الإصداراتالتقارير الموضوعيةالقوى الدولية الفاعلة في الملف السوريوحدة تحليل السياسات

التقرير الموضوعي لندوة ” قانون قيصر بعد عام من إقراره: النتائج والسيناريوهات المتوقعة لإعادة الإعمار “

مقدمة:

شهد الواقع السياسي والاقتصادي في سوريا منذ إقرار قانون قيصر في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2019م، ثم دخوله حيّز التطبيق في يونيو/ حزيران من عام 2020م تغيرات عديدة؛ كانت في معظمها ثمرة التضييق والحصار الاقتصادي والسياسي الذي كرَّسه قانون قيصر على نظام الأسد، وقد تجلَّت هذه التغيرات في التدهور الكبير والمتسارع للاقتصاد السوري، وهبوط قيمة الليرة السورية إلى مستويات غير مسبوقة[1]، كما تجلَّت كذلك في استمرار القطيعة السياسية مع نظام الأسد رغم الجهود المبذولة لإعادة تعويمه، ورغم التقدم العسكري الذي حققه مع ميليشياته في محافظة إدلب شمال سوريا تحت الغطاء الجوي الروسي.

وفي سياق متصل شهدت هذه المدّة كذلك سعياً روسياً حثيثاً على المستويَين الدولي والعربي لإعادة تدوير نظام الأسد، والتطبيع معه بهدف استجلاب عقود إعادة الإعمار، وذلك بعد عشرات الاتفاقيات التي وقعتها موسكو مع نظام الأسد، مستحوذةً بذلك على موارد البلاد وثرواتها؛ إلا أن هذه المساعي الروسية اصطدمت بالتحذيرات الأمريكية شديدة اللهجة بضرورة تجنُّب التعاون مع نظام الأسد اقتصادياً، أو الوقوع تحت عقوبات قانون قيصر.

ضمن هذه التوليفة يتقاطع المجالان السياسي والاقتصادي في الملف السوري، ويؤثر كل منهما في الآخر؛ فروسيا تسعى من خلال البوابة السورية إلى استرجاع دورها العالمي الحالم بإعادة الهيمنة الروسية، والخروج من سوريا بتموضع الوسيط الدولي القادر على حل النزاعات وإقامة التسويات؛ إلا أن التكلفة الاقتصادية الباهظة لهذه الأهداف السياسية، والقدرة الأمريكية على عرقلة الحلول السياسية وخنق الفرص الاقتصادية تبقى العائق الأكبر أمام هذه الطموحات.

 ضمن هذا الإطار أقام مركز الحوار السوري ندوة حوارية بعنوان: “قانون قيصر بعد عام من إقراره: النتائج والسيناريوهات المتوقعة لإعادة الإعمار”؛ استضافت الخبير الاقتصادي والسياسي الدكتور “أسامة قاضي”[2]، وعدداً من الباحثين والمهتمين، وفي هذا التقرير نرصد أهم مجريات هذه الندوة والأفكار والخلاصات التي تمت الإشارة إليها من الخبير الضيف والمشاركين في الندوة مع بعض التصرُّف؛ ولا تعبر بالتالي الآراء الواردة فيه بالضرورة عمّا يتبنّاه مركز الحوار السوري[3].

بين عامَي 2011 و2021 … كيف تؤثّر تغيرات الواقع في القضية السورية:

استفتح المتحدث الضيف الندوة بالإشارة إلى ما شهدته القضية السورية خلال أعوامها العشرة من التطورات والتحولات والانقسامات بين مختلف الأطراف والفاعلين، وموجات المد والجزر في نِسب السيطرة والهيمنة على الأرض والتوجيه والتحكم بالمجريات السياسية، وتراجُع قوى الثورة والمعارضة بشكل ملحوظ، كما أشار كذلك إلى أن نظام الأسد فقدَ الكثير من مقوماته وقدراته على البقاء، وقد ترافق ذلك مع تنامي دور بعض الفاعلين المحليين المدعومين خارجياً كـ “قسد” والميلشيات الإيرانية، وازدياد حجم التدخل والنفوذ الخارجي للقوى الدولية والإقليمية؛ مما أدى إلى تدويل الصراع السوري وعولمته خصوصاً مع بروز قضايا محاربة الإرهاب وظهور “داعش” ومثيلاتها من الجماعات المتطرفة.

وقد أشار الخبير إلى أن التقصير في رؤية التغيرات، وعدم التفاعل مع الواقع الذي تبدلت فيه موازين القوى بشكل كبير وغابت فيه عوامل القوة والضغط عند أطياف المعارضة والثورة؛ يؤدي إلى قصورٍ في اتخاذ القرار السياسي والمشروع الملائم للمرحلة الحالية، وإلى تبنّي أطروحات وحلول حالمة غير قابلة للتطبيق أو التفعيل على الأرض، مما يحتم على قوى الثورة والمعارضة النظر في حقائق الواقع اليوم ودقائقه للتمكن من صياغة الحلول والمشاريع الملائمة للواقع، في موازنة صعبة ودقيقة للغاية بين الحفاظ على الثوابت الوطنية ومسايرة تغيرات الواقع.

مفهوم الاقتصاد الجيوسياسي كوسيلة لفهم توازنات الواقع:

أشار الخبير إلى أنّ مفهوم “الاقتصاد الجيوسياسي” يشكل مقاربة ثلاثية الأبعاد لفهم الواقع السوري اليوم، عن طريق إدراك حقيقة الأبعاد الثلاثة؛ الاقتصادية والجغرافية والسياسية، والعلاقات الناشئة بينها؛ حيث تلعب السيطرة العسكرية على الجغرافيا دوراً مهماً في سوريا لتقوية النفوذ السياسي، ثم تحقيق المنافع الاقتصادية المأمولة عن طريق هذا النفوذ. ومن زاوية أخرى تقوم القوة الاقتصادية برسم ملامح الطموح السياسي على الجغرافيا المسيطر عليها، وفهمُ هذا التداخلات المعقدة بين الأبعاد الثلاثة مهم جداً في فهمِ أدوار اللاعبين وتصور طبيعة المشروع الذي يرسمه كل طرف من الأطراف لتحقيق أهدافه.

وقد عرض الخبير كذلك توزع مناطق النفوذ في سوريا؛ إذ تحدد القوى السياسية ثلاث مناطق نفوذ رئيسة على ثلاث بقع جغرافية تتشارك الخريطة السورية، وهي:

  • منطقة النفوذ الروسي – الإيراني[4]: يمتد هذا النفوذ على مساحة هي الأكبر من الناحية الجغرافية، تتشارك فيها القوات الروسية السيطرة مع الميلشيات الإيرانية وقوات نظام الأسد.
  • منطقة النفوذ الأمريكي[5]: يمتد هذا النفوذ على مساحة جغرافية هي الأغنى من ناحية الثروات الاقتصادية المتنوعة، وتُدار هذه المنطقة إدارياً من خلال مشروع الإدارة الذاتية التابع لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” بدعم وتوجيه أمريكي.
  • منطقة النفوذ التركي[6]: يمتد هذا النفوذ على مساحة جغرافية متقطعة هي الأكثر فقراً ومعاناة من الناحية الإنسانية، تسيطر تركيا بشكل أساسي فيها على القرار العسكري والسياسي، مع وجود العديد من الفصائل المسلحة فيها.

ونتيجة لهذا التقاسم في النفوذ والسيطرة على الأرض تبقى الحلول والمشاريع السياسية النهائية للقضية السورية غير متفق عليها؛ مما يعرقل عمليات إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد السوري.

قانون قيصر والمزاحمة الإيرانية.. الحائط المزدوج أمام الأحلام الروسية في إعادة الإعمار:

اعتبر الخبير الضيف أن قانون قيصر شكَّلَ منذ إعلان دخوله حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران منتصف العام 2020 حاجزاً صلباً أمام المساعي الروسية لاستجلاب عقود إعادة الإعمار الدولية إلى سوريا؛ فقد أسهمت التهديدات الأمريكية الصارمة بالحجر والتقييد الاقتصادي للدول أو البنوك أو الشركات المتعاملة مع النظام السوري في إفشال التوجهات الروسية نحو الاتحاد الأوروبي أو الدول العربية، أو حتى الشركات الصينية لتقديم الشراكات والاتفاقات الاقتصادية؛ وبذلك يلعب قانون قيصر دوراً مهماً في تقويض الجهود الروسية الرامية إلى تعويم النظام السوري وتطبيع العلاقات معه، وإكسابه الشرعية الدولية أو الإقليمية.

وأضاف الخبير أنه اليوم وبعد خمس سنوات من التدخل العسكري المباشر في سوريا؛ فإن روسيا تسعى إلى قطف ثمار جهودها بشكل واضح وعلني، كما أنها تدرك أن تأخير الحل السياسي يعني مزيداً من الغرق في المستنقع السوري، مما يعني مزيداً من التكاليف الباهظة والمنهكِة للاقتصاد الروسي، في وقت تشهد فيه روسيا تردّياً في الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد وتذمّراً شعبياً من السياسات العامة للحكومة، وتشير الأرقام إلى هبوط في قيمة  الروبل الروسي أمام الدولار، كما تشير إلى أن 20 مليون روسي يعيشون تحت خط الفقر، وبالمجمل تسعى روسيا لحصد الثمار في سوريا سريعاً ولإيقاف الاستنزاف الاقتصادي الحالي لها.

كذلك يؤدي التضارب الروسي – الإيراني في المصالح والأهداف السياسية إلى إيجاد حالة من التنافس على تحصيل المكاسب الاقتصادية وتوقيع الاتفاقيات مع نظام الأسد؛ إذ يرتكز المشروع السياسي لروسيا في سوريا على ضرورة كسر الهيمنة الأمريكية الدولية وإعادة الدور الروسي العالمي وترتيب الأوراق داخل نظام الأسد عبر بوابة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، مما يعطي الروس فرصة لإعادة التموضع كدولة كبرى قادرة على حل النزاعات واستعادة الأمجاد السابقة، بينما يرتكز المشروع الإيراني على دعامات طائفية توسعية تتغلل[7] داخل المجتمعات المحلية والمفاصل الصغيرة في نظام الأسد، وإنشاء حالات عسكرية ميليشياوية تخدمها وتحقق أهدافها في سوريا[8].

وأشار الخبير إلى أن هذا الاختلاف بين المشروعَين أفرز حالة تنافسية ساخنة بين الطرفَين وسباقاً على توقيع الاتفاقيات الاقتصادية مع الأسد لضمان الوجود والتمثيل بعد الصفقات السياسية النهائية في سوريا؛ فقد وقَّع الجانب الروسي العديد من الاتفاقيات مع نظام الأسد، كان من أبرزها تلك التي تم توقيعها في سبتمبر/ أيلول من العام 2020 وبلغت 40 اتفاقية[9]. بينما وقَّع الجانب الإيراني العديد من الشراكات الاقتصادية كذلك، كان من أبرزها تلك التي جرى توقيعها في يناير/ كانون الثاني من العام 2019م وبلغت 11 اتفاقية[10]؛ إلا أن الجامع المشترك بين اتفاقيات الطرفَين مع نظام الأسد هو كونها وكالات معلقة من غير تطبيق بانتظار الموارد المالية اللازمة لتفعيلها، والتي ستأتي عن طريق عقود إعادة الإعمار.

وفي إجابته عن سؤال أحد المشاركين حول قدرة النظامَين الإيراني والروسي على الالتفاف والتملُّص من عقوبات قانون قيصر[11]، أشار الخبير إلى أنه: على الرغم من هذا النوع من التمرُّس والخبرة الموجودة لدى الجانبَين الروسي والإيراني في القدرة على التعامل مع العقوبات الدولية والالتفاف حولها؛ إلا أن قانون قيصر يبقى حازماً وفعّالاً حيال الشركات والدول التي من الممكن أن تتعامل مع النظام، حيث إن هذا التحايل يفيد عادة في تجنيب بعض الأشخاص بشكل فردي سطوة العقوبات الأمريكية، ولا ينجح في تمكين البنوك أو المؤسسات والشركات من الإفلات من قبضة هذه العقوبات، وبالتالي يبقى للقانون القدرة على تقويض وتقييد النشاط الاقتصادي العام لمؤسسات النظام وبنيته.

ويرى الخبير أن جوهر قانون قيصر يكمن في كونه رسالة أمريكية واضحة للجانب الروسي، تبيِّن له استحالة الاستئثار بعقود إعادة الإعمار وتحصيل مكاسبه التي يسعى وراءها في سوريا دون التوصل إلى الحل السياسي الذي ينفّذ المطالب السبعة الموجبة لرفع عقوبات قيصر[12]، ومن هنا يتضح الباعث وراء الدفع الروسي المستمر لنظام الأسد للانخراط في العملية السياسية، على الرغم من عدم جدية الأخير ومماطلته، كما تتضح كذلك الحقيقة وراء “مؤتمر اللاجئين” الذي عُقد في دمشق؛ إذ أرادت موسكو من خلاله إظهار قدرتها على توفير الملاذ الآمن لعودة اللاجئين كواحد من الشروط السبعة لرفع عقوبات قيصر، وكذلك فإن إدراك هذه العلاقات المشتبكة يوضح حقيقة الدور الإيراني الرافض للتسويات السياسية؛ لأن طهران تدرك وجود توافق بين الأطراف الأخرى على ضرورة إخراجها من سوريا بعد الوصول إلى الحل السياسي النهائي.

الفوسفات والموانئ البحرية.. صور الهزائم الاقتصادية لإيران:

وفي الحديث عن إيران أورد الخبير بعض المعلومات المتعلقة بنشاطها الاقتصادي في سوريا وخساراته الأخيرة؛ ففي استثمارات الفوسفات، التي تُعدّ واحدةً من أبرز الثروات الباطنية في سوريا؛ حيث احتلت المرتبة الخامسة عالمياً في قائمة الدول المصدرة له مع احتياطي كبير يقدر بمليارَي طن، ومع اندلاع الثورة في سوريا شكل الفوسفات أهم وسائل دفع نظام الأسد التزاماته المالية تجاه إيران عن طريق العديد من الاتفاقيات معها، إلا أنه لم يلبث كثيراً حتى أعاد بيعها مرة أخرى للشركات الروسية، على الرغم من اتفاقاته السابقة مع طهران؛ مما أدى إلى استبعاد الأخيرة من عمليات الاستثمار والبيع[13].

كذلك شكَّلت الموانئ البحرية ساحة أخرى من ساحات الهزائم الاقتصادية لإيران في سوريا؛ فعلى الرغم من أولوية الموانئ البحرية بالنسبة لروسيا، إلا أن إيران حاولت التخطيط للوصول إلى مرفأ اللاذقية وتوقيع اتفاقية مع نظام الأسد لاستثماره مطلع العام 2019م[14]؛ لكنّ هذا الوجود الإيراني لم يدم طويلاً، فقد استطاعت روسيا قطع الطريق عليها وإخراجها من المرفأ عن طريق تمكين شركة ثالثة فيه[15]؛ وبذلك استكملت استحواذها على الموانئ البحرية السورية، محققة بذلك واحداً من أهدافها الرئيسة في سياستها الخارجية.

واختتم الخبير كلامه عن إيران باعتبارها تشكل الحلقة الأضعف في عملية التنافس الاقتصادي في سوريا، وأشار إلى أن بقية الفاعلين لا يُخفون توجهاتهم نحو إخراجها من سوريا وحرمانها من تحصيل الموارد الاقتصادية والثروات فيها، بمن فيهم “إسرائيل” بطبيعة الحال، التي تتخوف من بقاء الوجود الإيراني في سوريا، وقامت في سبيل ذلك بالتنسيق مع الجانبين الروسي والأمريكي لضرب المليشيات الإيرانية في سوريا وتقويضها.

ضبابية الرؤية وهشاشة السيطرة.. عوامل عرقلة إعادة الإعمار في مناطق النفوذ الأمريكي والتركي:

وعند تناول مناطق النفوذَين الأمريكي والتركي أشار الخبير إلى أن النفوذ الأمريكي في سوريا يمتد على مساحة هي الأغنى من ناحية الثروات النفطية والغذائية؛ حيث تهيمن الولايات المتحدة الأمريكية على ما مجموعه 95% من الثروات النفطية السورية، و70% من القمح السوري وعلى أكثر من نصف الموارد القطنية في سوريا؛ إلا أنه رأى أن غياب التصور النهائي لصيغة الحل في سوريا، وتعطُّل الوصول للتسويات السياسية الدولية عبر مسار جنيف والقرار 2254 بسبب تعنُّت الأسد والعرقلة الروسية؛ كل ذلك يجعل واشنطن أكثر بروداً في التعامل مع ملف إعادة الإعمار في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

وأشار كذلك إلى أن هذا التريث الأمريكي في عملية فرض الحلول النهائية في سوريا يأتي نتيجة للتوجهات الروسية التي تضع الملف السوري ضمن سلة أكبر من الملفات الدولية العالقة بين الطرفَين؛ إذ تسعى موسكو من خلال الورقة السورية إلى التفاوض تحت سقف خطة أكبر تشمل ملفات أخرى، مثل أوكرانيا والقرم والعقوبات الدولية على موسكو، بينما تحرص الولايات المتحدة الأمريكية على فصل الملفات والتفاوض عليها بشكل مجزأ، إضافة إلى حالة الإدارة الميلشياوية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي لم يتم الاعتراف بها حتى الآن من قبل أي طرف من الأطراف؛ كل هذه العوامل تجعل الرؤية الأمريكية حول استمرار السيطرة في سوريا غير واضحة بشكل جلي، مما يثنيها عن المباشرة في عملية إعادة الإعمار.

كما اعتبر الخبير أن الأسباب السياسية المانعة لعملية إعادة الإعمار في مناطق النفوذ الأمريكي هي ذاتها التي تُبقي تركيا بعيدة عن المباشرة بها في مناطق النفوذ الخاضعة لها؛ فتركيا تدرك أن قوة دورها في صياغة الحلول السياسية لسوريا لن يكون بحجم قوة الدورين الروسي والامريكي، مما يجعلها في تخوُّف من احتمالية انكماش مناطق النفوذ الخاصة بها، فضلاً عن عوامل الضعف والتشتت في حلفائها على الأرض من فصائل المعارضة المسلحة، سواء تلك المناطق الخاضعة للحكومة المؤقتة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، أو تلك الموجودة في محافظة إدلب؛ كما يرى الخبير.

وبذلك خلص الخبير إلى أن جهود إعادة الإعمار حالياً في سوريا متوقفة وغير قابلة للتفعيل في مناطق النفوذ الثلاث في سوريا؛ وذلك لأسباب سياسية اقتصادية في مناطق نظام الأسد بسبب قانون قيصر، ولأسباب أخرى جيوسياسية وعسكرية في مناطق النفوذَين الأمريكي والتركي.

المآلات المستقبلية للحل ضمن المسارات السياسية الحالية:

نبَّه الخبير إلى أن بعض قوى الثورة والمعارضة لا تدرك خطورة المآلات والنتائج التي من الممكن أن تفرزها مسارات الحل السياسي بشكلها الحالي، سواء تلك المتعلقة باللجنة الدستورية أو بمسار أستانة، معتبراً أن المخرجات النهائية لهذه المسارات لا تزيد عن كونها عملية إعادة تدوير لنظام الأسد وتصديره بشكل جديد، دون مساس البنية والهيكيلة الأمنية والعسكرية له، وتكريس البقاء تحت النفوذين الروسي والإيراني وقَبول الهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لهم؛ إذ يُعدّ الطرفان ضامنَين أساسيَين مع تركيا لمسار أستانة، مما يعني استمراراً للمعاناة والأزمة الاقتصادية والإنسانية في سوريا.

وأشار الخبير كذلك إلى خطورة القَبول بنتائج هذه المسارات تحت شعار “وحدة الأراضي السورية” الواقعة تحت الهيمنة الروسية والإيرانية بشكل كامل؛ مما يعني أن تنعكس في ضرورة الموافقة على العقود والاتفاقيات التي تم توقيعها بين نظام الأسد والطرفَين الروسي والإيراني، لأن تلك الاتفاقيات تُعدّ نافذةً من الناحية القانونية بحكم توقيع النظام عليها، مع بقاء بنيته السياسية والعسكرية، حتى لو أفرزت هذه المسارات بعض التغيرات الصورية في واجهاته وأدواته؛ مما يعني ارتهان الثروات السورية للطرفين الروسي والإيراني، وتسديد الديون والالتزامات التي في عنق نظام الأسد تجاههم من جيوب السوريين وأبنائهم لعقود مقبلة من الزمن.

وقد أشار الخبير إلى أن أقل المطلوب الذي يحقق بعض المكاسب من خلال هذه المسارات، والذي لا ينبغي التراجع عنه تحت أي نوع من أنواع الضغوطات؛ هو صياغة مبدأ دستوري يقرر أنه سيكون للكيان السوري القادم – أياً كان شكله- الحق في إعادة النظر في جميع الاتفاقيات التي تم توقيعها من قبل نظام الأسد، والقدرة على إلغائها في حال كونها مجحفة بحق السوريين أو متعدية على حقوقهم وثرواتهم.

هوامش العمل المتاحة وملامح المشروع السياسي الوطني المأمول:

ضمن هذه التعقيدات الكبيرة للواقع، ومع المستويات غير المسبوقة من التدهور الاقتصادي والمعاناة الإنسانية؛ رأى الخبير أهمية العمل الوطني وضرورة التحرك على كافة المستويات السياسية والإنسانية والتوعوية لإنقاذ ما تبقى أو ما يمكن إنقاذه من المأساة السورية، ورأى الخبير أن أولى مساحات العمل المتاحة تمرّ عبر بوابات الإغاثة والتعليم والتوعية والتنمية السياسية والاقتصادية وغيرها من النشاطات، التي بمجملها تعمل في فضاء “إطفاء الحرائق” أو “معالجة المشكلات” حسب تعبيره، ومع أنه لا يمكن الاستغناء عنها بطبيعة الحال؛ إلا أنها لا تغطي إلا وجهاً واحداً من أوجه المعاناة في سوريا، ولا تنهيها من جذورها ضمن مشروع جامع يسعى لتحقيق نهضة حقيقية.

ومع ذلك – وبحسب رأي الخبير – يمكن اقتراح قيام مجموعة من النخب المهتمة والواعية والمدركة لتعقيدات الواقع وتوازناته، والمتشبعة بالثوابت الوطنية وضرورة الحفاظ عليها بالعمل على تقديم تصور لمشروع اقتصادي سياسي شامل، يُقدَّم إلى الدول المانحة والمالكة لمفاتيح صنع القرار في الشأن السوري؛ يعمل هذا المشروع على الحفاظ على المكتسبات الموجودة، ويستمر في نضاله من أجل تحقيق بقية الأهداف المرجوة والثوابت الوطنية، ويرتكز هذا المشروع بشكل أساسي على ضرورة إنشاء كيان سياسي اقتصادي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والواقعة تحت النفوذَين الأمريكي والتركي، وتتم حماية هذا الكيان والاعتراف به دولياً للانطلاق منه في عملية نهضة شاملة،مع استلهام تجارب أخرى مشابهة مثل تجربة “ألمانيا الاتحادية”[16].

وبعد كلام الخبير أورد بعض الحاضرين العديد من التساؤلات والاستشكالات حول هذا الموضوع؛ فأشار أحدهم إلى أن هذا الطرح “الجريء” يواجه انتقادات مستمرة من العديد من أطراف المعارضة الثورية، بحجة أنه يفرط بالثوابت الوطينة ويهدر تضحيات الشعب السوري طوال السنوات السابقة[17]؛ حيث إن الشعب السوري قدَّم الكثير سابقاً ولم يعد لديه شيء ليخسره اليوم، وبالتالي فإن مثل هذه الأطروحات التي تتذرع بضرورة إنهاء المأساة والتعاطي مع صعوبات الواقع ليست هي الخيار المنطقي حسب رأيهم، كما يراهن هؤلاء على أن حالة النظام الاقتصادية والسياسية والعسكرية اليوم هي أسوأ من أي وقت مضي، وأن قراره مرتهن تماماً للأطراف الخارجية، وبالتالي لا ينبغي النزول على شروطه.

وفي إجابته عن هذه النقاط ذكر الخبير أن هذه الانتقادات السابقة وإن كانت صادرة من جهات حريصة على الثوابت الوطنية والثورية؛ إلا أنها تنطلق من افتراضاتٍ خاطئةٍ لطبيعة المشروع الوطني الذي يطرحه، ومن قصورٍ في تصوُّر معطيات الواقع التفصيلية وحجم المأساة الكبير، وأضاف الخبير: أن القول بضرورة إنشاء كيان مستقل اقتصادياً وسياسياً ومعترف به دولياً لا يعني الدفع باتجاه تقسيم الجغرافيا السورية، ولكنه يعني الحفاظ على ما تبقى من مكاسب الشعب السوري والبناء عليها لتحقيق بقية الأهداف والثوابت الوطنية، معتبراً أن هذه المرحلة ستكون مرحلة مؤقتة سابقة لإنشاء كيان سوري موحد ينهض بجميع الحغرافيا السورية.

وقد رأى الخبير أن معطيات الواقع الصعبة ورهاناته المتوقعة هي أكبر محفز للدفع باتجاه حلٍّ كهذا؛ فالمساحة الجغرافية الخارجة حالياً عن سيطرة النظام والتابعة لقوى الثورة والمعارضة هي في أقل نسبة لها منذ بدء الصراع، وهي مهددة كذلك بالانكماش والتقلص في حال استطاع النظام وحلفاؤه الدفع باتجاه عملية عسكرية جديدة شمال سوريا. وكذلك فإن الأرقام تشير إلى تردٍّ في الأوضاع الإنسانية للنازحين بشكل غير مسبوق، مع وجود مخاطر بمزيد من الخنق والتضييق إذا ما استطاعت روسيا الوصول إلى معبر “باب الهوى” وقطع الشريان الوحيد المتبقي لمناطق المعارضة.

كما أن اجتماع الطرفين الأمريكي والتركي من الناحية الاقتصادية والسياسية، وتوحيد مساحات نفوذهما يعطي قوةً وثقلاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً لقوى المعارضة المختلفة؛ حيث تشكّل هذه المناطق الخزّان الأكبر للثروات الباطنية والزراعية في سوريا، وبالتالي إتاحة الفرصة لاسثتمار وترشيد عملية استخراج هذه الثروات والاستفادة منها في عملية إعادة الإعمار، فضلاً عن قدرة هذا الكيان الجديد على التملص من كافية الاتفاقيات والديون التي يدين بها النظام تجاه حلفائه الروس والإيرانيين؛ حسب رؤية الخبير.

خاتمة:

مع اقتراب الثورة السورية من إنهاء عامها العاشر تفقد قوى الثورة والمعارضة السورية المزيد من أسباب قوتها ومقدراتها نتيجة العديد من العوامل الذاتية والموضوعية؛ إلا أن هوامش العمل المتاحة حالياً وفرص الخلاص ما زالت ممكنة، مع إدراك السوريين أن مفاتيح القرار السياسي الأخير الذي سينهي معاناتهم لم تعد متاحة بأيديهم كما كانت قبل سنوات قريبة؛ فقد أدت عولمة النزاع في سوريا، وتشابك المصالح الإقليمية والدولية فيه إلى فقدان الفاعلين المحليين – سواء من قوى الثورة  والمعارضة أو نظام الأسد – مساحات كبيرة من هوامش القوة.

لذلك فالحديث عن مشروع وطني يراعي متطلبات الواقع ويحقق الثوابت الوطنية هو من أهم ضرورات المرحلة الحالية، مع ضرورة معرفة الفاعلين الحقيقيين الذين يملكون القوة والقدرة على تنفيذ هذا المشروع وتطبيقه على الأرض وإدراكهم أن مثل هذا المشروع الوطني، الذي يهدف إلى إقامة كيان اقتصادي سياسي يجمع بين مناطق النفوذَين الأمريكي والتركي يعني ضرورة التوافق الأمريكي التركي وحل الخلافات العالقة بين الطرفَين كأولى خطوات هذا الحل، تمهيداً للتوصل إلى الاتفاق الروسي الأمريكي بوصفهم أصحاب المشاريع والنفوذ الأكبر في سوريا اليوم.

وأياً كان شكل الحل القادم في سوريا فإن مسؤولياته الاجتماعية والثقافية هي من أهم المتطلبات والمهام الملقاة على عاتق الكيان الجديد القادم؛ فإلى جانب المجالات الاقتصادية والأمنية تبقى جوانب الترميم ولململة التشظّي المجتمعي السوري هي الأهم على المدى الطويل، لبناء المجتمع القوي القادر على بناء الدولة مرة أخرى.

لتحميل الورقة:

التقرير الموضوعي ” قانون قيصر بعد عام من إقراره: النتائج والسيناريوهات المتوقعة لإعادة الإعمار “

لمشاركة الصفحة: https://sydialogue.org/5pia


[2]  مستشار اقتصادي دولي، وهو رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوري، يُنظر التعريف بالخبير: د. أسامة قاضي.
[4] تمتد هذه المناطق بشكل رئيسي في مراكز المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وغيرها من المدن السورية، وتمتد كذلك لتشمل مساحات واسعة من البادية السورية وسط وجنوب البلاد.
[5] تمتد هذه المناطق بشكل رئيسي في شمال شرق سوريا في المناطق الخاضعة لسيطرة ميلشيا “قسد”، في أرياف حلب ودير الزور ومدينة الرقة، وكذلك مناطق البادية السورية شرق الفرات.
[6] تمتد هذه المناطق بشكل رئيسي في محافظة إدلب وبعض أرياف الساحل السوري، كما تشمل كذلك مناطق متفرقة من أرياف حلب والرقة شمال سوريا.
[7] أصدر مركز الحوار سلسلة من أربعة أجزاء عن التغلغل الثقافي الايراني، تحدث الجزء الأول عن الأدوات الدينية، وتحدث الجزء الثاني عن الأدوات التعليمية والاجتماعية، وتحدث الجزء الثالث عن الأدوات الإعلامية والديموغرافية، وكان الرابع لبيان مخاطر التغلغل الثقافي الإيراني وسبل مواجهته. وبهدف استكمال مناقشة الجهود التي يمكن العمل عليها للتصدي للتغلغل الثقافي الإيراني في سوريا، أقام مركز الحوار السوري بعد ذلك ندوة حوارية بعنوان: “التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا: أدواته، مخاطره، سبل مواجهته”، بحضور عدد من المتخصصين والخبراء والناشطين في الشأن السوري يُنظر: التقرير الإعلامي للندوة الحوارية: “التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا: أدواته، مخاطره، سبل مواجهته”، وفيه تقرير الندوة وروابط الإصدارات الأربعة.
[8] أصدر مركز الحوار السوري في وقت سابق تقريراً بهدف توضيح وفهم بنية مليشيات المشروع الإيراني، سواء تلك التي استقدمتها خارجياً أو التي قامت ببنائها داخلياً، والروابط التي تجمع بينها، بما فيها التبعية العسكرية والدينية والإيديولوجية والسياسية، يُنظر التقرير بعنوان: “مليشيات المشروع الإيراني في سوريا … التصنيف والتبعية وعوامل الحشد”.
[12] سامر إلياس، “قانون قيصر”: خيارات صعبة لروسيا، العربي الجديد، 18/06/2020.
[16] بعد الحرب العالمية الثانية انقسمت ألمانيا إلى دولتين: غربية تنتمي إلى المعسكر الغربي، وشرقية تنتمي إلى المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وبينما نهضت ألمانيا الغربية عانى الشعب في ألمانيا الشرقية من وطأة النظام الشيوعي، ومنعت حكومة ألمانيا الشرقية من يريدون الهجرة والهروب من صعوبة الأوضاع إلى ألمانيا الغربية بإقامة جدار برلين وإطلاق النار على مَن يحاول العبور. يُنظر: جمهورية ألمانيا الديمقراطية.. تجربة دكتاتورية فاشلة، ألمانيا من الألف إلى الياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى