سبل استعادة الثقة بين الحاضنة الشعبية وقوى الثورة والمعارضة
تقرير تحليلي من إعداد وحدة التوافق والهوية المشتركة
مقدمة:
من المسلَّم به حصول تأييد الحاضنة الشعبية لأية حركة تحريرية، بغضّ النظر عن توصيفها ثورةً كانت أو احتجاجاً شعبياً أو حراكاً مسلحاً؛ إذ يُعد ذلك من الشروط اللازمة والضرورية لنجاحها. ولعل ذلك ظهر جلياً في حالة الثورة السورية، خصوصاً تراجع الحاضنة الشعبية نتيجة عوامل متعددة، منها: طول المدة، وضخامة الضربات التي تعرضت لها الحاضنة على مستوى الدمار والتشريد والتهجير واللجوء، والتراجع العسكري، إلى جانب سوء إدارة الملفات الأساسية المتعلقة بحياتها المعيشية كالمساعدات الإنسانية والأمن والخدمات.. إلخ[2].
بناءً على هذه الفرضية كنا قد استعرضنا في الإصدار الأول من هذه السلسلة وجاء بعنوان: “الثقة السياسية أم الحاضنة الشعبية: محاولة لتفسير تراجع حاضنة الثورة” مفاهيم الثقة السياسية والحاضنة الشعبية، وأوجه التشابه والاختلاف فيما بينهما وسياق كل منهما، وبحثنا في معايير قياس الرضى الشعبي في كلا المفهومين[3] .
ليأتي الإصدار الثاني بعنوان “عوامل تعزيز ثقـة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة: دراسة حالة حركتَي حماس وطالبان” ليستعرض عبر منهج مقارن تجارب عملية للعلاقة بين الكيانات المسلحة والحاضنة الشعبية؛ حيث ناقشت الورقة سبعة عوامل رئيسة أسهمت في ثقة الحاضنة الشعبية في هذه الكيانات، وهي: تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع، والالتزام القطري، والتمسك بأهداف القضية، وتوظيف النجاحات العسكرية سياسياً، وبسط الاستقرار الأمني، وحسن إدارة المناطق، والانخراط في البيئة المهيِّئة للتعافي الاقتصادي[4] .
يأتي هذا الإصدار الثالث الأخير في السلسلة للكلام على السبل والوسائل المناسبة لاستعادة الحاضنة الشعبية في الحالة السورية، ودور الأجهزة والمؤسسات القائمة حالياً من سياسية وعسكرية وخدمية في تحقيق ذلك؛ إذ إن القضية الأهم تبقى هي: الإجراءات المطلوبة من كل المعنيّين في مختلف التخصصات السياسية والعسكرية والخدمية لكسب ثقة الحاضنة.
تتمثل أهمية هذا التقرير في أنه يركز على الخطوات الأساسية التي يمكن من خلالها كسب ثقة الحاضنة الشعبية، بما يعزز أداء قوى الثورة والمعارضة من جهة، وزيادة شرعيتها الداخلية من جهة أخرى.
منهجية التقرير:
اعتمد التقرير المنهج الوصفي التحليلي الذي يقف على أبعاد الظاهرة ويحلّلها بما يساعد على الخروج بنتائج وتوصيات يمكن أن تسهم في تحقيق هدفه “تعزيز ثقة الحاضنة الشعبية بقوى الثورة على اختلاف تخصصاتها”، حيث إن هذا الإصدار يُعد مكمِّلاً للإصدارَين الأول والثاني من جهة أنه يمثل النتائج والتوصيات التي يُفترض العمل عليها.
كذلك يستند التقرير بشكل كامل إلى المصادر الأساسية المستقاة من مجموعة مقابلات معمقة أجراها فريق البحث خلال الفترة الممتدة بين كانون الأول/ديسمبر 2020 ونيسان/إبريل 2021 مع مجموعة من الخبراء والشخصيات السورية في تخصصات مختلفة، وعددها /19/ مقابلة؛ حيث تم اختيار الشخصيات وفق التقسيمات الأربع التالية:
- شخصيات لديها صلة قوية بالحاضنة ويمكن أن تعبّر عن وجهة نظرها.
- شخصيات عاملة في المجال السياسي.
- شخصيات عاملة في المجال العسكري.
- شخصيات عاملة في المجال الخدمي.
ينقسم هذا التقرير ثلاثة أقسام رئيسة؛ يقدّم في الأول توصيات للمعنيين بالمجال السياسي، وفي الثاني للمعنيين بالمجال العسكري، والثالث للمعنيين بالمجال الخدمي.
أولاً: نحو بناء الثقة بين الحاضنة والسياسيين:
أسهم السياق التاريخي والحالي في حالة ضعف الثقة بين السياسيين السوريين والحاضنة الشعبية نتيجة عوامل متعددة موضوعية وذاتية، لعل أبرزها: سياسات نظام الأسد التي سحقت العمل السياسي داخل المجتمع السوري، والتشويه أو التغييب المتعمد من قبل هذا النظام لأية شخصية سياسية يمكن أن يكون لها دور في التأثير على الرأي العام. مع ذلك يبقى من الأهمية بمكان تحديد أبرز الأدوات والسلوكيات التي يمكن أن تسهم حالياً في ردم الهوة بين السياسيين من جهة والحاضنة الشعبية من جهة أخرى، لما لهذا الأمر من نتائج إيجابية مباشرة وغير مباشرة على مسار القضية السورية برمتها.
1- تجاوُز عقدة “الداخل والخارج”: العودة من الاستثناء إلى الأصل
شكّل وجود مؤسسات الثورة الرسمية وقياداتها -خصوصاً السياسية منها- خارج الأراضي السورية قضية جدلية مستمرة بين الداخل والخارج[5]، وهو ما طرح معادلة شبه ثابتة متمثلة بعدم وجود رضا لمن هم في الداخل عن وجود الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية خارج المناطق المحررة؛ استناداً إلى أن تمثيل قوى الثورة والمعارضة يجب أن يكون منبثقاً من الداخل، بحيث تكون معايشة لمعاناة السوريين واستعداد للتضحية مثلهم، وانطلاقاً من صفوفهم للتفاوض باسمهم يساعد -قدر المستطاع- على تجاوز الضغوط التي قد تمارسها الدول في الخارج عليهم، كما هو الحال حالياً[6]؛ كل هذه الأسباب جعلت من الإقامة في الخارج معياراً سلبياً طاغياً على أية معايير أخرى -كالكفاءة والإخلاص- في نظر السوريين[7].
في المقابل يرى البعض أن الظروف الموضوعية هي التي فرضت نفسها وأدت لهذه الحالة “الوجود في الخارج” التي تنافي القاعدة الأصلية؛ مما يفرض ضرورة الوجود في الداخل بمجرد انتفائها، وهذا ما يحدث حالياً[8]، وأن بعض قيادات الخارج كانت مهددة من القوى العسكرية في الداخل، كما أن المشكلة الحقيقية تكمن في تكامل الأدوار والمشروع الواحد، وليس في ثنائية الداخل والخارج، والدليل أن بعض الثورات قُيّدت من الخارج، وأخرى قُيّدت من الداخل وفشلت[9]، كما أسهم وجود شخصيات في الخارج في تأمين الدعم والمناصرة لبعض القطاعات التي تحققت لها نجاحات متعددة، خصوصاً في مجالي التعليم والصحة[10].
تدريجياً ترسخت قناعة الانتقال نحو الداخل، خاصة في السنوات الأخيرة؛ انطلاقاً من قاعدة أن الوجود في المناطق المحررة يشكّل حجر أساس لتمثيل القضية السورية والدفاع عنها[11]، وأن مَن لا يستطيع الحضور في الداخل عليه أن يتنحى عن المهمة[12]، وقد توجه بالفعل كلٌّ من الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة بخطوات للانتقال نحو الداخل؛ إلا أنه حتى على مستوى الداخل كانت ثمّة إشكالية عدم قَبول بعض الجهات بوجود مؤسسات تراقبه، وذلك رغبة من البعض في الحفاظ على مكتسباته على حساب التنظيم والمأسسة[13].
وهو ما يطرح معه سؤال مهم حول المطلوب لاستثمار هذا التوجه الجديد، والذي يمكن أن يتمثل بـ:
- يجب أن تكون خطة الانتقال فعّالة من حيث القدرة على تحسين حياة الناس أكثر، بما يشمل الارتقاء بإدارة المناطق المحررة وحوكمتها، وتحقيق تواصل أكبر مع قوى الثورة، وليس فقط الاكتفاء بالوجود الفيزيائي في الداخل[14].
- أن تتأسس فلسفة الانتقال بالمؤسسات إلى الداخل على قاعدة أن الأصل هو الإقامة في الداخل، والاستثناء هي زيارات الخارج؛ وليس العكس.
- الانتقال بمهام هذه المؤسسات لتصبح مؤسسات حكم وإدارة تتصدى للمهام الرئيسة كهيكلة الجيش الوطني والمكاتب الأمنية، بدلاً من ممارسة دور الـمُشاهِد وتوزيع العضويات كسباً للولاء والرضى الذي لن يُدرَك بهذا الأسلوب[15].
- إيجاد خطة عمل تستفيد من كافة الطاقات والقدرات والكفاءات في الداخل والخارج كل بحسب مكانه، بحيث يكون المعيار هو: الولاء للقضية السورية، وليس مكان الوجود “داخل وخارج”[16].
2- التوازن في العلاقات الخارجية: التحوُّل من التبعية إلى الشراكة والتعاون
تمثّل علاقات مؤسسات الثورة مع القوى الدولية المختلفة إحدى أهم القضايا التي تنتقدها أصوات الحاضنة في الداخل؛ إذ تُتهم هذه المؤسسات بالتبعية للأجندة الخارجية بحيث تُصنف المعارضة بحسب تبعيتها[17]، ويعتقد البعض أن جميع هذه المؤسسات لا تمتلك قراراً مستقلاً، وذلك نتيجة ميل كفة الارتباطات الأخرى على حساب الارتباط بالحاضنة ومصالحها[18].
في الآونة الأخيرة كثيراً ما يتم الحديث عن تبعية قوى الثورة والمعارضة لتركيا تحديداً؛ بحكم العلاقة التي تربطها مع المؤسسة السياسية الأساسية “الائتلاف الوطني”. من هذا المنطلق، ولتجاوز هذه الإشكالية أُثيرت عدة حلول، من أبرزها:
1- ضرورة بناء العلاقة مع الدول الحليفة -بما فيها تركيا- على قاعدة المصالح، وتحديد المصالح المشتركة ذات الأولوية وفق قاعدة الشفافية مع الحاضنة، إلى جانب العمل على الجوانب التي لا تمثل مصالح مشتركة من خلال لجان وخطط من أجل التعاطي معها بما يخفف من آثارها السلبية.
2- أهمية توسيع دائرة العلاقة مع الدولة التركية، وعدم حصرها فقط بالحزب الحاكم؛ للابتعاد عن مخاطر تغييرات السلطة السياسية التركية، والابتعاد عن فكرة التبعية لصالح أفكار الشراكة والتعاون[19].
- إخراج الائتلاف الوطني من الاستقطاب الدولي؛ حتى لا يُحسب منصة لتحقيق مصالح خارجية، ويصبح ورقة بيد الدول، كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي بذلت جهوداً كبيرة للتخلص من هذا الاستحواذ[20].
3- اكتساب الشرعية: إعادة تحديد البوصلة
تُعد كل من الشرعية الداخلية والخارجية للأنظمة السياسية أو حتى “القيادة الثورية” أمراً غاية في الأهمية، لكن عند الترجيح وترتيب الأولويات تصبح الشرعية الداخلية (الوطنية) بلا شك أولى من الشرعية الخارجية؛ حيث يرى البعض أن امتلاك نسبة ضئيلة من الشرعية الداخلية أهم بكثير من امتلاك اعتراف خارجي، لاسيما في الثورات؛ لأنه يُفترض أن تكون العلاقة قوية مع الشعب وضميره، فضلاً عن أن امتلاك الشرعية الداخلية هو العامل الأساس لبناء علاقات خارجية متوازنة، ودونها تفقد المؤسسات قيمتها لدى “الغير”[21]، ومن هنا فإن الإشكالية تتمثل بأن المعارضة نظرت إلى التوافقات الدولية وإرضاء الدول، من دون النظر إلى تثقيل أوراقها بالرضى الشعبي[22].
وبطبيعة الحال يتطلب الحصول على التأييد الشعبي -وهو في حالة الثورات يتجسد بمفهوم “الحاضنة الشعبية”- اتباع سلسلة طويلة من الأدوات المناسبة، كالاستعداد للتضحية والتمسك بالمبادئ وتقديم الخدمات[23]، من جانب آخر تمثل مجموع الخطوات التي استُعرضت تباعاً خريطة عملية لكسب التأييد.
4- العلاقة بين السياسي والعسكري: التكامل المفقود
تقوم القاعدة السليمة والطبيعية للعلاقة ما بين الجانبين العسكري والسياسي بتبعية السلاح للقرار السياسي؛ إذ إن الهدف من المقاومة المسلحة هو تحقيق هدف سياسي، ويؤدي عكس ذلك إلى الفشل وهو ما حصل في الحالة السورية[24]؛ فقد عانت الثورة بشكل كبير من تبعات انفصال جناحيها عن بعضهما بعض، بسبب “فصام نكد” لم تستطع الثورة معالجتَه خلال السنوات السابقة[25]، على الرغم من عضوية الفصائل منذ 2013 في الائتلاف، ومشاركتها في محطات مفصلية في الجانب السياسي رغم تبرؤها منه؛ فعلى سبيل المثال: كانت بعض الفصائل هي مَن رجّحت كفة قرار المشاركة في جنيف 2014، وهي التي شاركت بفعالية في مسار أستانة[26].
بشكل عام يعود غياب التكامل بين الجانبين لأسباب عديدة، منها؛ جهل بعض القيادات العسكرية وسذاجتهم[27]، واستعلاؤهم على السياسيين بسبب امتلاكهم القوة، إلى جانب الانهيارات السياسية التي عصفت بـ “مشروع” قوى الثورة والمعارضة، وأثبتت فشلَ مؤسساتها السياسية والعسكرية[28]، ومراهنة السياسيين على الحل من الخارج[29].
لذا فإنه لابد من السعي لإيجاد معادلة تقوم على التكامل بين السلاح والمشروع السياسي، بحيث ينعكس فيها مقدار ما يتم تحقيقه من إنجازات عسكرية مباشرة على الملف السياسي[30].
5- تمثيل “المؤسسات السياسية الرسمية”: بين الحلول الإصلاحية والجذرية
فقدت الثورة الكثيرَ من شعبيتها وألقها واهتمام الناس بها وثقتهم فيها نتيجة الأداء السيئ للقوى السياسية والعسكرية، وانتشار الفساد في المناطق المحررة[31]، ويرى البعض أن الشروط المطلوبة بالتمثيل -حتى يُعد تمثيلاً شرعياً- هو أن يكون حقيقياً وفاعلاً وعادلاً للمكونات الاجتماعية والسياسية والعسكرية الحاضنة للثورة السورية[32]، فعلى سبيل المثال: يعاني الائتلاف -كمؤسسة حازت في فترة من الفترات على شرعية تمثيل الحاضنة الشعبية- من اهتزاز كبير في شرعية تمثيله، لدرجة أن البعض يراها معدومة تماماً[33]، وتبدو أسباب انخفاض شرعية التمثيل عديدة، من أبرزها: عدم تواصل السياسيين مع الناس بشكل حقيقي[34]، وفقدان ثقة الحاضنة بالقيادات بشكل مطلق.
في مقابل ذلك يرى البعض أن الائتلاف سعى لتوسيع شرعيته عبر أدوات متعددة، منها: اتخاذ قرارات توسيع مشاركة كل مَن كان في صفوف قيادته الرسمية في فترة من الفترات، والاستمرار بالآليات التشاورية في الداخل[35].
كما سعى الائتلاف عبر التغييرات التي قام بها في الآونة الأخيرة لزيادة شرعيته عبر إعادة النظر في نظام التمثيل؛ إلا أن محاولته كانت لها نتائج عكسية لأسباب متعددة، منها: الثغرات القانونية التي اعترت عملية التغيير، وعدم الشفافية في دوافع التغييرات ومآلاتها، والتركيز على الأشخاص بدلاً من تغيير الآليات والقواعد، لتظهر العملية بالمجمل وكأنها تصفية حسابات بين تيارات وشخصيات أكثر منها عملية “إصلاح” حقيقية[36].
تنقسم الحلول المطروحة والمطلوبة لاستعادة التمثيل بين وجهتَي نظر إصلاحية وجذرية؛ فأما الإصلاحية فأبرزها:
- الالتفاف حول مشروع جامع يلتزم بمبادئ الثورة[37].
- تقديم خدمات حقيقية للجمهور.
- ضرورة تمثيل طيف واسع من الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمجاميع الثورية وصولاً للمناطق والمجالس المحلية، بما يسدّ ذريعة عدم التمثيل[38].
- مشاركة السوريين في القرارات وبشكل رئيسي قادة الرأي؛ بحيث تحصل المؤسسات على أكبر دعم وتأييد لها[39]، عبر إقامة فعاليات موجهة للجمهور في الداخل من أجل وضعهم في آخر المستجدات والاستماع لوجهات نظرهم.
- وجود شخصيات جديدة، وتطبيق مبادئ جديدة في العلاقة بينها وبين الحاضنة تقوم على الشفافية والحوكمة[40].
وأما وجهة النظر الجذرية فتنطلق من فرضية انعدام الثقة بالمؤسسات السياسية الحالية؛ وبالتالي فهي ترى أن شرعية التمثيل لا يمكن استعادتها، وهو ما يتطلب تغييراً جذرياً من خلال إتاحة المجال لقيادات شبابية لتولي زمام الأمر[41]، إلى جانب بناء تيار شعبي ضاغط[42].
6- أولوية وجود الخطوط الحمراء: الفصل ما بين التفاوضيّ وما يسمو عليه
تقتضي حماية مبادئ الثورة والتمسك بها -بحسب البعض- ضرورة وجود تمييز واضح ما بين المساحة التي يمكن للقوى الرسمية المناورة بها وتلك المحرمة التي لا يمكن الخوض فيها لأي أحد؛ فعلى سبيل المثال: يجب أن تكون القضايا الإنسانية كملف المعتقلين ووقف إطلاق النار خطوطاً حمراء تتصدر الشروط التفاوضية ولا يمكن التنازل عنها لمصلحة قضايا دستورية عقيمة[43]، وترتبط إشكالية عدم وضوح الخطوط الحمراء بخلفية الأولويات لمعظم الشخصيات القيادية؛ فيرى البعض أنها قد خضعت لتأثير “الجهة الداعمة” في كثير من الأحيان، وأسهم ذلك في تنازل الهيئات السياسية تدريجياً من مطلب التفاوض على هيئة الحكم الانتقالية إلى حصره في مواعيد جلسات نقاش دستورية[44]، فهذا التنازل نجم عن التماهي مع الحلول السياسية (إقليمية -دولية) دون عائد، فخسرت الثورة نتيجة هذا السلوك الكثير من سقوف مطالبها مجاناً[45]، الأمر الذي خلّف شعوراً لدى الحاضنة أن قوى المعارضة تمضي في مسار يمدّ حبل الخلاص للنظام، وأنها تدخل في خطوات قد تؤدي إلى مصالحة بين مَن يمثّل قوى الثورة والمعارضة من جهة ونظام الأسد من جهة أخرى، من دون إحداث نقلة سياسية وعملية انتقالية وفق القرار الأممي 2254[46].
في المقابل عدّ آخرون أن السياسيين لم يتنازلوا عن الخطوط الحمراء، وأن ما قامت به المعارضة السياسية هو عبارة عن مناورات تستجيب لضغوط الظروف الدولية التي تؤكد ضرورة عدم غياب المعارضة عن المشهد ريثما يتم التوصل لحل نهائي[47]، وهو ما يشابه ما حصل مع القوى العسكرية التي اضطرت بعد سقوط حلب -على الرغم من تضحياتها- إلى القبول بهدنة مؤقتة تحت ضغط ظروف معينة، مع الإشارة هنا إلى الارتباط الدائم بين الملفين العسكري والسياسي[48].
وفي هذا السياق يذهب رأي إلى أن التمسك بالخطوط الحمراء قد لا يسهم في كسب الرضا الشعبي حالياً، بل أصبح تأمين الخدمات هو العامل الأهم، وبالتالي ركّز النظام وحلفاؤه على تدمير البنية التحتية لتأليب الحاضنة ضد المؤسسات القائمة[49].
ثانياً: نحو بناء الثقة بين الفصائل والحاضنة:
على الرغم من التأييد الذي حظيت به الفصائل العسكرية في بداية انطلاق العمل المسلح دفاعاً عن المدنيين؛ إلا أنه مع اتساع هذه الفصائل وسيطرتها على الأراضي ظهرت الكثير من الأخطاء والتجاوزات والإشكاليات الجوهرية أدت لنتائج عكسية، الأمر الذي يتطلب إجراءات سريعة من الواجب على الفصائل السورية العمل عليها لاستعادة الحاضنة:
1- الاستراتيجية العسكرية: ضرورة الرؤية
أظهرت التراجعات العسكرية التي تعرضت لها فصائل الثورة السورية افتقادها لاستراتيجية عسكرية واضحة، لاسيما بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في أواخر عام 2015؛ إذ لم تستطع الفصائل العسكرية التعامل مع العمليات العسكرية الروسية، لتنحصر هذه الفصائل في جيب ضيق في الشمال السوري.
ولتجاوز هذا الواقع يُفترض العمل على إعداد استراتيجية عسكرية من شقين: الأول مؤسساتيّ: يفترض وضع رؤية لإنهاء الحالة الفصائلية بشكل فعلي، وإنشاء مؤسسة عسكرية احترافية. والثاني عمليّ: من خلال وضع تصوُّر عام لتنظيم العمل العسكري، وإعداد وسائل متعددة للتعاطي مع الواقع الحالي، من جهة التفكير بإمكانية القيام بعمليات عسكرية خلف الخطوط، أو القيام بعمليات أمنية داخل مناطق نظام الأسد، أو القيام بعمليات خاطفة الهدف منها رفع التكلفة العسكرية على نظام الأسد وحلفائه[50].
2- تجنُّب الصراع على الموارد: مأسسة تقاسم الموارد
دفعت الحاجة إلى الدعم الذي يحتاجه العمل العسكري كثيراً من الفصائل للتفكير بطرق خاصة للتمويل ومحاولة تأمين دعمها بعيداً عن الدعم الخارجي؛ إما من خلال الاعتداء على فصائل أخرى، أو من خلال الصراع على الموارد الموجودة كالسيطرة على المعابر. وفي هذه الحالة فإن الثقة تُفقد وتتحول طبيعة العلاقة إلى العدوانية في أصلها بين هذه الأجسام، وبالتالي نراها تحولت من الهدف الأساسي الذي وُجدت من أجله -وهو محاربة النظام- إلى المحافظة على كياناتها، والسعي لتوسيع نفوذها ولو كان ذلك على حساب القضية وأرواح الحاضنة.
لتجاوز هذه الإشكالية يفترض تركيز الفصائل على أهدافها وخططها العسكرية، وتسليم الموارد المرتبطة بالحاضنة كالمعابر وغيرها إلى جهات مدنية موثوقة، تقوم بدورها في توزيع حصص مناسبة للفصائل بحسب الكفاءة والاحتياج، وبالشكل الذي يحفظ حقوق الحاضنة والمدنيين ابتداءً.
3- عدم التدخل في الجانب الخدمي: نحو التخصص
يصعب في حالة الثورات الفصل الحدّيّ بين الجانبين المدني والعسكري، وهو ما حصل منذ فترة مبكرة من عمر الثورة السورية؛ فقد بدأت الفصائل العسكرية تتدخل بشكل تصاعدي في الجانب المدني[51]، فلم تكتفِ بالتركيز على عملها العسكري فحسب، بل انخرطت في العمل السياسي والمدني، بدعوى أنها يُفترض أن تمثّل مشروعاً كاملاً، فحمّلت نفسها أعباء خدمية تفوق نطاق قدراتها، وتخرجها عن أصل مهامها[52].
يعتقد البعض أن الفصائل انخرطت في الجانب المدني[53] لأسباب موضوعية؛ كضمان توظيف أشخاص مؤيدين للثورة في المؤسسات الخدمية، وإيجاد البديل الفوري للخدمات، خصوصاً النظافة والمياه، والمساهمة في بناء مؤسسات مدنية قوية، لاسيما في ظل ضعف إمكانيات المجالس المحلية والمنظمات الإغاثية نتيجة الحاجة المتضخمة بشكل دائم[54]، ولأسباب ذاتية؛ مثل سعي غالبية الفصائل لربط الحاضنة بها، بحيث تتمكن من العمل والحركة ضمن وسط مؤيد أو متعاطف معها نتيجة الخدمات المقدمة[55].
بشكل عام أدى هذا التوجه إلى إشكالات مزدوجة عسكرياً ومدنياً، وألقى بآثار سلبية على الخدمات التي كانت الجهات المدنية أكثر قدرة على النجاح فيها فيما لو أتاحت لها الفصائل ذلك، أما حالياً فعلى الرغم من اختفاء صور إنشاء الفصائل العسكرية المؤسسات المدنية كما كان سابقاً فما تزال بعض صور التدخل غير المباشرة موجودة، مثل: ترشيح أسماء لعضوية المجالس المحلية، وتوظيف بعض كوادرها في منظمات المجتمع المدني.
يفترض بالفصائل التركيز على مهامها العسكرية، وعدم التدخل في الشأن المدني، كيلا تُعاد تجربة الماضي الذي ثبت فشله بغضّ النظر عن سياقاته؛ فالمطلوب من الفصائل أن تركز على مهمتها الأساسية التي تبدأ من حدود المناطق المحررة وليس داخل المدن والقرى، وتخفيف الاحتكاك بالحاضنة الشعبية، وجعل قضية ضبط الأمن منوطة بالشرطة والمحاكم[56]، وحتى إذا أرادت الفصائل تقديم الخدمات فيجب أن يكون ذلك عبر المجتمع المدني والمؤسسات المدنية، وليس بصفتها حاكمة عسكرية للمنطقة[57].
4- ضبط الأمن: أسّ المهمات
الحفاظ على الأمن من أولى الأولويات للحفاظ على الحاضنة الشعبية، وضمان وقوفها جنباً إلى جنب مع الكيانات المسلحة؛ فقد اعترى الملف الأمني ثغرات متعددة بسبب الحالة الفصائلية وتعدد المرجعيات وغياب التنسيق فيما بينها، وضعف الخبرات، وعدم تبادل المعلومات الأمنية[58].
من الحلول المطروحة لتعزيز الأمن في المناطق المحررة: الانتقال من المفهوم الأمني الخاص بالفصيل إلى المفهوم الأمني الخاص بالأمن العام والحاضنة الشعبية، وحماية المجتمع ككل والممتلكات العامة، إلى جانب ما يلي:
- الاندماج الكامل: تشكيل جهاز أمني وطني عام وموحد؛ ويمثل ذلك أعلى مستويات التنسيق والاندماج[59].
- التنسيق الدائم الكامل: تبادل المعلومات والتنسيق البيني بين أمنيات الفصائل[60].
- التنسيق الجزئي الدائم: التنسيق في قضايا محددة فقط ”التنسيق الدائم الجزئي”، مثلاً كالتنسيق في ملف الدواعش أو في ملف السرقات والاغتيالات.
- التنسيق الجزئي المؤقت: التنسيق المؤقت في قضايا محددة؛ وهذا أدنى مستويات التنسيق.
5- تجنب الاقتتالات الداخلية: طمس الثقب الأسود
كانت الاقتتالات الداخلية نقطة تحوُّل كبيرة في مسار الثورة السورية وفي العلاقة مع الحاضنة، لاسيما وأنه في تلك المرحلة أصبح السلاح مُوجهاً إلى الجبهة الداخلية وإلى أبناء الحاضنة أنفسهم، وتبيّن وكأن هذه الاقتتالات هي عبارة عن تجاذبات دولية امتدت إلى الداخل[61]، وكانت وما تزال آثارها مدمرة. لذلك فإن من الواجب السعي لاتخاذ إجراءات وقائية وعلاجية -إن صح التعبير- لمنعها، مثل: إيجاد جهة مرجعية أعلى من الفصائل قادرة على إيقاف كل أشكال الاعتداء الفصائلي، والاحتكام إلى القضاء مباشرة في حال حدوث أي اعتداء، وتطبيق عقوبات صارمة بحق المعتدين، إلى جانب إيجاد نوع من “لجان الحقيقة” لكشف خفايا بعض الاقتتالات التي حصلت، إن لم يكن بهدف تحديد المسؤول وإغلاق الملف فمن أجل أخذ الدروس المستفادة حتى لا تتكرر مرة ثانية[62].
6- الشفافية مع الحاضنة: خطوة نحو الحوكمة
يفترض أن يكون استخدام العمل العسكري في سياق الثورة مبرراً شعبياً ووطنياً وقانونياً، وأن تشعر الحاضنة أنّ اللجوء إليه ما هو الإ للدفاع عنها، فقبل بدء أيّ معركة عسكرية يبقى الركن الأساسي هو التأييد الشعبي[63].
في الحالة السورية اتخذت الفصائل العسكرية الكثير من القرارات العسكرية دون أن تضع الحاضنة الشعبية بصورة الأمر ومآلاته، حتى بعد انتهاء مفاعيل تلك القرارات؛ مما جعل الحاضنة منفصلة تماماً عن الفصائل وعما يفعلونه ويخططون له، وحتى عن الصعوبات التي يواجهونها؛ فالحاضنة تطالب أن يكون هناك جزءاً من الشفافية، الشفافية التي لا تقتضي الكشف عن الأسرار العسكرية، وأن تكون على اطلاع كامل على الحقائق وتفاصيل الأحداث، وهذا جزء من حقها[64]؛ لأنها هي مَن تُضحي وتتحمل الجزء الأكبر من تبعات الأعمال والقرارات العسكرية التي تقوم بها الفصائل.
من هذا المنطلق يفترض بالكيانات العسكرية أن تُقدم صورة واضحة للحاضنة، بحيث تسمع أجوبة صريحة وحقيقية حول موقف الفصائل وواقعها طالما لا يترتب على ذلك مخاطر أمنية، ومن دون أن يصل الأمر إلى إفشاء العسكرية[65]؛ كل ذلك حتى تُحفظ أرواح الناس قدر الإمكان، وحتى تشعر الحاضنة أنّها ما تزال جزءاً من الثورة والقضية، وأنّها ليست جزءاً جانبياً لا يتم الاكتراث له[66].
إذا توفرت الشفافية بين الحاضنة الشعبية والفصائل العسكرية انعكس ذلك إيجاباً؛ لأنّ الحاضنة في هذه الحالة ستكون أقرب إلى فهم معاناة العسكريين والصعوبات التي تواجههم والإمكانيات التي بحوزتهم، وبالتالي سيكونون داعمين لهم في كل مواقفهم.
7- التكامل مع السياسيين: من الشكلية إلى الفعلية
شابت العلاقات بين السياسيين والعسكريين كثيرٌ من الشوائب على مستوى قلة التنسيق وصولاً إلى التخوين، منذ بداية الثورة السورية وحتى أواخر عام 2015 الذي شهد أول بيان مشترك بين الفصائل والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة[67].
على الرغم من مشاركة ممثلي الفصائل العسكرية في مؤتمرَي الرياض1 و2 وحضور ممثليهم في الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض السورية وقبلها في هيئة المفاوضات العليا بقيت العلاقة بين الطرفين مصلحية وآنية، وبالتالي لم يكن هنالك نجاح فعلي وحقيقي في مجال التنسيق والتكامل بين الطرفين[68].
من المُفترض أن يكون هناك توافق عسكري سياسي في سبيل إنشاء مشروع بديل قادر على الإقناع في المحافل والمسارات الدولية، عبر إصلاح الأجسام السياسية ودعمها، وإنشاء غرفة مشتركة سياسية عسكرية للتنسيق بين الطرفين كمرحلة أولى، في سبيل الوصول إلى الحالة المثالية المطلوبة وهي: تبعية العمل العسكري للقرار السياسي.
8- مكافحة الفساد: تفعيل المحاسبة
لعل سيطرة الفصائل على المناطق المحررة وعلى مواردها أعطاهم القدرة على التحكم بممتلكات الناس؛ فبدل أن يكونوا عوناً لهم صاروا عبئاً عليهم في كثير من الأوقات، ابتداءً بالامتيازات الفصائلية والمحسوبيات، إلى إنهاك الناس بالأتاوات والتحكم بأسعار الوقود وبعض المستلزمات الأساسية. وأصبح لدينا منظومة فساد -إن صح التعبير- ضمن الجسم العسكري نفسه، وتكوّن لدى الحاضنة صورة ذهنية، وهي: أنّ بعض العسكريين متسلطون، وأنّ الفصائل تعيش حالة من الطفيلية أو التطفل على موارد الحاضنة وأرزاقها، وهي لا تقوم بتقديم أية خدمة، وكأنها أصبحت نُسَخاً مصغَّرة عن النظام الذي ثار عليه الناسُ أولَ مرة[69].
والمطلوب لتغيير تلك الصورة الذهنية هو معالجة الفساد وكفّ أيدي الفاسدين، وردّ الحقوق إلى أصحابها، وإنهاء المحسوبيات والامتيازات الفصائلية، والقضاء على الظلم[70]، وتفعيل المحاسبة لمن يقوم بارتكاب التجاوزات؛ وهو ما يتطلب وجود قضاء قوي ومستقل قادر على المحاسبة، يبدأ بآلية سليمة لتعيين المؤسسة القضائية العسكرية وحمايتها من الإفساد[71].
9- اقتران الأقوال بالأفعال: الابتعاد عن الشعاراتية
رفعت غالبية القوى العسكرية شعارات تمثل الحاضنة، كالالتزام بمبادئ الثورة وقيمها، والسعي لاستعادة الوطن وتحقيق الحرية والكرامة؛ إلا أن العبرة ليست بالشعارات بقدر السلوك والأفعال على الأرض، إذ يفترض تطابق الشعارات مع الأفعال.
وقد وجدت الحاضنة أن بعض الفصائل قد تستّرت بشعارات وطبّقت عكسها عملياً[72]، ساعيةً فعلياً لمشاريع فكرية وعشائرية ومناطقية وأممية عابرة للحدود تخالف شعاراتها الوطنية التي ترفعها[73]، لدرجة أصبحت معها النظرة العامة أنّ الفصائل فشلت في تطبيق أدنى جزء من الشعارات والرؤى التي تثبتها في بياناتها ومواثيقها[74].
لذلك يبدو من المهم أن تكون الشعارات المرفوعة مدروسة وغير ارتجالية، وأن تكون معيارية للممارسة بحيث تحكم كل التصرفات والممارسات التكتيكة والاستراتيجية، وأن تكون متناسبة مع المرحلة والإمكانيات معاً.
10- معايشة هموم الحاضنة:
ضمن موجات النزوح والظروف المأساوية التي تعيشها الحاضنة أصبح معظم اهتمامها منصبّاً على الأمن والخدمات، وفي حال نقص الإمكانيات ومحدودية الموارد فإن الحاضنة لن تسأل العسكريين أو تلومهم عندما تراهم يعيشون ظروفها ويقاسمونها مأساتها[75]، ولكن ما يُغضب الحاضنة هو أنّه على الرغم من صعوبة ظروفها فإن العسكريين يتسلطون على المدنيين بدلاً من خدمتهم، ولعل ذلك نتيجة حالة القوة التي يمتلكها العسكري الذي يحول العلاقة إلى “سلطة وأتباع”[76].
من هذا المنطلق يفترض أن تسعى الفصائل لأن تكون في خندق واحد مع الحاضنة، لا أن يصبح الالتحاق بفصيل عسكري ميزة إضافية لتأمين مستوى معيشي أفضل، إلى جانب التواصل مع الحاضنة بالوسائل المختلفة، سواء الإعلامية أو الاجتماعات … إلخ؛ فحينما تجد الحاضنة أنّ هذه الفصائل تستشعر معاناتها وتتألم لألمها وأنّها جزءٌ لا يتجزأ منها فلا شكّ أنّها ستقف بجانبها تدعمها.
ثالثاً: نحو بناء الثقة بين المؤسسات الخدمية والحاضنة:
على الرغم من أهمية البعدين السياسي والعسكري في الثورة السورية إلا أن انسحاب “المؤسسات الرسمية” تطلّب من قوى الثورة إدارة الملف الخدمي في الحيز الجغرافي المحرَّر من سيطرة نظام الأسد، وإيجاد بدائل فعلية لهذه المؤسسات. وهذا ما حدث على مدى السنوات الإحدى عشرة السابقة؛ حيث تشكلت العديد من المجالس المحلية والأجهزة الخدمية المركزية، غير أن مسيرتها شابتها عدةُ تحديات جعلت علاقتها مع الحاضنة الشعبية محل تأرجح وتوتر في غالب الأوقات، الأمر الذي يتطلب القيام بعدة إجراءات تسهم في تجاوزها:
1- ترسيخ الانتخاب ونظم الإدارة:
خلال سنوات الثورة السورية وفي جميع المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد برزت المجالس المحلية باعتبارها التنظيم الإداري الأهم لهذه المناطق، ولعبت دوراً مهماً في تقديم الخدمات، وقد ارتبطت علاقتها مع الحاضنة بعاملَين اثنين: الأول، هو أسلوب إنشائها، والثاني: هو كيفية نشاطها الوظيفي ومدى حوكمته.
فأما على المستوى الإجرائي: فقد تشكلت المجالس المحلية وفق أحد أسلوبَين رئيسَين: الأول: وهو استثنائي؛ وفيه يتشكل المجلس عبر الانتخاب، كما حصل في تجربة بعض مجالس الغوطة الشرقية سابقاً. والثاني: وهو الغالب؛ وفيه يتم التوافق بناء على اعتبارات عشائرية وفصائلية وعائلية داخل البلدة أو المدينة، مما كان يسهم في غياب الكفاءات[77].
أما على مستوى الحوكمة: فقد نجحت بعض التجارب في تطبيق الانتخابات والنظم الإدارية مع وجود شفافية وهيئات رقابية، إضافة إلى تعاونها مع مجلس المحافظة بحسب اللائحة الداخلية لوزارة الادارة المحلية في الحكومة المؤقتة[78]، في حين أن القسم الأكبر منها لم يلتزم بالشفافية المالية، ولم يخضع لقواعد الرقابة والمحاسبة والمساءلة، إلى جانب غياب مشاركة المواطنين آراءهم بالخدمات المقدمة[79]، كما ظهرت أنماط جديدة للتجارب المحلية في مناطق العمليات الثلاث “درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام”؛ حيث أصبح المجلس المحلي أشبه بدولة مستقلة، يديره أبناء المنطقة -حصراً- الذين يشكلون عادة نصف المقيمين[80]. وقد أدى ذلك إلى ظهور نمط جديد ضمن الإدارة المحلية في المناطق المحررة، بعيد عن نطاق اللامركزية الإدارية، ويدخل ضمن تكريس مفهوم “الدويلات المستقلة” في كل الجوانب، أو ما يُعرف بالدولة القرية “Village State” للتعبير عن حالة الفوضى التي تكتنف الإدارة المحلية[81].
لقد انعكس هذان العاملان على علاقة المجلس مع الحاضنة؛ حيث تكون العلاقة إيجابية في حال وجود شرعية انتخابية، وابتعاد في الوقت نفسه عن التحزب والفصائلية، وتطبيق نظم حوكمة أكثر منطقية وبعيدة عن حالة الفوضى، وتأمين الحد الأدنى من الدعم، وتغدو أكثر توتراً عند غياب هذه العوامل.
ولذا فإن إحدى أهم التوصيات للعاملين في المجال الخدمي والمجالس المحلية هي: الحرص على تشكيل المجالس المحلية بناء على الانتخابات والكفاءة، بحيث تكون الحاضنة بمختلف مكوناتها هي المشارك في هذه العملية، مع ضرورة إشراك جميع السوريين المقيمين في الوحدات الإدارية -بما في ذلك النازحين- في هذه الانتخابات[82]، وإيجاد نوع من المركزية أو التنسيق في الملفات ذات البعد المركزي كالتعليم.
2- إدارة التمويل الذاتي والدعم الخارجي:
تتعدد مصادر التمويل التي يمكن من خلالها تمويل الخدمات في المناطق المختلفة، وتنقسم بشكل رئيسي إلى نوعين: الأول: التمويل الذاتي، ويأتي في مقدمتها موارد المعابر الحدودية والرسوم، والثاني: الدعم الخارجي، الذي يأتي عبر المنظمات الدولية والمحلية بشكل رئيس.
بالنسبة إلى مصادر التمويل الذاتية تفتقد الأجهزة الخدمية لتحكم فعلي بالمعابر بوصفها مصادر ذاتية للتمويل، فهي تخضع للفصائل العسكرية التي تأخذ النصيب الأكبر منها، مع إعطاء نسبة قليلة منها للمجالس المحلية[83]. أما بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجية فتشكو المنظمات بداية من التعقيدات التي تواجهها أثناء تنفيذ المشاريع[84]، إلى جانب النسب المفروضة والمقتطعة من بعض جهات الحكم، كما هو الأمر في حالة “حكومة الإنقاذ” الذراع المدني لـ “هيئة تحرير الشام-هتش”[85].
في المقابل يرى البعض أن ثمّة تغوُّلاً من بعض منظمات المجتمع المدني والهيئات المستقلة، وتضخماً في صلاحياتها يسهم في إفشال عمل الحكومة السورية المؤقتة[86]، والمساهمة في الخلل الواقع في منظومة الرواتب والأجور من جهة دفع الكفاءات لترك العمل في المؤسسات الحكومية والوزارية، والتوجه إلى العمل مع المنظمات نظراً لأن رواتبها أكبر؛ وهو ما جعل هذه المنظمات تقاوم خطوات الإشراف والرقابة والحوكمة[87]، وأصبحت النظرة العامة لها على أنها مؤسسات ربحية تخضع لسياسات المانح أكثر منها لمقتضيات مصلحة الناس[88].
بناءً على ما سبق: يصبح من الضروري تنسيق الدعم عبر جهة واحدة؛ لـِمَا لذلك من أثر وفاعلية أكبر في تقديم الخدمات، إلى جانب ضرورة معالجة إشكالية قلة الكفاءات، والحدّ من هدر الموارد المالية عبر تفعيل قواعد الشفافية والحوكمة[89]، وإشكالات الفساد والمحسوبيات[90]، وحصر موارد المعابر بيد الحكومة السورية المؤقتة[91].
3- الإدارة المستقلة بعيداً عن هيمنة الفصائل:
تُعد الاستقلالية من المبادئ الرئيسة التي يجب أن تتحلى بها المؤسسات المختلفة حتى تستطيع تأدية أدوراها بفعالية، وبالتالي تحظى بثقة الحاضنة الشعبية، وبشكل رئيس استقلالية المجال الخدمي والمدني عن القوى العسكرية؛ وهو ما افتقدته بعض المجالس -خصوصاً في الآونة الأخيرة- نتيجة تدخلات “قوى الأمر الواقع” تارة، والجانب التركي تارة أخرى[92].
كذلك في منطقة إدلب تخضع المجالس المحلية التي أصبحت أقرب إلى بلديات لسيطرة مطلقة من “حكومة الإنقاذ” واجهة “هتش” المدنية، التي تقوم على مبدأ الجباية أكثر من الخدمات[93]، وتزداد درجة تحكمها عبر وزارة التنمية ومكاتب المنظمات بالمجال المدني، وتفرض عليه نسباً وتتحكم بقرار الخدمات بشكل متزايد.
لقد شكّلت مرحلة ما قبل 2015 نموذجاً سيئاً للعلاقة التي كانت قائمة بين الفصائل العسكرية والمؤسسات الخدمية، ويبدو أن آثار هذه العلاقة ما تزال قائمة حتى الآن، وبالتالي لابد من إيجاد آليات حوكمية وقانونية لضمان استقلال المؤسسات الخدمية، وعلى رأسها المجالس المحلية، بحيث يكون رائدها مصالح الناس المقيمين في المناطق التي تشرف عليها بعيداً عن أية تدخلات خارجية.
4- الشفافية مع الحاضنة:
كما أشرنا سابقاً في الحديث عن العلاقة بين الحاضنة من جهة وكل من المؤسسات السياسية والفصائل العسكرية من جهة أخرى؛ فإن مبدأ الشفافية يُعدّ من المبادئ الرئيسة ذات التأثير المباشر في طبيعة العلاقة مع الجمهور وعلى مستوى جميع القطاعات، إذ يشكل غيابها عاملاً رئيساً لضعف الثقة والمصداقية، وقد أثر عدم تطبيق هذا المبدأ سلبياً في علاقات المجالس المحلية مع الحاضنة الشعبية.
في هذا الصدد لابد من استخدام عدة أدوات وآليات لتكريس الشفافية بين هذه المجالس والحاضنة، من أبرزها:
- تكثيف اللقاءات بين المجالس والمواطنين، وتفعيل آليات التواصل الفعّال[94].
- وضع الحاضنة في صورة العقبات والصعوبات التي تواجه المجال، وكشف جحم الإمكانيات والقدرات المتاحة، ونشر المشاريع والموازنات.
- عدم رفع شعارات ضخمة ترفع سقف التوقعات، ومن ثم يصعب أو يستحيل إنجازها، مع تفعيل قواعد الشفافية حول الواقع وتحدياته؛ بما يسهم في إيجاد حالة من الثقة بين الطرفين[95].
- إيجاد آليات شكوى فعّالة.
- شفافية معايير التعيين القائمة على الكفاءات والقدرات، بدلاً من المحسوبيات والولاء[96].
5- أولوية الحوكمة وتوظيف الكفاءات:
أصبحت حوكمة القطاعات بشكل فعلي ضرورة حتمية حتى تنجح إدارة القطاعات المختلفة، وهو ما ينعكس على ثقة الحاضنة؛ إذ إن الظروف الإنسانية الكارثية تجعل رضى الحاضنة يرتبط بمقدار ما تقدمه من خدمات أساسية تتطلب بشكل رئيس تطبيقاً للحوكمة[97]، مع الأخذ بعين النظر أن التطبيق هنا نسبي؛ لأن المجالس كانت وما تزال تعمل في ظروف استثنائية بكل المقاييس، تفتقد فيها أبسط مقومات الأمن والأمان[98]، وفي ظل ضعف القدرات والموارد المالية والبشرية التي تستطيع الاستجابة للحاجات وتقديم خدمات مستدامة[99].
مع ذلك وضمن هذه الظروف ثمّة هوامش متاحة للتطبيق؛ فعلى سبيل المثال: تتوفر كفاءات مهجَّرة كثيرة في قطاع التعليم، لكن طاقاتها لا تُوظَّف بسبب أولوية تعيين ابن المنطقة حتى ولو كانت لديه مؤهلات علمية أقل، كذلك الحال في القطاع الصحي والمجالس المحلية[100].
وبغية إنجاز عملية بناء هياكل الحكم والقيادة وتحسين علاقتها مع الحاضنة ينبغي توافر عدة ركائز، تتمثل أهمها بـ:
- توطيد الأمن والاستقرار عبر وسائل عدة أبرزها: حسن إدارة العلاقة التبادلية بين المكونات العسكرية والسياسية، وإطلاق حوار بين الهيئات المدنية العاملة بإشراف المجالس المحلية للتوصل إلى رؤية حول إصلاح المنظومة الحوكمية وإعادة هيكلتها، وتشكيل لجنة ارتباط وتواصل دائمة بين الفيالق والشرطة والمجالس والمنظمات بغية البحث في تحسين التنسيق وحل المشاكل التي قد تنشأ بين الأطراف[101].
- تطوير سياسات الرقابة والمتابعة: كتفعيل آليات الشكاوى لتقييم العمل، وتعزيز التواصل مع القاعدة الشعبية، وتنشيط أدوات المشاركة المجتمعية كإيجاد آلية لإشراك النازحين والمهجرين في عملية صنع القرار.
6- نحو سياسة رواتب للعاملين في القطاع المدني أكثر عدلاً:
من أكبر العوامل المؤثرة في ثقة الحاضنة ونِظرتها الهوةُ الطبقية بين العاملين في المؤسسات -خاصةً في المجال المدني- والحاضنة؛ إذ يمثّل التشابه في نمط الحياة وطبيعتها بين الطرفين عاملاً مهماً، وهو ما يفسر ثقة الحاضنة بشخصيات قيادية عايشتهم وانخرطت معها[102]. وتظهر هذا الإشكالية على صعيدَين:
- العلاقة بين الموظفين والحاضنة: إذ من غير المنطقي أن يكون بعض العاملين في المجال الخدمي “المنظمات الإنسانية” يعيشون حياة مرفهة ويحصلون على معاشات عالية، ومع ذلك يقدمون خدمات ضعيفة ولا تؤدي إلى فوارق جوهرية بنظر الحاضنة[103].
- العلاقة بين الموظفين أنفسهم ما بين كوادر الداخل والخارج: تشكل الفجوة بين أجور الطرفين في المؤسسة ذاتها -وتبلغ أضعافاً في بعض الحالات- إشكالية؛ سواءٌ بالنسبة لموظف الداخل الذي ينظر إلى الموجود في الخارج على أنه جهة مستفيدة أكثر من كونه مشرفاً إدارياً، وبالنسبة للمقيم في الداخل الذي هو في الأصل في حالة مزرية، وسيكون موقفه أكثر حدّيّة[104].
تبعاً لذلك يبدو أن الحلول المتاحة حالياً هي تقليل الفوارق بين رواتب العاملين في المجال الخدمي، بما يسهم في تخفيف حدة تعاطي الحاضنة مع العاملين في الشأن الخدمي، خصوصاً في المنظمات الإنسانية.
خاتمة:
على الرغم من أهمية التوصيات التي وردت في ثنايا هذا التقرير، وخصوصية بعضها ضمن المجال الواردة فيه؛ إلا أننا يمكن أن نقف على عناوين رئيسة تجمع بين الأدوات التي يفترض العمل عليها لتعزيز ثقة الحاضنة الشعبية بمختلف القوى والجهات، وهي:
- احترام التخصص[105]: إذ لا يمكن لهذه المؤسسات أن تتطور طالما أنها تحاول العمل في مختلف المجالات حتى ولو كانت خارج اختصاصها وحدود إمكانياتها؛ فعلى سبيل المثال: قامت الفصائل العسكرية بخطوة جيدة -بغضّ النظر عن الدوافع- في ابتعادها عن العمل في المجال الخدمي؛ إلا أنه يُفترض أن تُستكمل هذه الخطوات، ومثلها بالنسبة للعمل السياسي، والأمر ذاته ينسحب على بقية المؤسسات؛ بحيث يمثل احترام التخصص دافعاً للتكامل بدلاً من الاستحواذ.
- تطبيق مبادئ الحوكمة: هي العامل الذاتي الذي يفترض على مختلف القوى تطبيقه، بما يساعد على بناء مؤسسات دولة بديلة حقيقية، بحيث تشعر الحاضنة الشعبية بكفاءتها وقدرتها على أداء وظائفها.
- ضرورة الشفافية: تمثل هذه الخطوة علامة فارقة في العلاقة مع الحاضنة الشعبية التي ترى في تطبيق هذه المبادئ احتراماً لوجودها، ومشاركة لها في اتخاذ القرارات والدخول في الشأن العام، وخطوة رئيسة لممارسة الرقابة على هذه الجهات والقوى.
لمشاركة التقرير: https://sydialogue.org/peot
3 تعليقات