الأبحاث والدراساتالإصداراتالسوريون في الداخل السوريالوجود السوري في تركياالوحدة المجتمعية

رحلات اليائسين بين البحر والغابات… تكتيكات ومخاطر جديدة، وإشكاليات قانونية

تقرير تحليلي صادر عن الوحدة المجتمعية

لفت الإعلان عن التحضير لقافلة برية تنطلق من تركيا تحت مسمى “قافلة النور” وتضم آلاف الشباب السوريين المقيمين فيها والراغبين في اللجوء إلى أوروبا الأنظار إلى عودة موجات الهجرة غير الشرعية للواجهة، وإلى الرغبة العارمة لدى هذه الشريحة بمغادرة تركيا لأسباب متنوعة[1]، وقد استقطبت القافلة ضمن معرّفاتها الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي ما يزيد عن 80 ألف مشترك خلال أيام من انطلاقها، ولاقت اهتماماً إعلامياً عربياً وغربياً رغم أن محاولتها الأولى في التجمُّع والانطلاق باءت بالفشل.

وقد تزامن هذا الإعلان مع ارتفاع كبير في معدلات الهجرة غير الشرعية بداية فصل الصيف؛ إذ أشارت صحف غربية إلى أن عمليات دخول طالبي اللجوء وصلت إلى رقم قياسي في ألمانيا، بزيادة قدرها 140% مقارنة بالعام السابق، في حين أشار إحصاء إلى دخول أكثر من 3 آلاف مهاجر غير شرعي في آب 2022 عبر الحدود التشيكية مع ولاية سكسونيا وحدها، معظمهم من اللاجئين السوريين والأفغان والعراقيين[2].

وفي الوقت ذاته ارتفعت معدلات المفقودين والمتوفين خلال رحلات الهجرة غير الشرعية؛ فقد شهدت الأشهر الأخيرة حوادث غرق وعمليات إنقاذ أشارت إلى حجم ظاهرة الهجرة التي تشهدها المنطقة، وتعيد إلى الأذهان موجات اللجوء الكبرى التي استهدفت الاتحاد الأوروبي بين عامي 2013-2015.

وانطلاقاً من اهتمام الوحدة المجتمعية في مركز الحوار السوري بمتابعة المشكلات التي يواجهها السوريون، خاصة الموجودين في تركيا، واستجابةً لمشكلة عالمية تحمل أبعاداً إنسانية كبيرة يُفترض التحرك لإيجاد حلول لها  والتخفيف من خسائرها البشرية؛ فإننا نقدّم هذا التقرير الذي يحاول تتبُّع ظاهرة رحلات الهجرة غير الشرعية التي تضم في معظمها سوريين من شريحة الشباب، في محاولةٍ لتقديم مقاربة أوضح للظاهرة، وما يكتنفها من مخاطر، وتتبُّع المستجدات التي طرأت عليها، اعتماداً على المنهج الوصفي التحليلي؛ إذ استند إلى ما نُشر من تقارير وأخبار تتابع رحلات الهجرة غير الشرعية وعمليات الإنقاذ بياناتٍ ثانويةً، بالإضافة إلى رصد محتوى بعض المجموعات المتخصصة وتحليله بياناتٍ أوليةً.

واستند إعداد التقرير إلى رصد طويل للمجموعات المعنية بتبادل المعلومات الخاصة برحلات اللجوء وعمليات التهريب لعدة سنوات؛ فقد قام فريق البحث بالتركيز على التطورات الأخيرة وانتقاء بعض المجموعات النشطة على سوشيال ميديا (11 مجموعة)[3]، وهي على نوعين مختلفين:

  • مجموعات يقوم عليها أفراد “متطوعون”: تقدّم إرشادات ومساعدات من أجل إنجاح عمليات التهريب البرية التي تنطلق من تركيا مقابل مبالغ مالية متواضعة، وهي خدمات تختلف عن الخدمات التي يقدمها المهربون عادة.
  • مجموعات أخرى معنية بعمليات المتابعة والإنقاذ: تقوم على فرق تطوعية ترصد وتتابع الأخبار، وتتواصل مع خفر السواحل ومع الشرطة الحدودية التركية أو اليونانية أو الإيطالية، وهي مجموعات مضى على عمل القائمين عليها سنوات واكتسبت نوعاً من المصداقية والموثوقية بين المهاجرين غير الشرعيين، سواءٌ في قدرتها على تقديم الدعم أو النصح، كما اعتُمد على بعضها في تنظيم اتصال وسائل إعلام غربية ببعض الناجين من تلك الحوادث. وقد امتد رصد وتحليل البيانات على ما نُشر في هذين النوعين من المجموعات خلال مدة ثلاثة أشهر ( تموز، آب، أيلول ) لعام 2022، وقام فريق البحث بتوثيق 155 حادثة مختلفة وردت في المجموعات المعنية بالإنقاذ والمتابعة.
سيعتمد التقرير توصيف “حادثة” لعمليات التهريب الفاشلة عبر الحدود البرية أو البحرية، والتي تستهدف الوصول إلى أوروبا بغرض الهجرة غير الشرعية أو تقديم اللجوء؛ سواءٌ تعلقت هذه الحادثة بفرد أو بمجموعة، سوريين كانوا أم غير سوريين، مما وردت عنها معلومات؛ سواءٌ من المهاجرين غير الشرعيين أو عائلاتهم أو من فرق المتابعة والإنقاذ ضمن المجموعات المختصة التي تم رصدها.

كما سيعتمد توصيف “مهاجر غير شرعي” لكل مَن يحاول عبور الحدود البرية أو البحرية بطرق غير نظامية، سواءٌ كان يحمل صفة قانونية “لاجئ” أو كان تحت “الحماية المؤقتة” في البلد التي غادرها، أو لا يحمل أي صفة ومن أي جنسية كان.

يتركز عمل مجموعات التهريب على تأمين عمليات التهريب عبر الطرق البرية التي تنطلق من تركيا، فيما تركّز مجموعات الإنقاذ والمتابعة على نقل أخبار الهجرات غير الشرعية الفاشلة؛ سواءٌ كانت برية أم بحرية تنطلق من تركيا، ولكنها في الآونة الأخيرة بدأت تتوسع في نطاق تغطيتها لتشمل أخبار حوادث الغرق والإنقاذ ونقل صيحات الاستغاثة للرحلات التي انطلقت من لبنان ومن ليبيا؛ حيث يبدو اهتمام متابعين من مناطق أخرى بهذه المجموعات.

يستعرض التقرير في قسمه الأول نتائج الرصد والمتابعة حول عمليات الهجرة غير الشرعية الفاشلة التي خلفت ضحايا، ثم يستعرض في قسمه الثاني مسارات الهجرة غير الشرعية والتغيرات التي طرأت عليها، سواءٌ ما يتعلق بالرحلات البرية أو البحرية، كما يتطرق إلى بعض التغيرات في سياسات اللجوء التي بدأت تنتهجها بعض الدول الأوروبية، في حين يركز قسمه الثالث على الأسباب والدوافع وراء ازدياد هذه الرحلات، وليُختم التقرير باستعراض الوجهة القانونية والإشكالات والانتهاكات التي تحدث للاجئين خلال هذه الرحلة.

أولاً: نتائج رصد حوادث الهجرة غير الشرعية الفاشلة

لم يكن سهلاً القيام بعمليات الرصد والتحليل، لاسيما وأن المعلومات المنشورة عن الحوادث التي تم الإبلاغ عنها قليلة؛

فعلى سبيل المثال: كان من الملاحظ خروج عدة مجموعات من المهاجرين غير الشرعيين سيراً على الأقدام عبر الطريق البرية أو باستخدام القوارب، وفي اليوم نفسه تعرضت هذه المجموعات للاعتراض أو للاستهداف والغرق في أوقات متقاربة؛ فقام فريق البحث بمقاطعة المعلومات المنشورة واستثناء الحوادث التي لم تتوفر عنها المعلومات الكاملة، أو التي يُعتقد أنها مكررة، كما حاول فريق البحث التواصل مع القائمين على بعض المجموعات.

يتوقع فريق البحث أن أعداد الضحايا والحوادث الحقيقية التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة أكبر بكثير من الأعداد التي تم رصدها؛ لأن جهود المتابعة والإنقاذ لم تكن ممأسسة ولا منظمة، وإنما قامت بها بعض الفرق التطوعية التي تعتمد بشكل أساسي على جمهور مواقع التواصل الاجتماعي وعلى السمعة التي بنتها خلال عملها في السنوات الماضية، ولذا فإن هذه المجموعات لم تقدم معلومات عن حالات الهجرة غير الشرعية التي نجحت بالوصول إلى هدفها، إلا أن الأرقام الواردة تعطي لمحة أولية عن حجم المقامرة والخسائر البشرية التي يمكن حدوثها خلال هذه الرحلات التي ترتفع فيها معدلات المخاطرة.

 وقد خلصت نتيجة الرصد إلى وجود ما لا يقل عن 155 حادثة موثقة تم رصدها في الربع الثالث من عام 2022، خلال  الأشهر الثلاثة ( تموز ، آب ، أيلول)، وهي الأشهر التي تُعد الأنسب لعمليات التهريب بسبب الطقس المعتدل وسكون البحر؛ فقد رُصد ما يقارب 123 حادثة تهريب انطلقت من تركيا، شكلت 75% من إجمالي الحوادث المرصودة، و35 من لبنان  بنسبة 23% و3% من ليبيا[4] (الشكل 1)، وشملت هذه الحوادث ما لا يقل عن 4637 مهاجراً غير شرعي، تُوفي 214 منهم، بما يشكل 4% من إجمالي عدد المهاجرين، بالإضافة إلى 224 محتجز و225 مفقود بنسبة 5% لكل منهما، بينما تم إنقاذ البقية (الشكل 2).

الشكل 1: توزُّع الحوادث المرصودة وفقاً لمكان الانطلاق الشكل 2: توزُّع نسب الضحايا ضمن الحوادث المرصودة

ومن الصعب التأكد من وضع الذين تم إنقاذهم ومصيرهم؛ فقد يتم احتجازهم لفترات قصيرة أو طويلة، أو محاكمة بعضهم أو إطلاق سراحهم، أو يعاود كثير منهم المحاولة حتى يحالفهم الحظ أو يُتوفوا لاحقاً خلال هذه الرحلة، كما يمكن عدّ المفقودين بحكم المتوفين، خاصة أولئك المفقودين في الرحلات البحرية؛ وذلك لعدم وصول أي خبر عنهم خلال مدة طويلة، مما دفع عائلاتهم وأقاربهم إلى نشر صور أبنائهم ومعلومات عنهم بغية الوصول إلى خبر من المجموعات التي كانت ترافقهم.

 وتشير نتائج الرصد إلى أن 88% من حالات الفقد حدثت خلال الرحلات البحرية؛ مما يرجح اعتبار المفقودين بحكم المتوفين، فيما كانت 12% من حالات الفقد في الرحلات البرية (الشكل 3)، وتركزت النسبة الأعلى من حالات الفقد في شهر آب بما يقارب 119 شخصاً مفقوداً بينهم نساء وأطفال، و70 شخصاً مفقوداً في شهر أيلول (الشكل4).

الشكل 3: توزُّع حالات الفقد حسب نوع الرحلة الشكل 4: توزُّع حالات الفقد حسب الشهر

فأمّا ما يتعلق بحالات الوفيات المرصودة التي شملت رجالاً ونساءً وأطفالاً فقد حدثت 86% من حالات الوفاة خلال الرحلات البحرية، فيما تُوفي 14% خلال الرحلات البرية (الشكل 5)، وتوزعت معظم حالات الوفيات في شهر أيلول بواقع 184 شخصاً بينهم نساء وأطفال، وهو الشهر الذي شهد أكبر حالات غرق لمراكب الهجرة غير الشرعية، يليه شهر تموز بواقع 16 وفاة، ثم شهر آب بواقع 12 وفاة (الشكل 6).

الشكل 5: توزُّع حالات الوفيات تبعاً لنوع الرحلة الشكل 6: توزُّع حالات الوفيات تبعاً للشهر

وأما عمليات الاحتجاز فقد احتُجز 64% من المهاجرين غير الشرعيين خلال الرحلات البحرية، فيما احتُجر 36% منهم خلال الرحلات البرية (الشكل 7)، وحدثت جميع حالات الاحتجاز التي تم رصدها في شهر 9 ( الشكل 8)؛ حيث تركزت غالبية أعداد المحتجزين بشكل جماعي في أحد السجون اليونانية[5]، فيما لم يُعرف مصير بقية المحتجزين حتى الآن.

الشكل 7: توزُّع نِسب المحتجزين حسب نوع الرحلة الشكل 8: توزُّع أعداد المحتجزين حسب الشهر

وأما عمليات الإنقاذ فقد تم إنقاذ 98% من حالات الهجرة غير الشرعية الفاشلة التي تمت خلال الرحلات البحرية، فيما تم إنقاذ 2% من هذه الحالات التي تمت عبر الرحلات البرية (الشكل9)، وتركزت الأعداد العظمى من الناجين من رحلات الهجرة غيرة الشرعية في شهر أيلول بواقع 2959 شخصاً، يليه شهر آب 819 شخصاً، و 196 شخصاً في شهر تموز (الشكل 10).

الشكل 9: توزُّع نسب الناجين وفقاً لنوع الرحلة الشكل 10: توزُّع أعداد الناجين وفقاً للشهور

مما سبق: من الملاحظ ازدياد رحلات الهجرة غير الشرعية وازدياد أعداد المنخرطين فيها، وارتفاع أعداد الوفيات في الرحلات مقارنة بالأشهر السابقة، ويُتوقع استمرار هذه الزيادة؛ لاسيما مع الإقبال المتزايد بين الشباب السوري، خاصة المقيمين في تركيا، ومع دخول فصل الخريف وما يعنيه من تغير الظروف المناخية التي تجعل فرص نجاح عمليات الهجرة غير الشرعية أقل.

ثانياً: مسارات الهجرة غير الشرعية

تُعد الطرق والمسارات التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيين معروفة لكل مَن يريد الوصول إلى أوروبا، وكذلك معروفة للدول التي تُعد ممرات عبور نحو القارة العجوز؛ إلا أن من الصعب بمكان ضبط الحدود البرية أو البحرية، ومنع هؤلاء اليائسين من المحاولة، لاسيما بعد أن شحّت أمامهم الخيارات البديلة واستبدّ بهم اليأس الذي دفعهم لمثل هذه المخاطرات.

يمكن تمييز نمطَين شائعَين من الرحلات التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيين الذين يريدون الوصول إلى أوروبا انطلاقاً من قارة آسيا، وهما:

  • الرحلات البرية: تختلف نقاط بدايتها؛ لكنها تلتقي في تركيا كمحطة للانطلاق ثم تكون الوجهة اليونان أو بلغاريا، ثم تتنوع المسارات بين مَن يكمل رحلته براً ومَن يكملها برّاً أو جوّاً عبر اليونان مدخلاً لدول الاتحاد الأوروبي.
  • الرحلات البحرية: كانت تنطلق من تركيا باتجاه اليونان، أو من لبنان باتجاه جزيرة قبرص، وهي رحلات محدودة كانت تُلاحظ العام الماضي؛ إلا أن هذا الصيف شهد عودة مسارات بحرية جديدة، كرحلات تنطلق من تركيا إلى إيطاليا، أو من لبنان أو مصر باتجاه إيطاليا.

ومن الصعب الإلمام بدقائق ومسارات كل نمط من أنماط هذه الرحلات؛ إلا أننا سنستعرض المخاطر والتحديات التي يواجهها المهاجرون غير الشرعيين حالياً في نمطَي الرحلات المعروفة.

على الأقدام؛ الحدود والغابات القاتلة:

تُعد الرحلات البرية من الرحلات الأقل مخاطرة مقارنة بالرحلات البحرية، إلا أن احتمالات الفشل فيها مرتفعة؛ إذ تحتاج إلى فترة زمنية طويلة قد تمتد لشهور حتى يصل المهاجر إلى غايته، ولكنها قد تكون حلاً مقبولاً للمهاجرين غير الشرعيين الراغبين في الوصول إلى أوروبا، لاسيما وأنها أقل تكلفة مادياً، خاصة حين تتم دون الاستعانة بمهرّب؛ فقد تطورت تكتيكات المهاجرين الراغبين في خوض التجربة بعد الاستفادة من تجارب مَن سبقوهم، وبدأت بعض المجموعات خوض تجربة عبور الحدود معتمدة على أنفسها باستخدام تقنية تحديد المواقع الجغرافية GPS، وفق مسارات تم التوافق بأنها الأنجح والأكثر أماناً وفق روايات مَن نجح في الوصول إلى أوروبا.

وانطلاقاً من هذه التوجه الذي يسعى للاستغناء عن المهربين تشكلت مجموعات إرشاد ومساندة عبر السوشيال ميديا تضم متطوعين؛ فتقدّم نصائح وإرشادات ومتابعة للراغبين في خوض التجربة، كما أن بعضها يقدّم مساعدة مأجورة من خلال تحديد مسار الرحلة ونقاط التحرك والتوقف وتاريخها وتقديم تصور للكلفة المادية المتوقعة، بالإضافة إلى تأمين بعض المستلزمات اللوجستية كالمياه والطعام وسيارات النقل في بعض تلك النقاط، ومتابعة هؤلاء المهاجرين الذين يتحركون بمجموعات صغيرة لا تتجاوز 10 أشخاص ، وتبليغ السلطات في حال تعرضهم للخطر، وذلك مقابل مبالغ مالية متواضعة تُدفع على مراحل، تتراوح بين 100-400 يورو، وقد تصل إلى مبالغ أكبر حسب نوع الاتفاقية والخدمات (الشكل 11).

الشكل 11:صورة ملتقطة من إحدى مجموعات تلغرام المتخصصة بتقديم توجيهات لإنجاح عمليات التهريب؛ توضح فيه الكلفة المطلوبة للخدمات المرحلية الاختيارية التي تقدمها

وتدّعي بعض المجموعات أنها تتابع موجات تبديل حرّاس الحدود، وأنها اتفقت مع بعضهم تحت اسم “شراء نقاط العبور”، والتي يُقصد بها ادعاء القائمين تقديم رشاوى لبعض عناصر حراس الحدود مقابل غضّ الطرف عن نقطة ما خلال فترة زمنية متفق عليها، والسماح للمهاجرين غير الشرعيين التابعين لتلك المجموعات بالعبور الآمن؛ ولا يمكن التأكد من صحة هذا الادعاء.

وتنشر هذه المجموعات المعنية بإرشادات التهريب مقاطع فيديو مصورة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي -خاصة تيك توك- تشرح فيها عملية التهريب بالتفصيل ودور الجهة المشرفة والتزاماتها، كما تنشر أيضاً فيديوهات دورية لعدد من المغامرين الذين نجحوا في الوصول إلى النقطة المطلوبة يشيدون بالمتابعة التي تلقوها حتى تكللت تجربتهم بالنجاح؛ إلا أن كثيرين يدّعون أن بعض هذه المجموعات لا تقدم مساعدة حقيقية وأن ما تدّعيه من تقديم مساعدات لوجستية ليس أمراً صحيحاً أو متاحاً في أغلب الأحيان، وما هي إلا عملية بيع للوهم لأولئك العابرين؛ فمن عشر مجموعات تحاول عبور الحدود البرية قد يحالف الحظ مجموعة أو مجموعتين، فيما قد يُلقى القبض على المجموعات الأخرى التي تتعرض للاعتقال أو الانتهاكات، ثم تعاود المحاولة مع جهة أخرى أو مهرّب آخر حتى تصل إلى غايتها.

وقد تكاثرت مجموعات التهريب التي يشرف عليها “متطوعون”، وتنوعت وأصبحت محل تنافس بين أفرادها ممَن يدّعي أنه صاحب الاسم الأصلي الموثوق، وأن بعضها تعرّض للاختراق بهدف الحصول على المتابعين واستثمار العمل السابق، أو انتحال الشخصية بهدف الإضرار بـ “سمعة” الناجح منها.

الشكل 12: صورة ملتقطة من إحدى مجموعات تلغرام المتخصصة بتقديم إرشادات لإنجاح عملية التهريب؛ توضح فيه المواد المطلوب تحضيرها قبل الرحلة

ومن اللافت خلال متابعة الفيديوهات الدورية المنشورة أن من الصعب التحقق من المكان الذي تم تسجيل الفيديوهات فيه، بالإضافة إلى أن أغلب المهاجرين الذي تعاملوا مع هذه المجموعات من الشباب في أعمار صغيرة، بعضهم دون الـ18، كما أنهم يقدمون خدماتهم لكل الجنسيات؛ إلا أن غالبية المهاجرين من خلال هذه المجموعات هم من الجنسية السورية كما يظهر من لهجتهم، وأن معظم القائمين على هذه المجموعات من الجنسية السورية أيضاً.

الشكل 13: فيديوهات منشورة على بعض مجموعات التهريب يشير فيها المهاجرون إلى نجاحهم في الوصول إلى نقاط معينة (تغبيش)

لا تختلف الخدمات التي تقدمها هذه المجموعات عن الخدمات التي يقدمها المهربون، سوى أن الكلفة المدفوعة لهذه المجموعات أقل ومجزأة ولا تحتوي مخاطرة مالية، وإن كانت بقية أنواع المخاطرات موجودة، عدا عن ذلك فإن المهاجرين يعتمدون على أنفسهم بالكامل في عبور الحدود، ويعرفون الخطوات اللاحقة خطوة خطوة، وعليهم تنفيذها وفقاً للتوجيهات، في حين يتكفل المهرب التقليدي بعملية التهريب كاملة وفق الاتفاق، ويستخدم طرقاً يُفترض أن تكون أسرع زمناً وأكثر أمناً وأغلى سعراً، كنقلهم ضمن سيارات خاصة أو سيارات شحن.

وتشير شهادات إلى أن تكتيكات جديدة يتبعها بعض المهربين على الطريق البرية؛ حيث يوكلون بكل مجموعة “مرشداً” من طرفهم ينتقل بهم عبر الطرق التي يعرفها المهرب ويدّعي أنه قد “اشتراها” إلى اليونان، إلا أن من الملاحظ قيام المرشدين باستغلال تلك المجموعات واحتجازهم بعد إيصالهم للمنطقة وضربهم وتصوير فيديوهات تطلب الفدية من أسرهم، ومن غير الواضح إن كانت هذه العملية تتم بالتنسيق مع المهرب أو بسبب خلاف معه، وقد تمكنت الشرطة اليونانية من إلقاء القبض على إحدى هذه العصابات مؤخراً[6].

ومن الأساليب الجديدة التي يتبعها المهربون ويستهدفون بها عائلات تنوي الهجرة غير الشرعية هي الإعلان عن طريقة جديدة تقوم على نقل العائلات إلى جزيرة وسط النهر الفاصل بين تركيا واليونان والتي تُعد منطقة عسكرية حسب قرار حرس الحدود اليوناني، والادعاء أن المهرب سيقوم بالتبليغ عن وجودهم في هذه الجزيرة ومطالبة عناصر من حرس الحدود اليوناني – ممن “اشتراهم” – بإنقاذهم، أو بالتواصل مع منظمات أجنبية أو يونانية تعمل مع اللاجئين، حيث سيتم نقلهم بشكل جماعي آمن وسيعاملونهم معاملة خاصة؛ إلا أنه على الواقع يقوم المهرب بترك هذه المجموعات بمفردها على تلك الجزيرة لأيام عديدة، لتواجه مصيرها المحتوم بعد نفاد الزاد والماء، أو يحالفها الحظ فيتم العثور عليها عن طريق المصادفة أو تنجح بالتواصل مع إحدى مجموعات الإنقاذ.

مخاطر وانتهاكات على الطرق البرية:

تحمل الرحلة البرية أشكالاً مختلفة من المخاطر؛ فهي رحلة طويلة تتم بين المرتفعات والغابات وقرب الحدود المكشوفة، يواجه فيها طالب اللجوء العديد من المخاطر، منها: الضياع، وعدم القدرة على معرفة الاتجاه والطريق، بالإضافة إلى إمكانية نفاد الزاد والماء الذي يحمله ما لم يصل في الوقت المناسب إلى نقطة الدعم التي يُفترض أن يتم تزويده فيها بالمؤونة[7].

كما يتعرض طالب اللجوء خلال الرحلة للأمراض نتيجة تقلبات الطقس وإمكانية التعرض للدغات البعوض والحشرات السامة والزواحف، فضلاً عن هجوم بعض الحيوانات البرية عليه أو الكلاب الشرسة المدربة لحراسة الحدود، وقد ارتفعت مؤخراً حالات التسمم بين طالبي اللجوء خلال رحلتهم البرية نتيجة تناولهم الحشائش البرية بعد نفاد الزاد، أو لاستخدامهم مياه الأنهار والبحيرات التي لم تكن صالحة للشرب وربما تحمل جثث العديد من الغارقين والمفقودين، وتشير إحدى المجموعات المعنية بالإنقاذ إلى أنها تتلقى يومياً بين 1-6 تبليغات عن حالات تسمم في الغابات اليونانية، يموت منها قرابة 1-2 منهم يومياً[8].

وإلى جانب ذلك تختلف قدرة طالبي اللجوء على تحمل الرحلة، وكثيراً ما يضطر أفراد المجموعات إلى ترك بعض منهم وحدهم في الغابات والمضي في طريقهم؛ وذلك لعدم قدرة المجموعة على مساعدته أو إرجاعه، ولاحتمال انكشاف أمرهم أو نفاد زادهم إن تأخروا في مسار رحلتهم. ولقد صادف بعض طالبي اللجوء في رحلتهم مصابين وجرحى ونساء وحتى أطفالاً تائهين متروكين بمفردهم في الغابات، قام بعضهم بالتبليغ عن موقعهم لضمان وصول فرق الإنقاذ إليهم، فيما قام بعضهم بمساعدتهم على متابعة الرحلة، ولكن يبدو واضحاً أن فرص النجاة لهذه الشريحة محدودة، وأن احتمالات العثور عليها ضعيفة؛ يمكن استنتاج ذلك من الجثث المتفسخة التي تم العثور عليها مؤخراً، وقامت بعض الفرق بدفنها بعد تحللها ونشر صورها أو بعض المعلومات إن كانت متوفرة عنها أو إبلاغ السلطات المسؤولة بذلك.

الشكل 14: صورة جثة عُثر عليها من قبل مهاجرين غير شرعيين نُشرت على إحدى مجموعات الإنقاذ بهدف التعرف على صاحبها من شكله أو ملابسه

وتشير شهادات المهاجرين غير الشرعيين إلى إمكانية حدوث تقرُّحات شديدة في الأقدام نتيجة فترات السير الطويل التي قد تزيد على سبعة أيام[9]، والتي يمكن أن تعيق عملية الحركة، لاسيما إنْ تمزق الحذاء أو لم يكن مريحاً؛ إذ لا يمكن علاج هذه التقرحات بالمسكنات والمراهم العادية.

الشكل 15: إحدى الصور المنشورة على مجموعات الإنقاذ؛ توضح حقيقة ما يحمله الطريق البرية من مشاق

كما انتشرت بعض التحذيرات في مجموعات المتابعة والإنقاذ تنبّه المغامرين وطالبي اللجوء من أضرار حبوب الكبتاغون التي يحاول بعض المهربين الترويج لها بين مَن يريدون القيام بالرحلة البرية بدعوى أن هذه الحبوب ذات التأثير المنشط تساعدهم على إكمال الرحلة وتحمُّل مشاقها[10].

ولعل كل هذه المخاطر “مقبولة نسبياً” مقابل مخاطر الوقوع في أيدي قوات حرس الحدود اليوناني أو الصربي، والتعرض للانتهاكات من طرفهم؛ إذ تشير العديد من الشهادات إلى قيام حرس الحدود اليوناني بضرب طالبي اللجوء بشكل مبرح جداً، ومصادرة ممتلكاتهم وهواتفهم وتجريدهم من الملابس والأحذية، وقد يتطور الأمر إلى الاعتداء عليهم جنسياً[11]، أو إغراقهم في النهر بعد تقييد أرجلهم[12]، أو تركهم وحدهم عُراة في الغابات حتى ينقذهم حرس الحدود التركي أو يموتوا بسبب البرد والجوع والعطش[13]. كما تشير معلومات أخرى إلى أن بعض الجهات الحكومية قد وكلت المدنيين -كالصيادين اليونانيين الذين تم تفويضهم تحت اسم الدفاع عن الحدود- باعتقال واعتراض المهاجرين خلال عملية عبور النهر بالتنسيق مع حرس الحدود اليوناني[14].

وتؤكد تقارير حديثة وعدد من الشهادات وجود عصابات مسلحة تتحدث لغات أخرى تم توظيفها من طرف حرس الحدود اليوناني، تضم سوريين ومن جنسيات أخرى يعملون وكلاء أو عناصر شرطة مساعدة، بينهم طالبو لجوء تم إلقاء القبض عليهم في وقت سابق وإغراؤهم بالأموال أو تهديدهم بالحبس والمحاكمة بتهمة الاتجار بالبشر[15]، أو يتم إغراؤهم بالحصول على تصاريح نظامية تؤهلهم للخروج من اليونان لاجئين وإعادة توطينهم في دولة ثالثة، أو السماح لهم بأخذ المقتنيات المصادرة من اللاجئين تعويضاً عن هذه الخدمات المجانية التي يقومون بها[16]. وتسمح هذه المجموعات لحرس الحدود بصدّ وإبعاد المهاجرين غير الشرعيين بقسوة، وبما يضمن لها الحماية من الـمُساءلة والاتهام بارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان.

وتشير شهادات أخرى إلى وجود شبكة لتجنيد بعض طالبي اللجوء الذين لم يتمكنوا من عبور الحدود عدة مرات؛ إذ يقوم طالبو اللجوء بدفع مبالغ لشبكات التجنيد مقابل توظيفهم مع حرس الحدود للعمل لفترة زمنية معينة، والقيام بمهام منها ضرب طالبي اللجوء أو قيادة المراكب التي يتم اعتراضها وإعادتها إلى تركيا ثم العودة بها فارغة إلى اليونان، حيث سيتمكن هؤلاء المجندون من متابعة رحلتهم بعد مدة زمنية متفق عليها دون أن يتعرض لهم أحد[17].

وتشير بعض الشهادات الواردة في مجموعات المتابعة إلى أن الانتهاكات التي يتعرض لها طالبو اللجوء لا تقتصر على اليونان فحسب؛ إنما على كامل خط المسير البري، خاصة في صربيا وألبانيا، حيث تنتشر عصابات تستهدف القاطنين في المخيمات والعابرين على الطريق البري وتعتدي على الناس وتسرق متعلقاتهم وتضربهم وتجبرهم على دفع الأتاوات.

ومن الجدير بالذكر -بحسب الشهادات- أن طالب اللجوء يكون أمام أحد ثلاثة احتمالات ستُفرض عليه في اليونان:

  • الترحيل والإعادة القسرية إلى تركيا دون تسجيل أو تحقق بعد تعرضه للضرب والإيذاء؛ وهو الاحتمال الأرجح.
  • أن يتم تسجيله طالب لجوء في أحد مراكز الاستقبال اليونانية المكتظة، وإدراجه ضمن برنامج إعادة التوطين في دولة ثالثة، وتستغرق عملية البتّ في قضيته عدة سنوات.
  • أخذ بصمته كطالب لجوء، وإعطاؤه تصريحاً بمغادرة البلاد خلال مدة زمنية محددة، بما يمكّنه من متابعة رحلة اللجوء والتهريب بالطريقة التي يريدها، دون أن تؤثر بصمته في اليونان على طلب لجوئه في أي من الدول الأوربية.

قوارب الموت؛ مياه تبتلع الحالمين:

تشهد الرحلات البحرية إقبالاً من طالبي اللجوء؛ لأنها طريقة أسرع وأكثر اختصاراً للوصول إلى اليونان أو قبرص أو شواطئ إيطاليا، والتي تُعد نقاط العبور الأساسية إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن هذا الخيار أعلى كلفة، وترتفع معه احتمالات الموت؛ لاسيما إن طرأ عطل على القارب، أو لم تكن الأحوال الجوية مناسبة للإبحار، أو تأخرت فرق الإنقاذ عن الوصول ومساعدة الغارقين.

وإلى جانب ارتفاع معدلات غرق القوارب في البحر تواجه الرحلات البحرية مخاطر إضافية تتعلق بالضياع في البحر، أو انتهاء مخزون الوقود، أو الموت نتيجة الجوع أو العطش[18]، فضلاً عن وجود أسباب أخرى تؤدي إلى الوفاة أو الغرق في البحر رغم توفر سترة النجاة ومعرفة السباحة، أهمها: دوار البحر، والتأثر بالغازات المنبعثة من محرك المركب، كما قد يؤدي الخوف والقلق عند ارتفاع الموج أو توقف المحرك لحالات هلع قد تتسبب في التدافع والاختناق، خاصة في حال فقدان توازن المركب أو انقلابه[19].

ومن الملاحظ ارتفاع أعداد الرحلات المتوجهة إلى إيطاليا بدل اليونان، سواءٌ تلك التي تنطلق من تركيا أو من لبنان أو من ليبيا، والتي تحمل معها طالبي لجوء من جنسيات متعددة، يشكّل السوريون والفلسطينيون والعراقيون والأفغان النسبة الأعلى منهم، كما يُلاحظ أيضاً استخدام القوارب الشراعية[20] المخصصة للصيد ويتم تحميلها بأعداد كبيرة من طالبي اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين وتنطلق من تركيا باتجاه اليونان.

وقد يقوم خفر السواحل اليوناني بمحاولات تفجير القوارب المطاطية[21] أو إغراقها[22] أو تركها عائمة بعد مصادرة المحرك، وقد تقوم هذه القوات بتوكيل شخص من طرفها في أحسن الأحوال بقيادة القارب بمَن فيه إلى شط أقرب دولة ثم يعود بالقارب إلى الجهة التي اعترضته[23].

ومن الملاحظ ازدياد رحلات التهريب من لبنان على وجه التحديد هذا الصيف؛ إذ تشير العديد من  الشهادات إلى أن هذه الرحلات تستخدم قوارب متهالكة، تحمل على متنها أعداداً كبيرة جداً من طالبي اللجوء قد تصل إلى 300 شخص، ولا تحتوي هذه المراكب نقاط اتصال؛ حيث يُفترض أن يتوفر مع طالبي اللجوء هواتف من نوع ثريا قادرة على الاتصال عبر الأقمار الصناعية، وتتحرك هذه القوارب في مسارات خارج المسارات المعتادة لسفن الإنقاذ والسفن التجارية، وغالباً ما تتعطل بعد ساعات محدودة من الإبحار وتجاوز المياه الإقليمية اللبنانية، وغالباً ما تتأخر قوارب الإنقاذ في الوصول؛ مما يعني غرق نسبة كبيرة من المهاجرين على متنها[24].

وتشير تصريحات خاصة لأحد موظفي المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في لبنان إلى ارتفاع أعداد الأشخاص الذين غادروا أو حاولوا المغادرة عن طريق البحر من لبنان في العام 2021 عمّا كان عليه في العام 2020، وأن هذا الاتجاه التصاعدي استمرّ في العام 2022 مع زيادة بنسبة 73٪ في عدد الركاب المغادرين في الفترة الممتدة من كانون الثاني إلى آب، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021، ورغم وجود زيادة ملحوظة في أعداد المسافرين اللبنانيين منذ العام 2020 فإن هذه المجموعة ما تزال أقلية؛ إذ يشكل السوريون الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يهاجرون أو يحاولون الهجرة في رحلات القوارب غير النظامية[25].

الشكل 16: انفوغراف يوضح الرحلات غير الشرعية التي انطلقت من لبنان بين أعوام 2020-2022[26]

وتشير تقديرات لناشطين محليين إلى أن ثلاثة أرباع القوارب التي انطلقت من لبنان هذا العام كانت تنوي التوجه إلى إيطاليا، وأن وتيرة هذه الرحلات ارتفع من معدل رحلتَين كل أسبوع إلى ثلاث رحلات أسبوعية في شهر آب، استُخدمت فيها زوارق صيد مستعملة بعضها صغير يتسع لستين شخصاً، أو زوارق كبيرة تتسع لـ 220 شخصاً، وقد وُجهت أصابع الاتهام إلى بعض عناصر الجيش والقوى الأمنية اللبنانية الذين يغضون النظر عن هذه الرحلات مقابل تقاضيهم رشاوى[27].

وتتقاطع التقديرات المحلية اللبنانية مع نتائج الرصد الذي قام به فريق البحث؛ إذ تشير تلك التقديرات إلى أن إجمالي الرحلات التي انطلقت خلال الأشهر المرصودة يُقدر بـ 28 رحلة، فيما وثقت عملية الرصد غرق 20 مركباً انطلقت من لبنان[28]، مع وصول قرابة 10 مراكب إلى سواحل إيطاليا.

أوروبا؛ الجنّة المتخيَّلة:

يحلم معظم المهاجرين غير الشرعيين بالوصول على أوروبا والبدء بحياة جديدة رغيدة؛ يحصلون فيها على ما يستحقون من حقوق، ويؤمّنون من خلالها حياة كريمة وفرص عمل لائقة ومستقبلاً أكثر استقراراً وأكثر ضماناً لعائلاتهم، لاسيما أولئك الذين تتيح لهم ظروف بلادهم التقدم بطلبات اللجوء؛ فالوضع القانوني المضمون والمساعدات المقدمة في دول اللجوء تشكّل عاملاً محفزاً بشكل إضافي تدفع المهاجرين -خاصة الشباب- للدخول في هذه المغامرة.

لكنّ الواقع يشير إلى تغيرات واضحة للدول في سياسات اللجوء، خاصة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية التي فتحت فيها الدول الأوروبية مصراعيها لاستقبال ما يقارب 7.6 مليون أوكراني دخلوا ضمن الحدود الأوروبية، سجل 4.2 مليون منهم ضمن برامج الحماية المؤقتة أو البرامج الوطنية المماثلة[29].

وقد أشارت العديد من السياسات الأوروبية إلى حالة من التمييز الإيجابي لصالح اللاجئين الأوكرانيين على حساب اللاجئين من جنسيات أخرى؛ فإلى جانب الدول الحدودية التي استقبلت الأعداد الكبرى من اللاجئين الأوكرانيين حلّت بولندا[30] في المرتبة الأولى، تليها ألمانيا، ثم سويسرا في أعداد طلبات اللجوء[31]، رغم أن جميع الدول الأوروبية كانت تشتكي من أزمة اللاجئين والأعباء التي خلّفتها.

الشكل 17: صورة من مركز استقبال طالبي اللجوء في هولندا[32]

ومن الجدير ذكره أن معظم الدول الأوروبية تشهد ازدحاماً غير مسبوق على مراكز تسجيل اللاجئين؛ ففي بلجيكا على سبيل المثال يضطر طالبو اللجوء إلى البقاء 3 أشهر في العراء بعد تقديم طلب اللجوء الأولي وأخذ البصمات، في انتظار أن يُتاح لهم مكان في مراكز الاستقبال[33]، وكذلك في هولندا يعاني اللاجئون في مخيمات الاستقبال من أوضاع إنسانية صعبة لم تراعِ احتياج العائلات وذوي الاحتياجات الخاصة[34]، وهو ما دفع بعض البلديات لاستئجار سفن سياحية لإيواء طالبي اللجوء، بعد تداول إشاعات حول إمكانية إيقاف طلبات اللجوء بشكل مؤقت؛ إلا أن تلك الإشاعات تم نفيها لاحقاً[35].

وقد وقّعت الدانمارك اتفاقية مع راوندا لإنشاء مركز للجوء خارج أراضيها، على غرار الاتفاقية التي وقعتها بريطانيا -وتم إيقافها- تسمح فيها بنقل اللاجئين الواصلين إلى أراضيها إلى دولة ثالثة ريثما يتم البتّ في طلبات لجوئهم[36]، فيما يحاول تيار داخل بريطانيا الضغط من أجل الانسحاب من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أوقفت قرارات ترحيل أصدرتها الحكومة البريطانية  في وقت سابق، من أجل إنفاذ السياسة التي تسعى إلى تخفيض عدد طالبي اللجوء على أراضيها، وذلك في إطار سياسات رادعة باتت تلقى رواجاً وقبولاً في الدول الأوروبية بهدف إبعاد اللاجئين عن أراضيها[37].

ثالثاً: ماذا وراء ارتفاع معدلات رحلات اللجوء عند السوريين؟

تشير العديد من التقارير إلى ازدياد ملحوظ في هجرة السوريين إلى أوروبا، حيث إن رحلات الهجرة غير الشرعية تستقطب السوريين المقيمين في مناطق سيطرة نظام الأسد ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” واللاجئين السوريين في لبنان والتي تتم عبر الطريق البحري لبنان – اليونان أو لبنان -إيطاليا، كما تستقطب أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، والسوريين المقيمين في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية حيث تتم عبر الطرق البرية أو البحرية[38].

وتبدو الأسباب الاقتصادية وانعدام الأمن وغياب أي بوادر لحل سياسي يعيد الاستقرار إلى سوريا ضمن العوامل المشتركة بين كل المهاجرين غير الشرعيين القادمين من داخل سوريا على اختلاف مناطق السيطرة، في حين يظهر السبب الاقتصادي كأحد الأسباب وراء الهجرة غير الشرعية للاجئين السوريين الموجودين في تركيا ولبنان، إلى جانب عوامل أخرى لا تقل أهمية وذات تأثيرات أوضح، منها: فقدان الشعور بالاستقرار والأمان، لاسيما بعد موجة التصريحات الرسمية التي تتحدث عن تصورات الحكومات المضيفة لبرامج “العودة الطوعية” أو نيّتها إعادة العلاقات مع نظام الأسد، إضافة إلى موجة العنصرية المتصاعدة ضد اللاجئين في كلا البلدَين[39].

ويشير بعض اللاجئين السوريين العازمين على تجربة الهجرة غير الشرعية إلى أنهم يبحثون عن الاستقرار والأمان وسط تصاعد مخاوفهم من الاستهداف أو القتل بعد موجات الخطاب العنصري الذي شاع مؤخراً في تركيا وأصبح الخطاب الأكثر انتشاراً مع اقتراب الانتخابات، بالإضافة إلى رغبتهم في حماية أبنائهم من التسرب الدراسي نتيجة ارتفاع معدلات العنصرية في المدارس التركية[40].

تشكل طبيعة الوجود القانوني للسوريين -خاصة في تركيا- إشكاليات جادّة تعزّز حالة عدم الاستقرار لديهم، لاسيما بعد موجة التشديد والتضييق في إجراءات الإقامة وأذونات العمل، وتجميد دائرة الهجرة التركية الكثير من بطاقات الحماية المؤقتة بحجة عدم تحديث عناوين السكن، وإغلاق بعض المناطق والأحياء أمام سكن الأجانب، مع يأس العديد من السوريين من الحصول على الجنسية التركية بعد إزالة ملفات التجنيس دون تفسيرات وأسباب واضحة، وهو ما فوّت عليهم سنوات من الانتظار والسعي وراء أمل بالاستقرار[41].

أما بالنسبة إلى لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية حادة فتحاول الحكومة استخدام ملف اللاجئين لأغراض سياسية، من خلال التضييق على اللاجئين واستغلالهم، والتحريض الشعبي ضدهم بحجة أنهم يستهلكون البنى التحتية والخدمات، بالإضافة إلى عمليات الاعتقال والترحيل التعسفي؛ وذلك بهدف تغطية الحكومة على فشلها، ومحاولة الضغط على الجهات المانحة للحصول على المزيد من المساعدات، إضافة إلى العلاقات الحكومية السورية اللبنانية التي تخدم مصالح نظام الأسد وحلفائه[42].

رابعاً: اللجوء وحظر الإعادة القسرية؛ إشكاليات على صعيد التطبيق[43]:

موجات الهجرة من الحوادث التي لا يمكن منعها؛ فقد تكررت خلال العصور، سواءٌ أكانت لأسباب طبيعية كالجفاف أو سياسية كالصراعات والحروب وغيرها، وقد لاقت قضايا الهجرة – الشرعية وغير الشرعية – الكثير من الاهتمام في العصر الحديث وتخصص لدراستها ومتابعتها أكاديميون ومؤسسات، لاسيما بعد ظهور مفهوم اللجوء واتفاقيات اللاجئين عقب الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان الهدف منها التخفيف من المخاطر التي يواجهها هؤلاء المهاجرون وطالبو اللجوء، والنظر إليهم بوصفهم ضحايا لظروف مختلفة لا مجرمين مخالفين للقوانين، وإلزام الدول بالاعتراف بحقوقهم ومراعاتها وتقاسم الأعباء والمسؤوليات فيما بينها.

وبالنظر إلى تركيزنا في هذا التقرير على واقع اللاجئين السوريين كان لابد من التوقف لتقييم وضعهم القانوني، ومراجعة الأسباب التي دفعتهم إلى معاودة الهجرة واللجوء مرة ثانية بعد استقرارهم مدة في دول كتركيا ولبنان وغيرهما، وما إذا كانت حقوق اللاجئين الواردة في الاتفاقات ستنطبق عليهم وستفرض على الدول نمطاً معيناً للتعامل معهم -كما يُفترض- أم لا.

تُعرّف اتفاقية اللاجئين – التي تشمل اتفاقية عام 1951 وبروتوكول 1967[44]– اللاجئ بأنه: “الشخص الذي غادر بلده بسبب خوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب تتعلق بالعرق، أو الدين، أو الجنسية، أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي؛ لأن بلده غير قادر على حمايته أو أنه غير قادر على العودة إليه”، وتُعد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الوصيّ على هذه الاتفاقية، وهي المكلفة بتوفير الحماية للاجئين على النحو المحدد في اتفاقية اللاجئين، والذي يتضمن تقييم الوضع في البلد الأصلي لمقدِّم الطلب.

ويعرّف المتخصصون في دارسات الهجرة واللجوء الاضطهاد بأنه: ضرر جسيم مقرون بفشل حماية الدولة قد يشكل تهديداً لحياة الشخص أو حريته، أو مجموعة من الحوادث أو التدابير التي تقوم بها الدولة وتشكل هذا التهديد وتلك الخطورة.

الشكل 18: الدول الموقعة على اتفاقية اللاجئين لعام 1951 والبروتوكول الملحق بها عام 1967

وقد توسع تعريف “اللاجئ” في اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية ليشمل طيفاً أوسع؛ حيث أصبح يشمل كل شخص اضطر لمغادرة مكان إقامته المعتاد من أجل التماس اللجوء خارج بلده الأصلي أو جنسيته بسبب عدوان خارجي، أو احتلال أو سيطرة أجنبية أو أحداث تخلّ بالنظام العام بشكل خطير في أي جزء من البلد أو في كل البلاد، وتشمل عبارة” كل شخص” الأفراد والمجموعات المهددة بالخطر نتيجة العنف المعمم، ثم تطور التعريف عام 1984 في إعلان قرطاج الخاص باللاجئين ليوسع التعريفات السابقة، فيشمل الأشخاص الذين فروا من بلادهم بسبب تعرض حياتهم أو سلامتهم أو حريتهم للتهديد من خلال العنف المعمم، أو العدوان الأجنبي، أو الصراع الداخلي، أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو غيرها من الظروف التي تخلّ بالنظام العام بشكل خطير[45].

وبالنظر إلى التعريفات السابقة نلاحظ أن توصيف “لاجئين” ينطبق على حالة المهاجرين السوريين غير الشرعيين، وحتى أولئك الذين يحملون صفة “اللاجئ” أو حامل بطاقة الحماية المؤقتة من السوريين الموجودين في تركيا ولبنان، والذين يشكلون الغالبية من أفواج اللاجئين التي تحاول الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، لاسيما وأنهم يفرّون من خوف محتمل واضطهاد قد يؤثّر في سلامتهم.

ومن جهة أخرى أوردت الاتفاقيات والوثائق السابقة نصوصاً واضحة تتحدث عن حظر الإعادة القسرية للاجئين بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي العرفي، وتحظر أيضاً الإعادة القسرية في مجالات أخرى، وهذا يشمل قوانين الحرب والنزاع المسلح والقانون الجنائي الدولي؛ إذ ينصّ القانون الدولي للاجئين واتفاقية عام 1951 المادة 33 على أنه “لا يجوز لأي دولة متعاقدة أن تطرد أو تعيد لاجئاً بأي شكل من الأشكال إلى حدود الأراضي التي تتعرض فيها حياته أو حريته للتهديد بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى مجموعة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي”، ويلزم هذا الحظر جميع الدول الموقعة على الاتفاقيات، حيث تشمل العودة القسرية رفض دخول الأشخاص إلى حدود الدولة، ويمكن أن يشمل اعتراض أو مقابلة الأشخاص الذين يسافرون من دولة إلى أخرى وإعادتهم أو السعي لمنعهم من الدخول.

ومن جهة أخرى يحمي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[46] عدداً من حقوق الإنسان المهمة، بما في ذلك الحق في الحياة، والحق في عدم التعرض للمعاملة اللاإنسانية والمهينة؛ فقد ذكرت اللجنة التي تراقب هذه الاتفاقية -لجنة حقوق الإنسان- أن الدول لا يمكنها تسليم، أو ترحيل، أو طرد، أو إبعاد أي شخص من أراضيها إلى حيث توجد أسباب حقيقية للاعتقاد بأنهم معرضون لخطر حقيقي أو لضرر لا يمكن إصلاحه.

وإلى جانب ذلك نصّت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة على حظر إعادة الدول الأشخاص عندما تكون هنالك أسباب جوهرية للاعتقاد بأنهم سيكونون في خطر حقيقي بالتعرض للتعذيب؛ وهذه الحماية من الإعادة القسرية أوسع من الحماية من الإعادة القسرية المنصوص عليها في اتفاقية اللاجئين[47].

ويُعد القانون الدولي العُرفي مصدراً مهماً للقانون حول ممارسات الدول؛ فهو وإن لم تُدوَّن مواده بالضرورة في معاهدة أو اتفاقية فإنه يتم قبولها على أنها قانون. وتُعد الإعادة القسرية محظورة أيضاً وفق قاعدة “القواعد الآمرة” التي لا يسمح بأي إعفاء أو انحراف عنها تحت أي ظرف من الظروف؛ ولذا فإن حظر الإعادة القسرية في القانون الدولي العرفي مطلق، وينطبق على الدول؛ سواءٌ أكانت موقّعة على اتفاقية اللاجئين أو أي من الاتفاقيات الأخرى أم لا.

وتنطبق هذه القوانين على أشكال أخرى من الحماية غير وضعية اللاجئ، وهي ما يُعرف بالحماية التكميلية، التي تقدمها الدول لبعض الأفراد الذين لا تعترف بهم “لاجئين”، ولكن لا يمكن إعادتهم. والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هي الوصي على هذه الاتفاقية وعلى تحديد الظروف التي يمكن فيها إنهاء وضعية الحماية واللجوء للاجئين وفقاً لظروف بلادهم.

وتشير الممارسات على أرض الواقع إلى أن دول الاتحاد الأوروبي وإن كانت غير قادرة على التملص من التزاماتها تجاه اللاجئين الذين يصلون أراضيها فإنها قامت بدعم عمليات الصدّ –أحد أشكال الإعادة القسرية – التي تتضمن انتهاكات لحقوق الإنسان في بعض الدول عن طريق وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي[48]، وغضّت الطرف عن العديد من الانتهاكات التي واجهها طالبو اللجوء على الطريق وتم توثيقها في العديد من التقارير الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة[49]. وعلى الرغم من النصوص القانونية الواردة في العديد من الاتفاقيات الدولية حول حظر الإعادة القسرية فإننا نلاحظ تورط دول أخرى موقعة على اتفاقية اللاجئين في عمليات الإعادة القسرية لطالبي اللجوء، دون إفساح المجال للنظر في قضيتهم، بل وتعريض حياتهم للخطر من خلال محاولات إغراق مراكبهم في البحر، أو غضّ النظر عن العصابات المنتشرة على حدودها وترتكب جرائم تصل إلى حد القتل والاغتصاب والاتجار بالبشر.

ولم تقتصر الانتهاكات المحصورة بالإعادة القسرية على عمليات الصدّ عبر الحدود؛ إنما تعدّت بعض هذه العمليات إلى الإعادة إلى سوريا – الدولة التي فرّ منها طالبو اللجوء – تحت ذرائع مختلفة ووفق قرارات فردية اتخذتها بعض الدول، دون التحقق إن كانت ظروف العودة ملائمة لضمان سلامة العائدين، رغم وجود العديد من التقارير التي ما تزال تؤكد أن سوريا غير آمنة[50]؛ فالتقرير الرابع والعشرون الذي أصدرته لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا يشير بشكل واضح إلى تجدُّد موجات القتال والعنف والتدهور الاقتصادي وانهيار النظام الصحي وموجة الجفاف، مما يؤكد أن البلاد غير صالحة للعودة الآمنة والكريمة للاجئين[51].

كما تؤكد العديد من التقارير الحقوقية الصادرة عن منظمات دولية أن سوريا ليست آمنة وأن الظروف ليست مناسبة لإعادة اللاجئين؛ فقد رصدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق العائدين إلى سوريا من قبل “الحكومة السورية” والميليشيات التابعة لها، ووصفت حياة العائدين بأنها “أشبه بالموت”، لاسيما وأن العديد منهم تعرضوا لحالات اعتقال أو احتجاز تعسفي أو تعذيب أو اختطاف أو قتل خارج القضاء أو اختفاء قسري أو حالات عنف جنسي[52]، ومما يؤكد استمرارية هذه الانتهاكات قيام نظام الأسد باعتقال الناجين من حاثة غرق المركب الذي انطلق من لبنان وكان يحمل مهاجرين غير شرعيين مؤخراً ليغرق قبالة السواحل السورية، بحجة مغادرة أو دخول البلاد بشكل غير شرعي أو أنهم مطلوبون للخدمة العسكرية[53].

وسواءٌ كانت عملية “العودة الطوعية” ستتم إلى مناطق سيطرة نظام الأسد كما تفعل لبنان أو كانت العودة إلى المناطق الخاضعة للإشراف التركي وتعاني الكثير من الإشكاليات الأمنية[54]؛ فلا يمكن القول بأن هذه العملية تتم أو ستتم بشكل طوعي، خاصة مع الضغوط الحكومية المرافقة، بل على العكس تسببت هذه الضغوط بموجات هجرة باتجاهات معاكسة وخلقت المزيد من الأزمات السياسية والإنسانية، ودفعت الآلاف من اليائسين إلى رحلات محفوفة بالمخاطر[55].

وفيما تتزايد الأسباب الداعية للهجرة غير الشرعية يبدو تفاعل المجتمع الدولي مع تلك الأسباب باهتاً أو متأخراً، يتعامل مع عوارض المشكلة دون أن يركز على جذورها، لاسيما مع السياسات التمييزية في التعامل مع اللاجئين وفقاً للعرق كاللاجئين الأوكرانيين على سبيل المثال[56]، وهو ما يثير العديد من الأسئلة الأخلاقية حول مبادئ العدالة والمساواة بين أجناس البشر والتي تُعد حجر الأساس في وثيقة حقوق الإنسان، وحول مدى صحة إغلاق الحدود وإبعاد طالبي اللجوء والباحثين عن الحماية من الاضطهاد قبل النظر في قضيتهم، فضلاً عن تعريضهم لخطر الموت والاستغلال من قبل المهربين، وتشجيع الدول على ممارسة المزيد من الانتهاكات التي تراها  هذه الدول مقبولة طالما أنها لا تطال مواطنيها.

ومن الملاحظ أن مصطلحات “لاجئ” أو “طالب لجوء” أصبحت ذات دلالات سلبية جداً في أذهان صانعي السياسات والجمهور ووسائل الإعلام، وبات الحديث عنها مقروناً بإشكاليات تتعلق بالخوق وتهديد الأمن والاقتصاد والثقافة، حتى في أكثر الدول ازدهاراً وتقدماً، بل تحولت قضية اللاجئين إلى قضية سياسية تُستخدم في ملفات داخلية وخارجية أسهمت في تقدُّم اليمين المتطرف في بعض الدول الأوروبية وازدياد حوادث الكراهية والاستهداف، رغم أن حالات الهجرة وتنقل البشر كانت أمراً واقعاً على مر العصور لا يمكن التهرب منه، فضلاً عن كونها وسيلة لانتقال المعارف والخبرات وتلاقح الحضارات.

وبينما يزداد التشديد على عمليات الهجرة غير الشرعية تتناقص فرص الهجرة النظامية، لاسيما للجنسيات القادمة من بيئات حروب أو صراع؛ إذ أغلقت غالبية دول العالم – خاصة الدول العربية – أبوابها أمام عمالة وافدة كانت مرغوبة في وقت سابق.

وتواجه سياسات اللجوء الحالية الكثير من الانتقادات لفشلها في تقديم حلول دائمة وواقعية للاجئين وللدول المستضيفة معاً، سواءٌ على مستوى الاندماج أو العودة الطوعية أو حتى إعادة التوطين؛ ولعل هذا الفشل دفع الدول التي تستضيف الأعداد الكبرى من اللاجئين إلى اتباع سياسات جديدة تحاول بها التخفيف من الأعباء عنها والضغط على المجتمع الدولي ودفعة لتقاسم المزيد من الأعباء المشتركة.

يحتاج السوريون أن يفهموا الظروف الحالية وتفاصيل الاتفاقيات الموقعة، وأن يستفيدوا من الأدوات المتاحة، لاسيما الأدوات القانونية، من أجل تنظيم أنفسهم وإنشاء مؤسسات خاصة بهم تُعنى بمتابعة الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان بحق اللاجئين السوريين وغير السوريين في كل مكان، والضغط باتجاه تحجيمها والحد من ضحاياها، وإثارة الوعي وإطلاق الحملات للتعريف بها.

 كما يحتاج السوريون إلى تطوير مفاهيمهم حول مواضيع الهجرة واللجوء، والعمل على إنتاج تقارير وأوراق أكاديمية ودراسات متخصصة في مواضيع الهجرة واللجوء؛ تعمل على تقديم رؤى وتصورات واقعية انطلاقاً من تجربة اللجوء السوري الهائلة، والبحث عن السبل والآليات التي تعزّز استقرار اللاجئين وتحافظ على حقوقهم وتمنع استغلالهم، وتساعد في تقديم حلول لهذه المشكلة التي تؤرّق العالم تسهم في احتوائها والتخفيف من خسائرها الإنسانية، ومضاعفة مكاسبها من الناحية السياسية والاقتصادية والثقافية.

يحتاج السوريون إلى فهم الظروف الحالية وتفاصيل الاتفاقيات الموقعة، والاستفادة من الأدوات المتاحة، من أجل تنظيم أنفسهم وإنشاء مؤسسات خاصة بهم تُعنى بمتابعة الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان، والضغط باتجاه تحجيمها، كما يحتاج السوريون إلى تطوير مفاهيمهم حول مواضيع الهجرة واللجوء، وإنتاج تقارير ودراسات متخصصة تعمل على تقديم رؤى وتصورات واقعية انطلاقاً من تجربة اللجوء السوري، للبحث عن السبل والآليات التي تعزّز استقرار اللاجئين وتحافظ على حقوقهم.


[3] شمل الرصد المجموعات الآتية :
[4] يتوقع فريق البحث أن تكون عمليات التهريب عن طريق ليبيا ومصر أكبر بكثير من هذا العدد، إلا أنه من الصعب رصدها ومتابعتها؛ لأن فرق المتابعة والإنقاذ للمهاجرين غير الشرعيين من هذه المنطقة محدودة، أو لم يصل إليها فريق البحث.
[5] نشرت إحدى المجموعات فيديو حصرياً وردها من مركز الاعتقال Isaakio في اليونان القريب من نهر ايفروس، حيث يشتهر هذا المعتقل بسوء المعاملة وبرائحته الكريهة، إذ يُحال إليه المحتجزون والمرضى ومن يعانون من حالات تسمم. يُنظر: صفحة مجموعة الإنقاذ الموحد، تاريخ النشر 12/9/2022.
[6] الشرطة اليونانية تعتقل عصابة مؤلفة من 9 أشخاص في أثينا، وتقوم هذه العصابة باختطاف مهاجرين وحبسهم في شقق أو بيوت في العاصمة اليونانية، وبعدها تقوم بتعذيب الضحايا وتصويرهم وتطالب ذويهم بدفع مبلغ 7000 يورو لكل شخص، وقد تم ملاحقة العصابة على خلفية معلومات وردت إلى الشرطة اليونانية تفيد باحتجاز ضحايا من قبل هذه المافيات، وبناءً على هذه المعلومات تم اعتقال المجموعة، وأثناء العملية تم تحرير رجل وزوجته وصلا إلى اليونان حديثاً واحتُجزوا في شقة في أثنيا وفُصلت الزوجة عن زوجها وتم تعذيبهم من أجل دفع فدية مالية. يُنظر:  الشرطة اليونانية تاريخ النشر 15/4/2022.
[7] فيديو صوره أحد طالبي اللجوء التائهين في الغابات اليونانية مطلقاً فيه صرخة استغاثة، تاريخ النشر 12/9/2022,
[8] موت مهاجرة سورية في الغابات اليونانية أثناء رحلة الهجرة، مجموعة الإنقاذ الموحد، تاريخ النشر 21/8/2022,
[9] تحذير ورد ضمن إحدى المجموعات حول مشاكل التقرحات التي يمكن أن تظهر نتيجة للسير المطول، مرفقة بصورة توضح شكل وحجم هذه التقرحات. تاريخ النشر 25/9/2022.
[10] تحذير حول أضرار حبوب الكبتاغون، خلية الإنقاذ، تاريخ النشر 11/9/2022.
[11] اليونان: عُنف ضدّ طالبي اللجوء على الحدود، هيومن رايتس وتش، تاريخ النشر 17/3/2020.
[15] اتهامات لليونان بصد المهاجرين باستخدام مهاجرين آخرين:
[16] الشرطة اليونانية تجبر طالبي اللجوء على دفع زملائهم المهجرين باتجاه تركيا:
[20] نداء استغاثة منذ ساعتين من قارب شراعي، مجموعة الإنقاذ الموحد، تاريخ النشر 20/8/2022.
[21] قام خفر السواحل اليوناني بتفجير قارب مطاطي يحمل مهاجرين أمام جزيرة ليسبوس ثم دفعه إلى المياه الإقليمية التركية قبالة سواحل منطقة Ayvacık في Çanakkale، وقد أسفر ذلك عن وفاة 6 أشخاص بينهم طفلان، فيما استطاع حفر السواحل التركي إنقاذ 15 آخرين. يُنظر:
[23] عبودية على أبواب أوروبا”… الشرطة اليونانية تجنّد طالبي لجوء سوريين لترحيل أقرانهم، مرجع سابق.
[25] قوارب هجرة عابرة للعنصرية، موقع الجمهورية، تاربح النشر 26/9/2022.
[26] المرجع السابق
[27] المرجع السابق.
[28] حملت هذه القوارب وفقاً للأرقام المنشورة قرابة 2200شخص، بمعدل وسطي يصل إلى 100 شخص في القارب الواحد، وقد أسفرت عمليات الإنقاذ عن إنقاذ ما يقارب 1950 شخصاً في المياه الإقليمية التركية أو القبرصية أو اليونانية، فيما توفي ما يزيد عن 135، ولا يزال 114 في عداد المفقودين.
[29] وضع اللاجئين الأوكرانيين، آخر تحديث 5/9/2022:
[30] رفضت بولندا استقبال أي لاجئ في الفترة بين 2013- 2015، خاصة المسلمين منهم. يُنظر: مقابلة مع أحد المسؤولين الحكوميين البولنديين، تاريخ النشر 8/3/2022.
[31] المرجع السابق.
[34] منذ بداية العام الجاري وصل أكثر من 13 ألف لاجئ سوري إلى هولندا، وخلال الربع الثاني من العام الجاري كانت غالبية من تقدموا بطلب لجوء في هولندا من السوريين، وبلغ عددهم بالمجمل 2260. أزمة اللجوء تتواصل في هولندا والحكومة تضغط على البلديات، تلفزيون سوريا، مرجع سابق
[36]  الدانمارك تتحرك بخطوات متسارعة نحو إرسال طالبي اللجوء إلى راوندا:
[37]  حل لأزمة الهجرة العالمية القادمة:
[43] اعتمدت هذه الفقرة في معلوماتها القانونية على ما ورد في أحد التدريبات التخصصية التي يقدمها مركز دراسات الهجرة في جامعة أوكسفورد.
[44] أزال بروتوكول عام 1967 القيود الزمانية والمكانية المتعلقة باللاجئين؛ فبعد أن كانت الاتفاقية تشمل فقط المقيمين في أوروبا الذين فروا من الاضطهاد قبل عام 1951، اعتمدت الدول الموقعة على اتفاقية عام 1951 هذا البروتوكول بتعديلاته، باستثناء أربع دول هي جمهورية الكونغو ومدغشقر وموناكو وتركيا التي أبقت التقييد المكاني. يُنظر:
[45] إعلان إقليمي غير ملزم لحماية اللاجئين اعتمد في عام 1984 من قبل مندوبين من 10 دول من أمريكا اللاتينية: بليز وكولومبيا وكوستاريكا والسلفادور وغواتيمالا وهندوراس والمكسيك ونيكاراغوا وبنما وفنزويلا. ومنذ ذلك الحين تم دمج الإعلان في القوانين الوطنية وممارسات الدول في 14 دولة، وقد تأثر الإعلان بـ«قانون كونتادورا بشأن السلام والتعاون» الذي استند في حد ذاته إلى اتفاقية اللاجئين لعام 1951 وبروتوكول عام 1967. يُنظر: إعلان كارتاخينا بشأن للاجئين، ويكبيديا.
[46] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية:
[48] شاركت وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي – الممولة من الاتحاد الأوربي – في ما لا يقل عن 145 عملية صد طالت ما يقارب 957 طالب لجوء في بحر إيجه بين آذار 2020 وسبتمبر 2021. يُنظر:
[49] رحلات يائسة، تقرير صادر عن مفوضية اللاجئين عام 2018:
تركيا ترحّل لاجئين… عائلات سورية تتمزّق، العربي الجديد، تاريخ النشر 6/6/2022.
[52] سوريا: اللاجئون العائدون يواجهون انتهاكات جسيمة، هيومن رايتس وتش، تاريخ النشر 20/10/2021.
[53] النظام السوري يعتقل ناجين من حادثة غرق “مركب طرطوس“، تلفزيون سوريا، تاريخ النشر 26/9/2022.
[54] للاطلاع على الواقع الأمني في مناطق سيطرة المعارضة السورية يُنظر: الواقع الأمني في الشمال السوري، مركز الحوار السوري، تاريخ النشر 17/5/2022.
[55] رحلة شتات جديدة.. قوافل تقل لاجئين سوريين في تركيا للوصول إلى أوروبا، الجزيرة نت، مرجع سابق.
[56] يقول رئيس مفوضية الأمم المتحدة: إن اللاجئين السوريين والأوكرانيين يجب أن يتلقوا “نفس المعاملة”.
Syrian and Ukrainian refugees should receive ‘same treatment‘, says UN commission chair, euronews, 5/7/2022.
The Moral Realism of Europe’s Refugee Hypocrisy, Foreign policy. 21/3/2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى