الإصداراتالقوى الدولية الفاعلة في الملف السوريالمقالات التحليليةوحدة تحليل السياسات

المقال التحليلي “قراءة في الاتهامات الروسية المستمرة للمعارضة السورية باستخدام السلاح الكيماوي”

تمهيد:

في العاشر من تموز/ يوليو من العام 2019 م أعلنت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية عن تشكيل أول فريق من نوعه لتحديد هوية منفّذي الهجمات الكيميائية التي وقعت في 9 مواقع في سوريا، من بينها مدينة “دوما” في العام 2018[1]، ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى أعلن مندوب النظام السوري في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية يوم 26 تشرين الثاني 2019 رفض بلاده مخرجات ذاك الفريق قبل صدروها، معتبراً أن تشكيله تم بشكل منقوص الشرعية[2]. وبعد صدور نتائج التحقيقات في الثامن من نيسان/ أبريل العام الجاري وتحميل النظام المسؤولية عن عدة هجمات وقعت في مدينة حماة عام 2017[3] أعلنت روسيا في بيان صادر عن وزارة الخارجية رفضها هذه النتائج، معتبرةً أن هذه الاتهامات تشكّل تهديداً لعمل المنظمة[4]. وعلى الرغم من نتائج تلك التحقيقات وغيرها من الأدلة التي توثّق استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي بشكل متكرر ضد المدنيين في سوريا؛ إلا أن روسيا رفضت مراراً هذه التحقيقات، ولم تقف عند هذا الحد؛ بل انتقلت إلى اتهام المعارضة السورية و”الفصائل المتشددة” – في أكثر من ستين مناسبة وتصريح صادر عن جهات وشخصيات رسمية – بالتعاون مع مختلف أجهزة الاستخبارات الغربية باستخدام السلاح الكيميائي أو التحضير للقيام باستفزازات كيميائية، وإلصاق التهمة بعد ذلك بالنظام السوري لاستجلاب التدخل الدولي حسب زعمها[5].

فما وراء تكرار الاتهامات الروسية؟ ستحاول المقالة المقتضبة الإضاءة على هذا السؤال.

كيماوي النظام السوري.. كيف أسهمت ادعاءات التسليم في تغطية الاستخدام الممنهج لها؟

بعد اندلاع الثورة السورية، واختيار النظام الحل الأمني والتعامل الوحشي مع المتظاهرين العزَّل بدأت تقارير صحفية غربية عدة بالحديث عن تخوُّف المجتمع الدولي من إقدام النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية، أو انتقالها إلى يد الفصائل التي تهدد أمن “إسرائيل” والولايات المتحدة، مما دفع النظام إلى الإدلاء بأول اعتراف رسمي حول امتلاكه هذه الأسلحة على لسان الناطق باسم خارجيته آنذاك “جهاد مقدسي”، إذ أوضح “مقدسي” حينها أن النظام لن يقوم باستخدام هذه الأسلحة ضد شعبه داخلياً، وأنه لن يقوم باستخدامها إلا في حال تعرُّض بلاده “لعدوان خارجي” حسب وصفه[6]، ومع التهديد الضمني الذي حمله هذا التصريح إلا أن ردود الفعل الدولية والخط الأحمر الشهير الذي رسمه الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” لم تكن كافية لردع النظام السوري عن استخدام ترسانته الكيميائية ضد المدنيين السوريين في مناسبات كثيرة؛ كان أولها في مدينة حمص في كانون الثاني / ديسمبر عام 2012م، واستمر استخدامها طوال سنوات الثورة بعد ذلك، وتحمل الذاكرة السورية عبئاً ثقيلاً من الهجمات الكيميائية ضد المدنيين وصلت إلى أكثر من 336 هجوماً كيميائياً[7] موزعاً على أغلب المحافظات السورية، كان من أبرزها وأشدها إجراماً: هجوم الغوطة في آب / أغسطس من العام 2013، وخان شيخون في نسيان / أبريل من العام  2017 ، ودوما في نيسان / أبريل من العام 2018.

وفي آب / أغسطس من العام 2013، وإثر الهجوم الكيميائي الكبير في منطقة الغوطة الشرقية توعدت الولايات المتحدة الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية كبيرة للنظام نتيجة وقوفه وراء هذا الهجوم، ثم لم تلبث الولايات المتحدة الأمريكية أن تراجعت عن تهديداتها بعد إعلان النظام عن انضمامه إلى اتفاقية حظر السلاح الكيميائي إثر صفقة روسية أمريكية تعهَّد فيها النظام بالتخلِّي عن ترسانته الكيميائية مقابل تجنيبه الضربة الأمريكية المرتقبة. وبالفعل بدأت المنظمة عملها في أيلول / سبتمبر من العام 2013، وأعلنت عن انتهاء عملها في آب / أغسطس من العام 2014 وسط مخاوف دولية وتقارير أمنية تفيد بأن قسماً كبيراً من مخزون النظام السوري من السلاح الكيميائي لم يتم تدميره، ليتبع النظام بعد ذلك تكتيكاً جديداً في استخدام السلاح الكيميائي تحت غطاء سياسي روسي ساعده على تجنُّب التعرُّض للمحاسبة الدولية.

اتهامات بأرقام وأسماء ومواقع.. محاولة لقلب الحقائق من خلال رفع التهمة عن النظام وإلصاقها بالمعارضة:

لم تكن الهجمات الكيميائية التي جاءت بعد انتهاء عمل منظمة السلاح الكيميائي في سوريا فاضحة لكذب ادعاءات النظام بتسليم كامل ترسانته الكيميائية فحسب، بل كانت أيضاً مؤشراً مهماً على الطريقة التي أدارت فيها روسيا ملف السلاح الكيميائي الموجود لدى النظام السوري؛ فمن خلال تلك الصفقة استطاعت روسيا تجنيب النظام تدخلاً دولياً يحدّ من قدرته على استخدام السلاح الكيميائي، من خلال الكشف عن بعض المواقع التي يخزن فيها السلاح الكيميائي وتسليم ما فيها، مع إبقاء كميات كبيرة منه في مواقع أخرى لم يتم الكشف عنها، وضمان تمرير استخدامه إياها فيما بعد دون التعرض “لعقاب دولي” يغيّر من التوازن على الأرض. وبعد إعلان منظمة حظر السلاح الكيميائي في سوريا عن انتهاء عملية تدمير الأسلحة الكيميائية لم تتردد روسيا في استخدام الإعلان كورقة لتبرئة النظام ونفي وقوفه وراء أي هجمات كيميائية جديدة، باعتباره قد قام بتسليم هذه الأسلحة تحت إشراف المجتمع الدولي، والانتقال بعد ذلك إلى خطوة متقدمة أخرى، وهي إلصاق التهمة بالمعارضة المسلحة و “مَن يقف وراءها مِن مختلف أجهزة المخابرات الدولية” وفق ادعاءات موسكو[8]، ورغم نفي هذه التهم والإشاعات التي تروّجها موسكو وبيان استحالة صدقها وغياب معقوليتها، إلا أن روسيا لم تتوقف أبداً عن الترويج لمثل هذه الإشاعات ورسم سيناريوهات مختلقة مزودة بالأرقام والأسماء والمواقع للإيحاء بصدق ودقة المعلومات التي لديها[9].

إضافة إلى ذلك فإن كثيراً من تلك الاتهامات التي روّجتها موسكو كانت متزامنة مع تغيرات في السياقات السياسية والعسكرية، وفيما يلي جدول لعرض هذه الاتهامات مقسمة على الأعوام، وبيان الجهات الصادرة عنها، والأطراف التي تم توجيه الاتهام إليها، إضافة إلى ذكر السياقات العسكرية والسياسة المتزامنة معها:

السياقات السياسية والعسكرية

الأطراف المتهمة

الجهات الصادرة عنها

عدد الاتهامات

العام

معارك السيطرة على مناطق إدلب / السيطرة على سراقب.

جبهة النصرة / الخوذ البيضاء / الإرهابيين.

وزارة الدفاع / مركز المصالحة / مندوب روسيا في الأمم المتحدة.

6

2020

سيطرة “هيئة تحرير الشام” على كامل إدلب عسكرياً وإدارياً / المفاوضات مع تركيا في أستانا (12).

جبهة النصرة / الخوذ البيضاء / أجهزة مخابرات غربية.

وزير الخارجية / نائب وزير الخارجية / الناطقة باسم الخارجية / وزارة الدفاع / مركز المصالحة.

8

2019

معركة السيطرة على الغوطة الشرقية / مجزرة دوما / الحملة الدبلوماسية الروسية لدفع الولايات المتحدة إلى إخلاء قاعد التنف / المفاوضات حول منطقة خفض التصعيد في إدلب / التوتر الروسي البريطاني على خلفية محاولة اغتيال جاسوس روسي.

الجيش الحر / جبهة النصرة / أحرار الشام / الخوذ البيضاء /المخابرات البريطانية / الولايات المتحدة.

الرئيس الروسي / وزارة الدفاع / وزارة الخارجية / الكرملين / مركز المصالحة / مندوب روسيا في الامم المتحدة / مندوب روسيا في منظمة حظر الكيميائي.

20

2018

مجزرة خان شيخون / الاتفاق على مناطق خفض التصعيد.

جبهة النصرة / داعش / فيلق الرحمن / شباب السنّة / تركيا.

الرئيس الروسي / وزارة الدفاع / وزارة الخارجية / رئيس الوزراء / مركز المصالحة.

18

2017

السيطرة على مدينة حلب / الهجمات الكيميائية والقصف الممنهج على حلب أثناء اقتحامها.

المعارضة المعتدلة / جبهة النصرة / داعش / الولايات المتحدة.

وزارة الخارجية / وزارة الدفاع

7

2016

اتهامات عامة عن هجمات قديمة واستفزازات متوقعة.

المعارضة / جبهة النصرة.

وزارة الخارجية / مندوب روسيا في الأمم المتحدة.

3

2014

هجوم خان العسل / مجزرة الغوطة.

المعارضة / جبهة النصرة / داعش

وزارة الخارجية / مندوب روسيا في الأمم المتحدة.

5

2013

قلب الحقائق استراتيجية إعلامية روسية متأصلة ووسيلة ابتزاز وضغط على الفاعلين:

من خلال استعراضٍ مجملٍ للاتهامات وربطها بالسياقات المرافقة لإطلاقها يبدو أن روسيا تسعى إلى قلب الحقائق وخلط الأوراق من خلال الترويج؛ وذلك لرفع المسؤولية عن النظام وتبرئته من جرم استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين السوريين، بذريعة أن النظام السوري قام بتسليم الأسلحة الكيماوية والتخلي عنها تحت أنظار المجتمع الدولي وإشرافه، وقد أشارت الاتهامات الروسية إلى هذه الذريعة بشكل مباشر في تصريحاتها[10]، الأمر الذي يمكن أن يساعد روسيا في محاولة فرض إرادتها وتقوية أوراقها التفاوضية، ويأتي هذا أيضاً في انسجام مع التركيز على وسم المعارضة بالإرهاب، مما سيؤدي إلى إضعاف أوراق المعارضة وداعميها. ولا تنفصل الاتهامات عن محاولات اختلاق الذرائع والحجج لخرق اتفاقات وقف إطلاق النار وتعطيل المسار السياسي، والتبرير لعمليات القصف والتدمير الممنهج ضد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ويبدو أن آثار الاتهامات تتجاوز فصائل المعارضة المدنية أو العسكرية إلى داعميها؛ مما يعني تشكيل أوراق ضغط ضد الدول الداعمة للمعارضة، وضد تركيا بشكل خاص باعتبارها الضامن لمسار أستانا، والمسؤولة عن ملف إنهاء الفصائل المتشددة في منطقة إدلب.

كما يساهم تكرار الاتهامات بالتشويش على التقارير الدولية والأممية التي تتهم النظام باستخدام الأسلحة الكيميائية عن طريق توجيه الاتهامات لأطراف مخابراتية دولية عدة بمساعدة “الإرهابيين” على تنفيذ هذه “الاستفزازات، ولا ينفصل ذلك بطبيعة الحال عن التشويش على التهم الموجهة ضد روسيا باستخدام المواد الكيميائية في قضية اغتيال الجاسوس الروسي “سكريبال” في بريطانيا؛ إذ وجهت بريطانيا اتهامات رسمية لموسكو بوقوفها وراء الهجوم، وسعت إلى حشد تأييد دولي لها وفرض عقوبات مشتركة على روسيا أيّدتها واشنطن[11]، ووجهت بريطانيا بعد ذلك الاتهام رسمياً إلى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” باعتباره المسؤول الأول عن المخابرات العسكرية[12]، فقد أظهرت نتائج التحقيقات وقوف اثنين من عملاء المخابرات الروسية وراء الحادث، وأُصدرت بحقهما مذكرتا توقيف[13]، ويشير مراقبون إلى أن الحراك البريطاني في تلك الفترة كان يهدف إلى الربط بين استخدام روسيا للسلاح الكيميائي مخابراتياً واستخدام النظام السوري للسلاح الكيمائي، لاسيما وأن بريطانيا في كثير من تصريحاتها أشارت إلى أن تلك العملية الروسية تُعد انتهاكاً لاتفاقية حظر السلاح الكيميائي[14]. ومن جهتها فقد قامت روسيا منذ اليوم الأول الذي وُجهت إليها فيه أصابع الاتهام بنفي مسؤوليتها عنها جملةً وتفصيلاً، واعتبار الاتهامات البريطانية لها مجرد “بروباغندا” إعلامية تهدف لندن من ورائها إلى تخريب العلاقات الروسية الغربية[15]، وبدأت روسيا بقلب الحقائق عن طريق توجيه اتهامات ضد بريطانيا وزعم قيامها بمساعدة فصائل المعارضة في “فبركة” “هجوم دوما”[16]، ثم سعيها إلى تنفيذ “استفزازات” جديدة في إدلب بالتعاون مع منظمة الخوذ البيضاء، وكانت روسيا تحاول بذلك تشتيت الاتهامات الموجهة إليها والتشويش عليها، ومحاولة قلب الحقائق ضد أطراف أخرى كبريطانيا، خاصة بعد الاتهام البريطاني للروس بالتورط في اغتيال الجاسوس الروسي على أراضيها.

ويبدو أن تعميم الاتهامات والوسم بالإرهاب واستخدام الأسلحة الكيماوية على مختلف مؤسسات المعارضة العسكرية والسياسية والمدنية سلوكٌ طبيعيٌّ متأصلٌ لماكينة الدعاية الروسية منذ عهد لينين وستالين؛ فالماكينة الإعلامية الروسية تعتمد على تحريف الحقيقة ونبذها، بل على قلبها من خلال التركيز على مقاربة أحادية الجانب تعتمد على أطروحة ورأي واحد يناقض الأطراف الأخرى[17].

الجدير بالذكر أن السياسة الإعلامية الروسية باتت أداة موجهة من أعلى مستويات صنع القرار في روسيا لتغيير الحقائق أو محاولة التأثير في مجريات الأحداث، وصولاً الى داخل الدول المستهدفة، كمحاولة التأثير في تعميق الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي والتأثير في نتائج الانتخابات الأمريكية[18].

 


[5] من المهم التنويه إلى أننا حاولنا رصد تلك الاتهامات مع تجاهل التصريحات الصادرة عن جهات إعلامية أو صحفية روسية، أو تلك التي أطلقها النظام السوري وقنواته الإعلامية لكثرتها، واقتصرنا على حصر الاتهامات الصادرة عن جهات رسمية في الحكومة الروسية، مثل رئيس الجمهورية أو وزارتي الخارجية والدفاع والناطقين باسمهما، أو مركز المصالحة، وغير ذلك من الجهات الرسمية.

[8] كثير من التصريحات الروسية جاءت مؤيدة لهذا التفسير، من ذلك مثلاً:

[17] وبحسب الباحث التركي يوسف أوزكر فإن “أهم خصائص الدعاية الروسية القذرة إنكارُ الحقيقة عياناً بياناً، وتقديم ادعاء معاكس تماماً للرأي العام”. يُنظر: كيف تعمل ماكينة الدعاية الروسية؟- مركز سيتا.

[18]  يُنظر تقرير مؤسسة راند الذي يتحدث عن الموضوع، ويضع أيضاً توصيات لمواجهة أجهزة الدعاية الروسية، خاصة مع محاولات تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الأمر الذي يؤكده التقرير، ويؤكد أن ذلك يتم بتوجيهات من بوتين بشكل مباشر:

Countering Russian Social Media Influence – RAND.

مؤسسة بحثية سورية تسعى إلى الإسهام في بناء الرؤى والمعارف بما يساعد السوريين على إنضاج حلول عملية لمواجهة التحديات الوطنية المشتركة وتحقيق التنمية المستدامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى