضررين في مناطق سيطرته، وباتت تُباع المساعدات في الأسواق بدلاً من توزيعها على المحتاجين. |
كما تحدثت مصادر أخرى عن أن نظام بشار الأسد سرق المعونات التي جاءت من الدول العربية، ولم يصل للمتضررين إلا بطانيات قديمة وسلة غذائية متواضعة، في حين تم سحب المعونات الجديدة إلى مخازن الهلال الأحمر وإدارة التعيينات بقوات نظام الأسد[32]، وتشير المصادر إلى أن جهات معتمَدة لدى الأمم المتحدة في تسليم المساعدات بمناطق نظام الأسد متورطة بعمليات السرقة، مثل منظمة “الهلال الأحمر السوري”؛ إذ تم اتهامها بإحضار المساعدات إلى ملعب جبلة وتصويرها عند وصولها وتفريغها، لكنها أعادت تحميلها على مرأى السكان، بعد أن وضعت أغطية قديمة وأبقت على عبوات الماء وربطة خبز وأربع بيضات لكل أسرة فقط[33]. ولا يختلف الحال كثيراً في مناطق أخرى ضربها الزلزال مثل حلب وحماة واللاذقية[34]؛ إذ تشير المشاهد القادمة من هناك إلى علميات سرقة ممنهجة للمساعدات الإنسانية القادمة للمتضررين من الزلزال[35].
وبسبب ذلك الواقع والخشية من سرقة المساعدات رفض بعض الناشطين ضمن مناطق نظام الأسد تسليم المساعدات عبر النظام وعملوا على تسليمها باليد للمتضررين؛ لتعمد أفرع النظام الأمنية إلى اعتقالهم بحجة عدم الحصول على تصريح أمني[36].
ولم يقف الأمر عند ذلك الحد؛ بل إن نظام الأسد عمدَ إلى عمليات هدم للأبنية في حلب ودمشق وريفها تحت مزاعم تفادي الخطر الذي تشكله الأبنية على السلامة العامة جراء تداعيات الزلزال[37]، علماً أن الأبنية التي جرى إزالتها كانت متضررة أصلاً من القصف الذي تعرضت له طوال السنوات الماضية من قبل قوات نظام الأسد وروسيا، في مناطق بعيدة نسبياً عن مركز الزلزال، ويأتي ذلك في محاولة من النظام لزيادة المساعدات الدولية وجلب المزيد من الدعم، لاسيما المخصص لإعادة الإعمار، كما بدأت مجموعات “التعفيش” التابعة للأجهزة الأمنية والعسكرية في نظام الأسد عملها بنهب الممتلكات فور انسحاب فرق إزالة الأنقاض وانتشال الجثث في بعض مناطق حلب واللاذقية التي ضربها الزلزال المدمر[38].
وتشكك الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأرقام الضحايا الواردة من مناطق سيطرة النظام؛ إذ تشير إلى أنها وثقت قرابة 321 شخصاً في مناطق سيطرة النظام، في حين تدّعي حكومة الأسد أن أعداد الضحايا تتجاوز أربعة أضعاف هذا الرقم دون تقديم أي أسماء أو بيانات عن المتضررين[39]، في حين أشار ناشطون إلى قيام نظام الأسد بالضغط على بعض الجهات السياسية التي أرادت تقديم مساعدات للمنكوبين، مشترطاً زيارات رفيعة المستوى لمسؤولين من طرفها من أجل السماح لهم بتقديم المساعدات[40].
كما وجّهت إحدى موظفات الإغاثة الألمانية العاملة مع إحدى المنظمات الكردية اتهاماتٍ لنظام الأسد بعرقلة مرور قافلة تحمل المساعدات إلى الشمال السوري، وتعرضهم للتهديد والابتزاز ومنعهم من التقدم ما لم يحصلوا على نصف المساعدات المتوجهة إلى مناطق المعارضة الأكثر تضرراً من الزلزال[41].
خاتمة:
يمكن القول: إن نظام الأسد تمكن من استغلال كارثة الزلزال الإنسانية لتحقيق مكاسب مادية وسياسية عبر تركيزه الإعلامي على التفاعل الدولي والمساعدات التي تلقاها والعودة إلى الواجهة السياسية، مستفيداً من مسارعة العديد من الدول العربية التي كانت ترعى مسار التطبيع المتعثر مع نظام الأسد لالتقاط اللحظة والاستفادة من الظرف الإنساني لترفع وتيرة التواصل والجهود، معتبرة أن تجميد العمل بقانون العقوبات قد يكون بمثابة ضوء أخضر من الإدارة الأمريكية للمضي قدماً في تلك الجهود.
في حين تبدو السياسات الأوروبية والأمريكية أكثر تحفظاً في المضي قدماً بأي شكل من العلاقات السياسية؛ فقد حذّرت بعض الصحف العالمية من مغبة استثمار الأسد كارثة الزلزال من أجل تلميع نفسه والعودة إلى الساحة[42]، إلا أن البعض يرى أن الزلزال الأخير وضع بشار الأسد في دائرة الضوء العالمية، ومنحه فرصة للعودة إلى الساحة الدولية من خلال ما يُعرف باسم “دبلوماسية الكوارث”، والتي جعلت عملية التواصل معه من قبل بعض الدول عملية أسهل وأقل كلفة وأكثر تبريراً، على اعتبار أنه لم يعد هناك مَن يحاول بجديةٍ الإطاحة بالأسد، وإنما هناك مَن يبحثون فقط عن شروط اندماجه وبقائه[43].
وفي الوقت الذي تعيش فيه المعارضة السورية حالة من الصدمة والتهميش يزداد المشهد تعقيداً، وتبرز أولوية إنشاء حراك سياسي موازٍ يمنع نظام الأسد من مواصلة الاستفادة والاستئثار بالمشهد، ويعيد التذكير بجرائمه السابقة والحالية، وينقل للعالم الانتهاكات المستمرة التي يقوم بها، ويحرّك ملفات حقوقية وقانونية على الساحة العربية والدولية تحرج الدول المهرولة للتطبيع معه، وتؤكد أن سياسات هذا النظام لم ولن تتغير، وأنه لا يتوانى عن التورط في أي نوع من الجرائم دون خطوط حمراء في سبيل الحفاظ على بقائه على كرسي السلطة مهما كان الثمن.
لمشاركة التقرير:
2 تعليقات