الإصداراتالراصدالقوى الدولية الفاعلة في الملف السوريوحدة تحليل السياسات

العملية العسكرية التركية في سوريا: توسيع تدريجي للهوامش التركية وسط تعقيدات الفاعلين

إضاءات تحليلية تصدر عن وحدة تحليل السياسات

على الرغم من وصف السياسة الخارجية التركية بالمحافظة وعدم التدخل في الشؤون الخارجية منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال، إلا أنه كان لهذه القاعدة استثناءان في التطبيق؛ الأول: مرتبط بالعامل القومي كما حدث في التدخل العسكري التركي لحماية القبارصة الأتراك، والثاني: مرتبط بالبُعد الأمني الخاص بالتصدي لمشروع حزب العمال الكردستاني PPK الذي ازداد نشاطه في شمال سوريا، فسعت تركيا للتصدي لنشاطه بعمليتَين؛ الأولى: في غصن الزيتون عام 2018، والثانية: في نبع السلام عام 2019. إلا أن هذه العمليات على ما يبدو لم تزل المخاوف التركية بشأن نشاط PKK؛ بل تزايدت مؤخراً، لاسيما مع التفجير الإرهابي الذي حصل في إستنبول، وكانت الاتهامات التركية واضحة فيه لقيادة الفرع السوري لحزب PKK المسمى PYD.

تفجير إستنبول؛ والشرارة:

كان من الطبيعي أن تقوم تركيا بالتصعيد ضد “قسد” في سوريا بعد تفجير شارع الاستقلال في إستنبول، والذي بدا أن أصابع حزب العمال الكردستاني تقف وراءه بحسب الأدلة التي عرضتها تركيا؛ حيث يُعرف عن الحزب إلى جانب بعض الأحزاب اليسارية استخدامه النساء في العمليات الإرهابية، بما في ذلك العمليات الانتحارية. وقد سعى حزب العمال الكردستاني PKK إلى إبعاد شبهة تنفيذ هذه الأعمال الإرهابية عنه وعدم رغبته في تبنّيها عبر عدة تكتيكات، منها: عدم الاحترافية في تنفيذ العملية، واللجوء إلى بعض أنصار الحزب أو التجمعات القريبة منه للتنفيذ، وإن أدى ذلك إلى عدم الدقة في تنفيذ العملية، مما يجعلها أقرب لأعمال الهواة. ويذكر بعض المحللين مثالاً على ذلك: ما حصل من زيادة أنشطة بعض الجماعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني بعد حادث تفجير الطائرة الروسية من قبل الدفاعات الجوية التركية في العام 2015؛ حيث نفّذت تلك الجماعات عدة عمليات، منها: قصف مطار صبيحة في إستنبول من العام نفسه بقذائف الهاون، حين أعلنت وقتها جماعة كردية تسمي نفسها “صقور حرية كردستان” عن تبنّي العملية، فيما أعلن المسؤولون الأتراك ارتباطها بحزب العمال الكردستاني الذي نفى علاقته[1]. ويرى محللون أن لجوء الحزب إلى تنفيذ العمليات الإرهابية عبر أذرع غير تابعة له مباشرة هو تكتيك يتبعه لنفي ارتباطه بالهجمات على المنشآت المدنية، وبالتالي عدم إحراج التحالف الدولي الداعم الرئيس للمرتبطين به في سوريا “قسد”.

 إذاً: قد يبدو بالفعل أن الهجوم مُنفَّذ من جماعات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني أو بـ”قسد” خاصة بشكل أو بآخر؛ وذلك على الرغم من نفي الأخيرة تنفيذها لهذا الهجوم على لسان قائدها مظلوم عبدي[2].

ولعل ما يدعم هذا الافتراض الذي يتكهنه محللون هو تشابه الدوافع، وهي ردات الفعل والانتقام؛ إذ إن الهجوم المذكور على مطار صبيحة في العام 2015 كان انتقاماً لعمليات الجيش التركي في شرق تركيا ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني في ذلك الوقت بحسب ما صرّحت الجماعة المنفّذة، وفي تفجير شارع الاستقلال في إستنبول أيضاً فإن عملية التفجير جاءت نتيجة للنشاط الكبير للمسيّرات التركية في استهداف عناصر PKK و”قسد” في سوريا والعراق بعد بدء الحرب الأوكرانية[3].

يبدو أن دوافع الانتقام ذاتها لهذه العمليات هي التي دفعت لتنفيذ هجوم على مركز للشرطة في مرسين التركية قبل أشهر[4]؛ حيث تسلّلت مقاتلتان من حزب العمال الكردستاني إلى تركيا عبر طائرة شراعية وفق التحقيقات[5]، ورأى بعض المحللين سابقة هجوم مرسين مؤشراً إضافياً على الجهة ذاتها المنفّذة لهجوم استنبول، إضافة إلى مؤشر استخدام النساء في الهجمات[6].

منبج، وتل رفعت، وكوباني؛ منابع التهديد التركية وأهداف العملية المرتقبة:

كان لافتاً إعلان وزير الداخلية التركي أن هجوم مرسين تم التخطيط له في منبج[7]، وقد أعلنت القوى الأمنية التركية عن تلقي المنفّذة للتفجير الأخير (أحلام البشير) أوامرها من شخص في منبج بناءً على اعترافها[8]، في حين أعلن وزير الداخلية أن التخطيط تم في عين العرب (كوباني)[9]، فيما تسارع الاهتمام بمدينة تل رفعت بعد إعلان الداخلية التركية عن مقتل أحد أفراد شرطة المهام الخاصة العام الماضي جراء استهدافه بصاروخ موجه انطلاقاً من بلدة تل رفعت[10]، لاسيما مع تكرار الهجوم والاستهداف بشكل مشابه قبل أشهر في العام الحالي[11]، ليخرج الرئيس التركي مراراً للحديث عن تطهير المناطق الحدودية من الإرهابيين بعمق 30 كم، مع ذكر مدينتَي تل رفعت ومنبج تحديداً[12].

إذاً: نستطيع أن نستنتج من تكرار التركيز في الخطاب الحكومي التركي على هذه المدن بأنها تشكّل مصدر قلق وتهديد أمني لتركيا، وتقع مدينة تل رفعت تحت النفوذ الروسي؛ إذ استولت عليها “قسد” بدعم جوي روسي في العام 2015 ردّاً (من ضمن ردود أخرى) على حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وبقيت حتى الآن، وعلى الأرجح فإن عين العرب ومنبج تقعان تحت النفوذ الروسي أيضاً، رغم أنهما كانتا تقعان سابقاً تحت النفوذ الأمريكي؛ إلا أن ذلك تغيّر بعد الانسحاب الأمريكي في عهد الرئيس السابق ترامب، حيث استفاد من الانسحاب كلٌّ من الأتراك (من خلال عملية نبع السلام) والروس الذين وسعوا مناطق نفوذهم، وما زال ثمّة جدل بين المطّلعين والمتابعين حول مدى وحقيقة وجود النفوذ الأمريكي في هاتين المدينتَين[13]؛ إلا أن التأثير الأمريكي عموماً موجود وإن كان بشكل غير مباشر[14]، لكن الأرجح أن النفوذ الروسي هو ما يمنع العملية العسكرية البرية في كل تلك المناطق وفق آراء المحللين[15]، وهو ما يعني أن روسيا هي العائق الأكبر أمام العملية العسكرية التركية حالياً، خاصة مع إرسالها رسائل تهديد غير مباشرة لتركيا من خلال قصف مخيمات اللاجئين الحدودية بالتزامن مع التصعيد التركي، والذي يعني إرسال رسالة لأنقرة مفادها أن التصعيد غير المنسق معها ضد “قسد” سيؤدي إلى تفاقم مآسي اللاجئين على الحدود التركية؛ في استغلالٍ متكررٍ لحساسية قضية اللاجئين في تركيا[16].

هل تأتي العملية العسكرية البرية ثمرةً لتوسعة الهوامش التدريجية؟

رغم الضوضاء الكبيرة حول العملية العسكرية البرية فقد قلّل محلّلون من احتمال حصولها بشكل عاجل وفق ما كان متوقعاً[17]؛ نظراً لعدم نضح التوافقات الدولية، ولا تبدو أنقرة مستعجلة على احتمال الغرق في مستنقع قد يسبب تكاليف عالية قُبيل انتخابات حساسة؛ مما يُرجّح التأني التركي ومحاولة توسيع الهوامش في التحرك بشكل تدريجي ومراكمة المكاسب الصغيرة وفق تكتيك “دبيب النمل”.

ويتضح هذا من خلال توسعة أنقرة نطاق هجماتها وعمقها وكيفيتها، وتوسعة الأهداف وطبيعتها؛ فلم تعد تقتصر العمليات التركية على الطائرات المسيرة، فقد استخدمت الطائرات الحربية في عمق جديد داخل الأراضي السورية يبعد عن الحدود أكثر من 70 كم في محافظة دير الزور[18]، وهو ما يشير الى تنسيقٍ عالٍ لتركيا مع الأمريكان والروس في استخدام المجال الجوي وفق محللين[19]. فضلاً عن ذلك فقد قصفت الطائرات التركية المرافق النفطية التي تسيطر عليها “قسد”، في تطورٍ نوعيٍّ جديدٍ في الأساليب التي تتبعها تركيا في محاربة “قسد” وما يغذّيها[20]؛ إذ يمثّل المورد النفطي أحد أهم مواردها، ويبدو أن الضربات كانت فعالة لدرجة تسببها في الأزمة النفطية الخانقة في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد حالياً[21]، وتأتي توسعة الهوامش التركية استمراراً للمكاسب التدريجية التي تحاول أنقرة الحصول عليها وتثبيتها كقواعد اشتباك جديدة لصالحها، وهو ما بدا بشكل واضح في استثمارها اندلاع الحرب الاوكرانية لتوسيع استخدام الطائرات المسيرة بشكل واسع.

هذا لا يعني طبعاً أن العمل العسكري البري مستبعد؛ فأنقرة تحاول الضغط بكل الوسائل للوصول إلى هدفها في السيطرة على المناطق الثلاث تحديداً (تل رفعت، وعين العرب – كوباني، ومنبج) سلماً أو حرباً وفق محللين[22]، عبر عملية واسعة أو جراحية صغيرة، وهذا الأخير هو المفضل والمرجح بمجرد رفع الحماية الروسية عن تلك المناطق. ولعل ما يدعم مؤشرات ذلك ما نشرته مؤخراً وسائل إعلامية عن مفاوضات وراء الكواليس بين تركيا وكل من الولايات المتحدة وروسيا؛ فقد نقلت الجزيرة عن مسؤول تركي أن روسيا طالبت بمكاسب متعلقة بأوكرانيا في مقابل تخلّيها عن حماية “قسد” في كوباني – عين العرب[23]، في حين طرحت الولايات المتحدة إعادة هيكلة “قسد”. وفي الوقت الحالي تحاول روسيا اللعب بشكل مزودج مع كل تركيا و”قسد”، فتحاول فرض تسليم مناطق “قسد” لنظام الأسد مهددة إياهم بالعصا التركية، وفي المقابل تحاول الحصول على مكاسب من تركيا مقابل غضّ الطرف عن شنّها عملية ضمن مناطق نفوذها. وحتى الآن لا يبدو نظام الأسد والروس مرنين مع “قسد” في المطالب، لتتكرر حالة عفرين حين غضّ الروس الطرف عن العملية لصالح تركيا[24].

هل يمكن لقوى الثورة والمعارضة الاستفادة من أية عملية تركية شمال سوريا؟

في الوقت الذي يراقبون فيه التطورات عن كثب يتساءل المعارضون السوريون الوطنيون في منتدياتهم عن انعكاسات العملية العسكرية المتوقعة على قضيتهم السورية، ويتبادلون الآراء حولها. ثمّة نقاط متفق عليها بينهم تقريباً؛ منها أن العملية يمكن أن يكون لها ثمار إيجابية كونها تسمح لمهجّري العديد من المناطق بالعودة إلى مناطقهم (كمدينة تل رفعت ذات الرمزية الكبيرة في الثورة السورية)، وفي الوقت ذاته هنالك تخوُّف من انعكاساتها على المدنيين الذين سيعانون من نزوح جديد ومآسي الحرب. يُضاف إلى ذلك تأكيد أن بناء نموذج حوكمة رشيد في مناطق المعارضة بات ضرورة قصوى؛ حيث بات المدنيون في مناطق “قسد” يخافون أيضاً من امتداد الفوضى الموجودة في مناطق سيطرة قوى المعارضة إليهم، فضلاً عن التخوف من ملف مصالحة أنقرة مع نظام الأسد، وسط التصريحات والتوجهات التركية الجديدة التي ما زالت حدودها وانعكاساتها على المعارضة السورية غير واضحة[25].


[1] وقع الهجوم بقذائف الهاون في 23 ديسمبر من العام في مطار صبيحة كوكجن بإسطنبول، وأسفر عن مقتل شخص وإلحاق أضرار بعدة طائرات.
وقد أعلنت جماعة كردية تطلق على نفسها اسم صقور الحرية في كردستان (TAK) مسؤوليتها عن الانفجار، وزعمت أن هذا الإجراء كان انتقاماً للحملة العسكرية الكبيرة التي قام بها الجيش التركي في جنوب شرق البلاد في تركيا بعد عودة الاشتباكات العنيفة بين الجيش التركي ومسلحي حزب العمال الكردستاني بعد فترة من الهدنة، ويقول المسؤولون الأتراك: إن TAK هي واجهة لهجمات حزب العمال الكردستاني على أهداف مدنية؛ لكن حزب العمال الكردستاني يدّعي أن TAK هي مجموعة منشقة لا سيطرة لها عليها. يُنظر:
[3] وجدت تركيا نفسها منذ اليوم الأول للحرب في موقف صعب يتطلب منها إبداء قدرٍ عالٍ من التوزان والانضباط في المواقف والتصريحات، وقد استطاعت أن تنجح في ذلك إلى حد كبير؛ مما جعلها تنتقل من خانة تجنُّب غضب أحد الطرفين الروسي أو الغربي إلى خانة استثمار الفرصة لتحقيق بعض المكاسب الجزئية في الملف السوري وفي ملفات أخرى، وقد كثّفت أنقرة في الشهرين الماضيين من وتيرة استهدافها نقاط “قسد” وقياديّيها في مناطق شمال شرق سوريا، وشملت الاستهدافات مناطق مثل تل تمر وعين عيسى، ورغم أن هذا النوع من الضربات كانت تركيا قد لجأت إليه في وقت متأخر من العام الماضي؛ إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية والموقف التركي منها شكّلا فيما يبدو عاملاً مهماً في انتزاع تغاضٍ روسي عن زيادة وتيرة هذه العمليات، وقد توسعت هذه العمليات كثيراً في الآونة الأخيرة، وامتدت كذلك لتشمل مناطق شمال غرب العراق في عملية عسكرية تركية ضد أهداف محددة لحزب العمال الكردستاني. يُنظر: عن استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وأبرز تداعياتها على المشهد السوري، مركز الحوار السوري.
[13] كانت هذه النقطة مثار جدل خلال اجتماع نخبة من المهتمين في الصالون السياسي في غازي عنتاب بتاريخ 3 كانون الأول 2022.
[14] كما شهدنا في حالة عفرين عندما أثرت التصريحات الأمريكية في كبح جماح غزو “هيئة تحرير الشام – هتش” لعفرين.
[16] حول الجولة 19 من محادثات أستانا، مركز الحوار السوري.
[20] غارات تركية على منشأة نفطية شمال شرقي سوريا، تلفزيون سوريا، 24 تشرين الثاني 2022.
[22] حول الجولة 19 من محادثات أستانا، مركز الحوار السوري.
[25] على سبيل المثال: كان هذا أحد التساؤلات الأساسية في النقاش الذي دار في الصالون السياسي في غازي عنتاب بتاريخ 3 كانون الأول 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى