
كيف نُمثّل جميع السوريين في الاستحقاقات الوطنية؟
كشفت الأشهر الثلاثة الأولى بعد سقوط نظام الأسد عن الكثير من التحديات التي يُفترض على السوريين مواجهتها بحزم وذكاء، فبعد أن استشعر السوريون ذواتهم وانتماءهم وعودة ملكيتهم لبلادهم بعد ما يزيد عن نصف قرن من الديكتاتورية، وجدوا أنفسهم أمام مسؤولية المشاركة في إعادة بناء الدولة التي تم تدميرها منهجيّاً على مستوى الأفراد والمؤسسات لعقود.
كان هناك مزاج عام خلال الأشهر الماضية يميل نحو تفعيل التشاركية، وتعزيز التنوع، وإعادة إدماج كافة المكوّنات السورية في أنماط السلطة المستقبلية، وتكرّرت في العديد من المواضع مطالب التشميل والتمثيل؛ سواء في أعضاء الحكومة الانتقالية أو المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني والجلسات التحضيرية التي سبقته وصولاً إلى لجنة صياغة الدستور.
معضلة التمثيل والتشميل في المشهد السوري:
تصاعدت وتيرة الانتقادات بشكل حاد خلال الجلسات التحضيرية وجلسة الحوار الوطني والتي أشارت إلى غياب مكوّنات، أو أسماء، أو ممثلين لجهات، أو مجموعات، أو مناطق ما، ووصلت الانتقادات إلى اتهامات بالتجاهل والتهميش لمكوّنات أو تيارات لها تاريخها ودورها، وبالغ البعض مطالبين بتمثيل بعض الأحياء التي كان لها حضورها خلال الثورة وقدّمت الكثير من التضحيات.
لا يمكن اعتبار هذه الانتقادات غير محقّة، خاصة وأن السوريين يستكشفون حالياً وجودهم في الفضاء العام، ورغم أن البعض ينتقد من منطلق الرغبة في تصدُّره المشهد، أو من منطق النقد لأجل النقد، إلا أن الكثيرين انتقدوا من منطق الرغبة في المشاركة والمساهمة الحقيقية في صناعة مستقبل البلاد، وعدم تكرار الأخطاء السابقة بتجاهل وتهميش مكوّنات كاملة عن المشهد العام.
ويبدو المشهد السوري الداخلي مربكاً عند الحديث عن مجموعة تُمثّل التنوّع السوري المعقّد، فعلى مستوى الأعراق في سوريا هناك العرب والكرد والشركس والتركمان والآشوريين السريان، وعلى المستوى الديني فهناك المسلمون السنة والشيعة والعلويون والإسماعيليون إلى جانب الدروز والمسيحيين الأرثوذوكس والكاثوليك والمارونية والأرمن والأيزيديين.
أما على الجانب الجغرافي، فهناك تمثيل المحافظات السورية والتي تخلق إشكالية إضافية حول التمثيل على مستوى المدن الكبيرة والصغيرة والنواحي والبلدات والعشائر، أما على المستوى المهني فلابد من وجود تمثيل للمهن المختلفة كالأطباء والمهندسين والتجار والعمال والفلاحين والفنانين وغيرهم، عدا عن تمثيل مكوّنات المجتمع المدني كالنقابات ومنظمات المجتمع المدني وشبكاته وقيادات المجتمع الأهلي.
وفيما يتعلق بتمثيل الفئات المختلفة، يظهر التحدي في تمثيل كلّ من الرجال والنساء وشريحة الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة بمن فيهم متضرّرو الحرب، أما بالنسبة للتوجُّهات الفكرية والسياسية فنقف أمام طيف واسع بين العلمانيين والليبراليين وصولاً للمحافظين وحتى الإسلاميين، عدا عن ممثّلي الأحزاب والتيارات السياسية القديمة والناشئة خلال سنوات الثورة والمحسوبين على النظام السابق والرماديّين، وضمان تمثيل المغتربين والنازحين والمهجّرين قسرياً.
وعلى افتراض قدرتنا على استحضار هذه المكوّنات كلّها وعدم تجاهل أو نسيان أحد منها، تظهر إشكالية أخرى حول شكل التمثيل المطلوب، هل سنتجه باتجاه التمثيل المتكافئ؟، أي ممثلين متساوين بالعدد عن كل مكوّن، أم نتجه للتمثيل النسبي والمثقل الذي يعكس حجم وأوزان هذه المكونات على الواقع؟.
لقد حاول المجتمع الدولي سابقاً متمثلاً بالمبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان ديمستورا أن يتعامل مع هذه المعضلة عندما شكل المجلس النسائي الاستشاري، الذي حاول فيه تضمين ممثّلات عن مكوّنات المرأة السورية المتنوعة، ولكنه لقي الكثير من الانتقادات ولم تفلح محاولاته حتى بعد توسيع المجلس في تقديم عينة تعكس الواقع في سوريا نظراً لتشابكه وتعقيده.
ما هو شكل التمثيل الشامل والعادل الذي يرضي غالبية السوريين؟
قد يكون هذا السؤال من أعقد الأسئلة حالياً خاصة مع وجود استحقاقات مختلفة تتضمن مشاركة أكبر طيف ممكن من الجمهور السوري المتنوع، وغياب القدرة على عمل انتخابات تسمح للسوريين بانتخاب ممثلين رسميين عنهم، ويحتاج إلى الكثير من العمل والاستعداد والخبراء والمراجعات والتطوير والوقت، إذ لا يمكن تحديد شكل هذه العيّنة الإحصائية التي تمثل المجتمع من المحاولات الأولى، وسأحاول في هذه السطور تقديم مقترح قابل للتطوير للوصول إلى تصميم هذه العينة بشكل عادل ومرض لغالبية الأطراف والمكونات.
يحتاج السوريون بداية إلى إعادة تفعيل السجل المدني وأتمتته بشكل عاجل يشمل جميع المحافظات السورية، وتسجيل كل الولادات والوفيات وحالات الاعتقال والاختفاء القسري التي حدثت خلال السنوات الماضية، ثم إطلاق عملية تعداد سكاني مبنيّ على منهجية رصينة تشمل السوريين في كافة المناطق السورية وخارجها، تعطي معلومات دقيقة عن حجم المكونات المختلفة وأماكن وجودها وصفاتها الشخصية وكل المعلومات المطلوبة لفهم خصائص المجتمع السوري الأصيلة والطارئة.
ومن الضروري في مثل هذا المشروع الوطني الكبير التعاون مع جهات دولية لتأمين الدعم اللازم له، والإشراف على دقة وصحة البيانات الواردة منه ومنهجية جمعها، إذ إن هذه البيانات قابلة للتلاعب أو الطعن أو التشكيك، ومن الضروري أيضاً مشاركة هذه الأرقام مع السوريين بشفافية كاملة لمعرفة التغيُّرات التي طرأت على المجتمع السوري خلال سنوات الصراع والقتل والتهجير، والأوزان الجديدة، ومناطق التوزع، والانتشار.
وبعد إتمام هاتين المرحليتين يبدأ عمل المتخصّصين الإحصائيّين في تصميم عينة نموذجية تمثيلية متساوية[1] أو نسبية[2] أو حصصية[3] أو طبقية[4] وفقاً لما يتفق عليه السوريون، وتحديد خصائص هذه العينة وصفاتها ودرجة الخطأ المتوقع فيها، وعرض النتائج التي تم الوصول لها لتصبح معياراً يمكن القياس عليه في أي استحقاقات قادمة تُسهّل على القائمين عملية الاختيار.
وإلى جانب ذلك كله، يحتاج السوريون حكومة وشعباً إلى قاعدة بيانات عامة تضم الكفاءات السورية وصفاتها لضمان إشراك أفضل الكفاءات التي تُمثّل المكونات التابعة لها، وقطع الطريق على الواسطة والتزكية والمحسوبية، والتأكُّد من عدم تورُّطها في جرائم سابقة، فليس الهدف مجرد التمثيل الكمي وإنما ضمان التمثيل الكمي والنوعي في ذات الوقت، وضمان توافر بدائل للمرشّحين المعتذرين بحيث لا يتم الإخلال بتشكيل هذه العينة.
تحديات التمثيل والتشميل في المراحل الانتقالية:
يعتبر إشراك المكونات المختلفة وتمثيلها بشكل عادل وسيلة أساسية لكسب الشرعية في المراحل الانتقالية وبناء الثقة، وبالنظر إلى طبيعة المراحل الانتقالية التي تحمل في طياتها الكثير من التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية والتي يصعب معها تحقيق التمثيل الكامل العادل المرضي، يمكن في هذه المرحلة العمل على تحقيق تمثيل نسبي وجزئي في بعض الاستحقاقات، بينما من الضروري الحرص على تمثيل واسع في استحقاقات أخرى.
ففي عمليات المصالحة الوطنية والحوار الوطني ومسار العدالة الانتقالية والمجلس التشريعي المؤقت وصياغة الدستور والمجالس والهيئات الرقابية تقتضي المصلحة العامة التوجُّه للتمثيل الواسع والعادل الذي يعكس حالة التنوع والمشاركة الفاعلة، في حين تتطلّب استحقاقات أخرى ذات طابع تخصُّصي التركيز على الكفاءة والخبرة كأولوية بغضّ النظر عن التمثيل الكامل كما في تشكيل الحكومة الانتقالية ولجنة الصياغة الدستورية واللجان التخصصية الأخرى مع مراعاة تحقيق التمثيل ما أمكن دون التنازل عن أولوية الخبرة والكفاءة.
ومع ذلك كله، لا بد من إنشاء وعي شعبي عام يفهم الفرق بين الاستحقاقات التي تتطلب تمثيلاً عادلاً وشاملاً، وبين تلك التي لا تتطلب، فما أسهل أن نعلق في دوامة التمثيل والتشميل دائماً وأن يتحوّل هذا الأمر إلى عبء يعرقل الأعمال الطارئة والتخصُّصية ويعيد تكرار ذات الوجوه في كل الفعاليات، كما لا يجب التهاون في اختيار الكفاءات الأفضل المشهود لها بالوطنية في أي مجال تقني مهما كانت خلفيتها بما يخدم المصلحة السورية.
لقد وقع السوريون بعد الثورة في فخ المحاصصة عند إنشاء العديد من الكيانات المعارضة، وكانت هذه المحاصصات وسيلة لإضعاف هذه الكيانات وهيمنة مجموعات عليها، والزج بشخصيات إلى الواجهة من منطلق الولاء للمجموعة لا الكفاءة والوطنية، فتحوّلت هذه الأجسام إلى لوبيات متصارعة وفشلت في تحقيق الاستحقاقات المطلوبة منها في هذه الفترة الحرجة، والأهم من ذلك كله أنها خسرت شرعيتها الشعبية بعد أن عجزت عن تحقيق طموحات حاضنتها الشعبية، وطفت خلافاتها الداخلية على السطح.
إن تحدّي تحقيق التمثيل والتشميل والكفاءة والحفاظ على التوازن بينهم، والانتباه من الوقوع في فخ المحاصصات أو التهميش والتغييب يتطلّب من السوريين وعياً عميقاً وحوارات شفافة، تساعدهم في التفكير في وسائل مشاركة بديلة وفاعلة، وتخلق حالة من الرقابة الشعبية المتوازنة، وتقطع الطريق على الذين يسعون إلى إثارة الفتن وتجييش الرأي العام من خلال بث الأخبار والمعلومات المضللة، ورغم أن المشاركة بحدّ ذاتها هدف ومطلب محق، ولكن الأهم من ذلك ضمان وصول أصوات الجميع والحديث بلسانهم ونقل همومهم، حتى لو لم يكونوا موجودين بكافة الطرق الممكنة.
نحو تحقيق التمثيل العادل والواعي والمنضبط:
رغم كل الإشكاليات الواضحة أمام هذا التمثيل ورغم تعقيد المشهد والتحديات التي قد تواجهه من جهة التوافق على المنهجية والدعم المالي والموثوقية السياسية الوطنية والدولية، لا يمكن التنازل عن حق المشاركة العادلة والتمثيل في الاستحقاقات التي تتطلب ذلك، ويمكن للسوريين صياغة توجُّهات جديدة تضمن إشراك الجميع في عملية بناء الدولة سواء بتحقيق التمثيل الشامل المنهجي، أو بتحقيق التمثيل النسبي أو الجزئي، وفقاً للاستحقاق والهدف والمدى الزمني.
إن ضمان تمثيل كافة المكونات والفئات الضعيفة والهشّة والمهمّشة هو الخطوة الأولى نحو تعزيز العدالة والمساواة وتعميق الشعور بالانتماء والمواطنة وقطع الطريق أمام المحسوبيات والمحاصصة، عدا عن كونه وسيلة لتقليل التوترات الاجتماعية والاستقطاب الداخلي والسياسي، فهو يُعزّز التماسك السياسي ويشجع الجميع على المشاركة السياسية وعلى إسماع أصواتهم للآخرين بشكل عادل وشفاف، بما يساعد على الحصول على وجهات نظر متنوّعة، وتعويض حالة التمييز والإقصاء التي عاشها السوريون لما يزيد عن نصف قرن من الزمان.
إن زيادة الوعي بالتنوّع الاجتماعي والثقافي والديني في سوريا واحترامه وتعزيزه قد يكون الخطوة الأولى في رأب الصدع وإعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة، وإن إدارة هذا التنوّع بالشكل الأمثل والمطلوب -وإن كان يحمل في طياته الكثير من التحديات- إلا أنه صمام الأمان الذي بإمكانه أن يقود البلاد إلى عملية تعافٍ متسارعة تضمد الجراح وتُعيد بناء الدولة على أسس سليمة.
إن وضع تصوّر وتصميم لعيّنة تمثيلية لكافة المكوّنات السورية؛ سواء تلك التي تعكس التنوع السوري بشكل شامل وواسع، أو تلك التي تُقدّم نموذجاً جزئياً عنه أمر له أهميته في هذه المرحلة، فهو يقطع الطريق على الكثير من الاستقطابات السياسية الداخلية والتدخُّلات الخارجية، كما يمكن اعتباره ضرورة استراتيجية لإعادة بناء الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية على أسس سليمة، فعندما تُجمع الأصوات المتنوّعة وتُحتضن الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية والفكرية، تتحوّل التحديات إلى فرص تضمن بناء مستقبل أكثر عدلاً وشفافيةً وغنًى، وتعيد الاستفادة من كافة الطاقات السورية المبدعة في إطار بناء دولة قوية ومجتمع مستقر ومزدهر ومتنوّع.
مديرة الوحدة المجتعية في مركز الحوار السوري، بكالوريوس في الهندسة من جامعة دمشق، دبلوم في التخطيط العمراني وإعادة الإعمار المستدام، عملت في مجال الإعلام المكتوب والمسموع لعدة سنوات، نشرت العديد من الأوراق والتقارير البحثية في مواضيع سياسية واجتماعية، وخاصة ما يتعلق بأوضاع اللاجئين وقضايا المرأة