الإصداراتالتقارير الموضوعيةوحدة تحليل السياسات

تحوّلات المشهد في السويداء: قراءة في الديناميات الداخلية وإجراءات بناء الثقة

تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري

مقدمة:

فجّرت التصريحات الأخيرة لشيخ عقل الدروز، حكمت الهجري، المشهد من جديد في السويداء، بعد وصفه للحكومة السورية بأنه “متطرفة مطلوبة للعدالة الدولية”[1]، وذلك بعد أن شهد يوم الأربعاء 12 آذار 2025 التوصُّل إلى وثيقة تفاهم أولية بين الحكومة السورية ووجهاء من السويداء[2] عقبَ يومٍ واحد من اجتماع عقده رئيس الجمهورية أحمد الشرع مع وجهاء وناشطين وحقوقيين من السويداء في دمشق وتم خلاله أيضاً الحديث عن “اتفاق” لتنظيم عملية التفاهم بين السلطة السورية ومحافظة السويداء.

وبغضّ النظر عن الجدل الدائر حول توصيف ما يجري بأنه “اتفاق” أو “ورقة تفاهم” أو “مبادئ أولية”، إلا أنه يمكن توصيفه إجمالاً بأنه كان خطوة نحو ترسيخ أسس وقواعد تؤدي لاتفاق أوسع وأشمل وأوضح في المرحلة المقبلة تصب في سياق سيادة الدولة وضمان حقوق المواطنين، إلا أن تصريحات الهجري خلطت الأوراق من جديد، وتزامنت كذلك مع زيارة نسّقتها “إسرائيل” للعشرات من رجال الدين الدروز إلى الكيان “الإسرائيلي” للمرة الأولى منذ نحو 50 عاماً[3]، ما جعلها تحمل أبعاداً سياسية وليس فقط “زيارة دينية” كما أُطلق عليها عموماً، تزامناً مع التصريحات “الإسرائيلية” عن تقديم التسهيلات لعمل الدروز في “إسرائيل” والتهديد بالتدخل العسكري لـ “حمايتهم” من النظام الجديد[4].

يقدّم هذا التقرير قراءة سريعة للمشهد الحالي في السويداء مع محاولة تحليل مضمون خطاب الهجري والمرور على دلالات ملامح التفاهمات الأخيرة بين دمشق ووجهاء السويداء، مستعرضاً مواقف الجهات المؤثرة في السويداء، وما يمكن أن يُبنى على التفاهمات من إجراءات لتعزيز بناء الثقة بين الطرفين، خاصة مع بعض التحديات المتعلقة بمحاولة “إسرائيل” خلق “قضية درزية” في سوريا، ضمن سياق تسويق نفسها كحامٍ للأقليات في المنطقة.

مواقف الجهات المؤثرة في السويداء:

قبل المُضيّ في استعراض دلالات تصريحات الهجري الأخيرة وتحليل بنود “الاتفاقين”/”التفاهمين” يجدر المرور على فهم طبيعة الجهات المؤثرة الفاعلة في السويداء وحقيقة موقفها من بعض القضايا ذات الصلة، لاسيما من حيث تعزيز مؤسسات الدولة أو الموقف من “إسرائيل”، وهي 3 جهات أساسية[5]:

  • الجهة الأولى: ترى ضرورة مد اليد نحو السلطة في دمشق، وأن السويداء جزءٌ لا ينفصل من الخارطة السورية، وأنه لا ينبغي أن تكون لها خصوصية مفرطة، وإنما ينطبق عليها ما ينطبق على كافة السوريين، ويمثلها بشكل خاص القيادي بـ “تجمع رجال الكرامة”، “ليث البلعوس”، وقائد “تجمع أحرار جبل العرب[6]“، سليمان عبد الباقي، ومواقفهما صريحة برفض التدخل “الإسرائيلي”[7]، كما تعرض عبد الباقي لمحاولة اغتيال أكثر من مرة[8].

ويدعم هذه الجهة أيضاً شيخ عقل الدروز حمود الحناوي الذي أعلن بشكل صريح دعمه للرئيس أحمد الشرع ورفضه للتدخل “الإسرائيلي”[9]، إضافة لشيخ العقل الثالث في السويداء يوسف الجربوع، الذي وصف المبادرات من السلطة الحالية بالإيجابية، ويتضح أن خطابه يميل إلى الوطنية السورية، مُعبّراً عن استغرابه من توقيع اتفاق مع الهجري لأن “السويداء أصلاً جزء من الدولة وهذا التوقيع لم يكن ضرورياً”، وفق تقديريه، كما إن موقفه صريح برفض الحماية “الإسرائيلية”، معتبراً أن  ما تقوله “إسرائيل” مرتبط ببعد سياسي لفصل الدروز عن محيطهم الإسلامي والعربي[10].

  • الجهة الثانية: ترى أن للسويداء خصوصية على أساس “طائفي”، وهي الجهة التي يُمثّلها شيخ العقل (حكمت الهجري) بشكل رئيسي وقد أعلن ذلك صراحة في تصريحه الأخير الذي قال فيه “نُفكّر بمصلحتنا كطائفة[11]“، ومن جانب آخر له تصريحات سابقة يشير فيها إلى أن موقفه عموماً مع الوحدة السورية ورفض التقسيم لكن مع ضرورة وجود ضمانات دولية لمدنية الدولة[12]، دون إدانة مباشرة وصريحة وواضحة للتدخل “الإسرائيلي” أو ادعاءات “إسرائيل” بأنها حامية للدروز، وإجمالاً يمكن توصيف مواقف الهجري بالمتقلّبة والمتغيرة، وهذا بدا واضحاً في خطابه الأخير الذي هاجم فيه الحكومة بعد يومين من عقد اتفاق معها في دارة قنوات وبحضوره.
  • الجهة الثالثة: وهي شريحة تُتهَم بالميل إلى التعاون مع “إسرائيل”، وهي التي يُمثّلها المجلس العسكري الذي تم الإعلان عنه مؤخراً[13]، علماً أن هذه الشريحة عددها قليل وليس لها حاضنة اجتماعية كبيرة.

وبغضّ النظر عن الفئة الثالثة التي لا تملك إلى الآن التأثير الواضح ولا الحاضنة المجتمعية، فإن الفئتين الأوليينِ لديهما فصائل عسكرية مؤثرة تواليهما بالإضافة لتأثير شيوخ العقل، ورغم الخلاف بينهما حول الموقف من دمشق إلا أن الفئة الأولى لا تريد إظهار مواقف صريحة برفض ما يخرج من شيخ العقل حكمت الهجري بما فيهم “الحناوي” و”الجربوع”، وبذات الوقت تعمل على فتح قنوات تواصل مع الدولة السورية.

من هنا يمكن فهم أن الخلافات الداخلية في السويداء هي التي أدت إلى حصول إشكال بوقوع “اتفاقين” خلال 24 ساعة، فـ “الاتفاق” الأول الذي حصل يوم 11 آذار بدمشق كان “تجمع رجال الكرامة” الذي يرأسه ليث البلعوس أحد الأطراف الحاضرة فيه، كما كان فيه ممثلون عن الهجري، إلا أنهم انسحبوا لأسباب غير معلومة[14]، وفي اليوم التالي 12 آذار استضافت مضافة الهجري وفداً من دمشق وتم توقيع “الاتفاق”/”التفاهم” الثاني.

قراءة في أبرز بنود “الاتفاقين”/”التفاهمين” ودلالاتهما:

إجمالاً، يمكن القول إن معظم البنود حملت مطالب عامة يطالب بها معظم السوريين وليس أهالي السويداء فقط مثل:

  • تعزيز الملف الشرطي والأمني تحت إشراف وزارة الداخلية وتفعيل الضابطة العدلية، وتسهيل معاملات الموظفين، والحفاظ على السلم الأهلي ومنع أي تعديات على الممتلكات العامة والخاصة.
  • بعض البنود حملت مطالب تميل إلى الخصوصية المفرطة، مثل عودة المنشقين إلى مناصبهم، رغم أن هذا المطلب أيضاً عام وتعمل الحكومة السورية على تنظيمه دون خصوصية محافظة أو إعطائها أولوية على محافظة أخرى.
  • أحد البنود ركّز على الجانب الاقتصادي، مطالباً بصرف الرواتب، وبإعادة النظر في حالات الموظفين المفصولين عن العمل قبل تاريخ 8 من كانون الأول الماضي، مع إعطاء الأولوية لإعادة توظيف من تم فصلهم تعسفياً، وهذا ما يشير إلى وجود رفض لمنهجية السلطة فيما عُرف بتعاملها مع ظاهرة “الموظفين الأشباح”[15]، وهذا الرفض يبدو طبيعياً نظراً للحالة الاقتصادية المتردية بعموم سوريا.
  • بعض البنود حملت مطالب سبق أن وعدت الحكومة السورية بتنفيذها، مثل تخصيص المبنى السابق لحزب البعث ليكون مقراً رئيسياً للجامعة في المحافظة.
  • بنود الاتفاق الأول إجمالاً لا تخرج عن سياق الثاني مثل دمج كامل المحافظة ضمن مؤسسات الدولة، وإلحاق الأجهزة الأمنية في السويداء بوزارة الداخلية السورية على أن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء السويداء، وهذه الحيثيات بالأصل يتم التباحث حولها منذ أسابيع بين الإدارة السورية وممثلين عن الجهات المنفتحة على دمشق من السويداء.

الخلاصة أن معظم البنود لم تحمل مطالب جوهرية مثل الإصرار على قضية المحاصصة الطائفية أو منح الحكم الذاتي للسويداء أو التمسُّك بورقة اللا مركزية، بل إنها بنودٌ تشمل مطالب شرائح واسعة من السوريين، ومع ذلك فإن هناك ملفات عديدة ما تزال قيد التفاوض بين الإدارة السورية ووجهاء السويداء وما جرى ليس نهائياً مع الإشارة إلى أنه لا يوجد جهة واضحة تستطيع القول إنها تمثل السويداء خلافاً لـ”قسد” الممثلة بقائدها مظلوم عبدي في الاتفاق مع دمشق.

ولكن تصريحات الهجري بعثرت المشهد في السويداء، وقد تعرقل جهود التفاهمات الجارية، وفق ما يأتي في رسائل الخطاب وتحليل مضمونه، ومن أبرزها:

  • الابتعاد عن الإطار الوطني السوري: فالخطاب يركز على حقوق الطائفة الدرزية بشكل منفصل عن السياق الوطني العام، مما قد يُفسر على أنه انعزال عن الهوية السورية الجامعة، دون الإشارة إلى المصلحة الوطنية السورية.
  • تهديد بتبديد التفاهمات الأخيرة مع حكومة الشرع: فإعلانه أنه “لا وفاق ولا توافق مع السلطات في دمشق” يتعارض مع الجهود الأخيرة التي قادتها السلطات السورية الجديدة لاحتواء مطالب السويداء وإيجاد حلول توافقية، وبذلك يمكن أن يُفهم هذا التصعيد على أنه محاولة لإعادة حالة المواجهة مع دمشق، بعد أن كانت التفاهمات تسير في اتجاه تهدئة التوترات.
  • إعطاء السويداء خصوصية على أساس طائفي: فاستخدام الهجري لخطاب “نكون أو لا نكون” يوحي بأن القضية تخص الطائفة الدرزية وأنه في طور التهديد أو الفناء، وهو ما قد يفتح المجال لجهات خارجية لاستغلال الورقة الطائفية في السويداء، وحتى بعض الجهات المرتبطة بالنظام المخلوع التي على تعمل على تفجير الأوضاع في سوريا طائفياً خاصة بعد أحداث الساحل الأخيرة.
  • وصم حكومة دمشق بـ “التطرف” والمطالبة بمحاسبتها دولياً: وهذا بحد ذاته يحمل دلالات تصعيدية أكبر ويقترب من مواقف بعض القوى الدولية التي تتعامل مع الوضع السوري من منظور العقوبات والعزل والشيطنة مثل “إسرائيل” وإيران، بغض النظر عن أن هذا التصريح تحديداً يعكس انفصال الهجري عن الواقع، فالجهات الدولية والموظفون الكبار بالأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان يُجرون لقاءات دولية مع الشرع بما فيهم المدعي العام لمحكمة الجنايات كريم خان[16].
  • غياب أي إشارة إلى الحلول السياسية أو التفاوضية: فالخطاب يعتمد على النفي والرفض دون تقديم بدائل عملية، مما قد يدفع بالأوضاع نحو مزيد من التأزيم، فهو لم يتحدث عن إمكانيات التفاهم مع حكومة الشرع أو الاستفادة من الوضع السياسي الجديد لصياغة حلول تُلبّي مطالب السويداء ضمن إطار الدولة، رغم ما حمله “الاتفاقان/التفاهمان” من إيجابيات هامة وفق ما سيرد في الفقرة التالية.

إيجابيات “الاتفاقين”/”التفاهمين”:

  • حمل الاتفاقان إشارات إيجابية بشكل عام لكونهما جاءا بعد وقت قصير من التفاهم الذي أُبرم بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية-قسد”، وهو ما شجّع وجهاء وفاعلين من السويداء فيما يبدو للمضي نحو خطوة مماثلة وحل الإشكاليات العالقة.
  • الاتفاق الثاني يحمل دلالة رمزية أكبر من الأول، لكونه صادر من دارة الشيخ حكمت الهجري وبحضوره، ما أعطى إشارة بأن السلطة الحالية تعمل على حل الملف بهدوء وأخذ بعض مطالب الهجري بعين الاعتبار.
  • إبقاء الملف بيد السوريين: حيث غاب أي ذكر لوساطات دولية في التفاهمين، ما قد يعكس رغبة واضحة من الطرفين في إبقاء المفاوضات ضمن الإطار الوطني، وهو أمر هام جداً لمواجهة مشاريع التقسيم.
  • الاتفاقات بشكل عام أعطت إشارة بمرونة السلطة وتمكُّنها من اكتساب العديد من التيارات في السويداء إلى صفها، ولاسيما على المستوى العسكري (حركة رجال الكرامة + تجمع رجال الكرامة + لواء أحرار الجبل + مضافة الجبل) وهؤلاء يشكلون نحو 70% من القوى المسلحة في السويداء[17]، ومن شأن دمجهم بوزارة الدفاع أن يشكل اختراقاً كبيراً في موضوع التخلُّص من الحالة الفصائلية بالسويداء.
  • تعزيز قنوات الاتصال المباشر: فالاتفاقان أظهرا أن هناك خطوط تواصل مفتوحة تكسر حالة الجمود وتمهد لاحتمال تطوير هذه التفاهمات مستقبلاً.
  • عزل الفئة المتعاونة مع “إسرائيل”: وهذا بدا واضحاً من خلال انخراط التيارات المؤثرة بالمفاوضات والتي كانت ضد محاولات الاختراق “الإسرائيلي”.
  • توحيد الخطاب الوطني تدريجياً: رغم اختلاف مواقف الفاعلين في السويداء، إلا أن كلا الاتفاقين لم يتطرقا إلى مطالب جوهرية مثل “الحكم الذاتي” أو “اللا مركزية الموسعة”، مما يعني أن الخطاب الوطني لا يزال يحظى بالأولوية، ولا يعني ذلك عدم وقوع مثل تلك المطالب مستقبلاً، خاصة بعد تصريح الهجري الأخير الذي يهدد بنسف جهود المفاوضات.

إجراءات يجدر العمل عليها لتعزيز الثقة:

من طرف وجهاء السويداء والجهات المؤثرة فيها، ينبغي العمل على:

  • تقديم الخطاب الوطني على الخطاب الديني الفئوي، ولا يعني ذلك إلغاء الخصوصية أو المكانة التي يتمتع بها شيوخ العقل أو الدروز عموماً، بل الدفع لأن يكون التأثير الذي يملكه شيخ العقل عاملاً مهماً في المضي نحو الوطنية السورية ودعم خطط الحكومة في أن يكون الاختيار بناء على الكفاءات لا المحاصصات الطائفية.
  • التوقف عن محاولة صناعة “درزية سياسية[18]“، خاصة أن السويداء جزءٌ أصيل من الجغرافيا والتاريخ السوري وأن السلطة نفسها تتبنى الوطنية السورية لا فكرة “الأكثرية السُّنية” أو “السياسية السنيُّة”، وهذا عامل مهم في تعزيز العلاقة مع كل المكونات السورية.
  • قبول شيوخ العقل وخاصة الهجري بحالة التنوع في داخل السويداء، وأن التمثيل لا يمكن أن يشمل كافة المكونات داخلها، إذ لا يمكن مقارنة حالة “قسد” شمال شرقي سوريا بحالة السويداء، فالأولى ممثلة بتنظيم عسكري وسياسي كسلطة أمر واقع دُعِمت دولياً، بينما في السويداء لا يوجد أي حزب أو تنظيم يستطيع القول إنه يُمثّل كافة مكونات السويداء، وفهم هذه التركيبة للمجتمع ستؤدي بالنتيجة إلى القبول بخيارات منوعة والعيش تحت سقف خلافات يمكن الحوار حولها.
  • التوقف تماماً عن طلب الضمانات الدولية لتطبيق الاتفاقات، والعمل على بقاء التفاهمات ضمن البيت والحوارات السورية، مع ترحيل الخلافات الجوهرية لوقت لاحق، على غرار اتفاق دمشق مع “قسد”.
  • الدفع نحو خطوة تفعيل مؤسسات الدولة وانتشار قوى الأمن العام والشرطة ضمن هيكلية وزارة الدفاع، وهذا بالفعل بدأ العمل عليه بعد افتتاح مركز انتساب للشرطة والأمن داخل السويداء[19]، ولكن مستقبل تفعيل هذه القوى وتبعيّتها للسلطات السورية لا يزال محل غموض، ما يهدد ببقاء حالة عدم الاستقرار الأمني في السويداء في ظل عدم وجود سلطة موحدة لضبط الأمن والتجاوزات المتكررة.
  • إدانة صريحة وواضحة من قبل الرئاسة الروحية للحماية “الإسرائيلية”، وليس الاكتفاء فقط بالحديث عن وجود رغبة في الوحدة السورية، ولا يُقصد هنا أن تكون السويداء مطالبة دائماً بإثبات الوطنية، لكن لا بد من قطع الطريق على “إسرائيل” بتلك المزاعم والحجج للتدخل بسوريا.
  • كذلك على القوى السياسية والمجتمعية التي قادت المظاهرات والاعتصامات في ساحة الكرامة لأكثر من عامين أن تؤكد موقفها الواضح في دعم الوحدة الوطنية، بعيداً عن أي اعتبارات طائفية أو مناطقية، وتعزيز خطاب جامع يرسّخ الشراكة الوطنية في مستقبل سوريا، خاصة أن هذه القوى أعادت رفع العلم السوري في مبنى المحافظة قبل أن تقوم مجاميع مسلحة بإنزاله مرة أخرى ورفع علم الدروز في مكانه[20].

من الجانب الحكومي:

  • يمثل تلبية بعض المطالب -التي يمكن تحقيقها- خطوة مهمة نحو تعزيز الثقة وتعزيز الاستقرار مثل تعزيز البعد الاقتصادي عبر التركيز على ملفات الرواتب، والموظفين المفصولين، أو دعم القطاع التعليمي الذي همّشه النظام المخلوع في السويداء، وهذه الخطوة بطبيعة الحال يجب أن تكون أولوية في عموم المحافظات السورية وليس في السويداء فقط.
  • كذلك يجدر بالحكومة السورية مواصلة التنسيق مع الجهات المؤثرة من الدروز سواء في سوريا أو حتى لبنان، مثل الزعيم وليد جنبلاط المعروف بمواقفه الوطنية وتحذيره للسوريين من “مكائد إسرائيل”[21] بهدف توحيد المواقف والدعم نحو تعزيز التفاهمات ضمن البيت السوري.

في مخاطر محاولة “إسرائيل” سلخ الدروز عن محيطهم العربي:

ومع استمرار تعقُّد المشهد في السويداء يظهر أن “إسرائيل” ماضية بمحاولاتها لتوظيف ورقة الدروز من أجل خلق واقع جديد في المنطقة يخدم أجنداتها التوسعية، عبر الترويج لفكرة الكانتون الدرزي ككيان مستقل يمكن أن يكون حليفاً لها[22]، متذرعة بحمايتهم من التهديدات المحيطة.

وتلك المحاولات لم تكن مجرد دعاية حتى الآن، بل امتدت فيما يبدو إلى خطوات عملية عبر تقديم دعم سياسي وإعلامي لبعض الشخصيات الدرزية ومساعدات إغاثية لبعض مناطق الدروز في جنوب سوريا وتسهيل الزيارات التي طابعها ديني لكنها تحمل أبعاداً سياسية في محاولة لإقناعهم بأن الارتباط بـ “إسرائيل” يوفر لهم حماية وامتيازات خاصة مستغلة كذلك الهشاشة الاقتصادية في سوريا، وبذلك تسعى لتحقيق هدفها بسلخ الدروز عن محيطهم العربي، وضرب أي إمكانية لوحدة وطنية داخل سوريا، ما يفتح الباب أمام تدخلها المباشر في الجنوب السوري بحجة حماية الأقليات، ويجعل من ملف الدروز ذريعة دائمة للعبث بأمن سوريا واستقرارها.

وهذه المقاربة ليست جديدة، فقد سبق لـ “إسرائيل” أن حاولت سلخ الدروز عن محيطهم العربي في فلسطين عبر سياسة “فرّق تسد”، مستغلة هشاشة بعض القيادات مثل شيخ الدروز موفق طريف الذي يدين بالولاء الشديد لـ”إسرائيل”، واليوم يبدو أن الرهان “الإسرائيلي” في السويداء يحاول إعادة إنتاج هذه السياسة، بهدف فرض معادلة جديدة تُضعف وحدة سوريا وتمنح “تل أبيب” نفوذاً أوسع في مستقبلها السياسي والأمني.

خلاصة:

مع تبلور مواقف معظم الأطراف الفاعلة في السويداء، يبدو أن العائق الأساسي أمام استقرار التفاهمات هو تقلب مواقف الشيخ حكمت الهجري، فبعد أن حسم كل من الشيخ يوسف الجربوع والشيخ حمود الحناوي موقفهما بوضوح، وعبّر ناشطون في “ساحة الكرامة” عن ميلهم للوطنية السورية عبر رفع العلم السوري في ساحة المحافظة، إضافة إلى انخراط فصائل وازنة مثل “تجمع رجال الكرامة” في التفاهمات، بات موقف الهجري يمثلاً تحدياً أمام عقد التفاهمات، بالتزامن مع تعزيز “إسرائيل” لسرديتها حول حماية الدروز وتهديدها بالتحرك لحمايتهم، وتقديم مغريات خاصة بهم مثل العمل داخل الكيان، فضلاً عن محاولة استمالتهم بعد تسهيلها للزيارة الأخيرة لرجال الدين.

ورغم المكانة التي يحظى بها شيوخ العقل عموماً في السويداء، إلا أن طبيعة المجتمع في السويداء ليست مؤدلجة دينياً بل تقوم على تعددية واسعة قومية وعلمانية وعشائرية…الخ، ومكانة شيخ العقل تبقى مكانة رمزية، ومن هنا يمكن القول إنه ومع وجود تأثير واضح للهجري حالياً على الموقف في السويداء والمكانة التي يحظى بها لدى معظم الأطراف الفاعلة؛ إلا أنه من غير المستبعد أن يفقد الهجري التأثير تدريجياً في مرحلة من المراحل، لاسيما إن استمر في إصدار مواقف متقلّبة، وخاصة أيضاً أن ميزان قوى فاعلة ومؤثرة في السويداء يتجه نحو تعزيز العلاقة مع دمشق، بعيداً عن الخطابات الرمادية وبرفض واضح للحماية “الإسرائيلية” المزعومة.


[5] يستند معظم هذا التصنيف إلى أحد أبناء السويداء الذين لديهم صلة واحتكاك بالمجتمع ولقاءات مع الجهات المؤثرة في مشيخة العقل وغيرها.
[6] يذكر أن تجمع رجال الكرامة وتجمع احرار جبل العرب من أشهر الفصائل المحلية في السويداء والمشهورة بمناهضتها سابقاً لنظام الأسد المخلوع لكن دون الصدام المباشر معه.
[7] السوريون يرفضون تصريحات نتنياهو ويحذرون من أطماعه، الجزيرة نت، 24 / 2 / 2025، شوهد في: 13 / 3 / 2025
[8] السويداء.. استهداف منزل قائد “أحرار جبل العرب”، عنب بلدي، 8 / 3 / 2025، شوهد في: 16 / 3 / 2025
[9] يشار في هذا السياق إلى أن “مشيخة العقل” في السويداء تعتبر “هيئة روحية” وزعامة دينية متوارثة يتصدرها ثلاثة شيوخ، وتتوارث المشيخة داخل ثلاث عائلات فقط، هي الهجري والجربوع والحناوي، ولا يمكن أن تخرج عنها، ولم يتضح موقف الجربوع من السلطات السورية، ينظر:
[11] الهجري يصعّد ضد دمشق: حكومة “متطرفة”، عنب بلدي، 13 / 3 / 2025، شوهد في: 16 / 3 / 2025
كما إن الهجري نفسه صرح أن الإدارة السورية الجديدة التي سيتم تشكيلها في نهاية الفترة الانتقالية الحساسة يجب أن ألّا تكون هيكليتها قائمة على أساس طائفي أو عرقي أو تفوق مجموعة ما، لأن هذا سيسبب مشاكل لسوريا ولكل دولة في المنطقة”، ينظر:
[13] في أول بيان له، قال المجلس العسكري في السويداء إنه يعمل بالتنسيق مع الزعيم الروحي للدروز حكمت الهجري، ويطالب بدولة علمانية لا مركزية، لكن الهجري يعرب عن رفضه لفكرة المجلس، كما أشارت بعض التقارير إلى تنسيق قيادة المجلس مع “قسد”، فيما ظهر مقاتلون من المجلس يعلنون الولاء لـ”إسرائيل” ويثنون على شيخ الدروز في “إسرائيل” موفق طريف، بينما ينفي المجلس وجود مثل تلك العلاقة، لكن وفق الباحث السياسي الذي تحدثنا معه خلال المقابلة فإنه أشار إلى أن المجلس بالفعل يميل نحو “إسرائيل“، ينظر مثلاً:
وينظر أيضاً:
من هو “المجلس العسكري في السويداء” وما موقف الهجري منه؟، منصة تأكد، 23 / 2 / 2025، شوهد في: 16 / 3 / 2025
[14] كما لم تشارك فصائل السويداء في مؤتمر النصر، وانسحب كذلك بعض ممثلي السويداء من مؤتمر الحوار الوطني السوري، ينظر مثلاً: رابط فيس بوك، شوهد في: 16 / 3 / 2025
[16] الشرع يلتقي المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الجزيرة، 17 / 1 / 2025، شوهد في: 15 / 3 / 2025
[17] مرجع سابق، رقم 1
[18] وفق تعبير استخدمه باحث سياسي من السويداء خلال مقابلة مع معد التقرير.
[19] الجيش السوري يفتتح مركز انتساب لصفوفه في محافظة السويداء، روسيا اليوم، 13 / 3 / 2025، شوهد في: 15 / 3 / 2025

باحث مساعد في مركز الحوار السوري، يعمل ضمن وحدة تحليل السياسات، كتب وشارك في العديد من الأوراق المتعلقة بتحليل سياسات الفاعلين في سوريا، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة الفرات السورية، عمل كاتباً وصحفياً ومدققاً لغوياً لعدة سنوات في العديد من المواقع والقنوات الإخبارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى