الأبحاث والدراساتالإصداراتالتقارير الموضوعيةالوحدة المجتمعيةوحدة الهوية المشتركة والتوافق

الإسقاط والتخوين عند السوريين؛ حالة عابرة أم ظاهرة؟ قراءة اجتماعية نفسية في الأسباب

تتردد بين أوساط السوريين كثيرٌ من المقولات التي تنتقد اختلافهم وتفرُّقهم وتعاملهم الحادّ فيما بينهم، وانقساماتهم وعدم قدرتهم على العمل الجماعي، ويُرجع العديد من الخبراء والمطّلعين هذه الحالة إلى ضعف الثقة بين السوريين؛ والتي أدت لاحقاً إلى شيوع حالة من التخوين والإسقاط والاعتراض الجاهز على أية مبادرة أو مشروع أو حملة أو عمل يحمل في طياته منفعة للسوريين أو لشريحة منهم.

وتبدو هذه الحالة بشكل أوضح على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ باتت الوسيلة الأهم التي يتلقى منها السوريون المعلومات والأخبار، ويعبّرون فيها عن أفكارهم وتطلعاتهم ومشاعرهم وخيباتهم، ويتفاعلون فيها مع الأحداث، وأصبحت ردود الأفعال الشعبية تأخذ نمطاً عاماً ملاحظاً؛ لكنّ من الصعب الحكم عليه حالياً في ظل غياب الدراسات والأبحاث المركّزة.

يرتبط موضوع الإسقاط والتخوين بالثقة المجتمعية، التي تُعد أحد محاور اهتمام مركز الحوار السوري ضمن وحدة التوافق والهوية المشتركة[1]، خاصة ما يتعلق بكيفية بنائها على المستوى الفردي والمؤسساتي، إلى جانب اهتمام مركز الحوار السوري بدراسة التغيرات الاجتماعية التي طرأت على السوريين في السنوات الماضية، ولاسيما تلك المتعلقة بالعمل المدني والإنساني[2]، لذا كان من الضروري مناقشة هذا النمط الشعبي المتكرر ودراسته وتفكيك مفاصله؛ إذ يراه العديد من الخبراء مشكلة معقدة ومتداخلة، ترتبط مع العديد من المشاكل الأخرى بشكل يجعل فهمها بداية ثم تفكيكها واقتراح الحلول لها أمراً بالغ الصعوبة.

يرتكز هذا التقرير إلى جانب ما ورد في بعض الكتب والتقارير بوصفها مصادر ثانوية إلى مخرجات ورشة نقاش مركزة على مستوى الخبراء بوصفها مصدراً أولياً؛ فقد ضمّت الورشة مجموعة من الخبراء في العمل الإنساني ومن العاملين الأكاديميين المختصين في الشأن النفسي والاجتماعي والتربوي والباحثين[3]، وركّزت على دراسة حالة حملة الإيواء التي أطلقها أحد الفرق التطوعية في شتاء 2020، والتي يمكن أن تكون نموذجاً للمبادرات التي تنقسم حولها الآراء بين مؤيد ومعارض وتتنامى ردود الأفعال في بعض الأحيان لتأخذ سياقات متطرفة، من خلال متابعة ردود الأفعال المختلفة على تلك الحملة ودراستها، كما سيركز التقرير على الجانب النفسي الاجتماعي المرتبط بالحاضنة الشعبية أكثر من تركيزه على دراسة العوامل الموضوعية المتربطة بنشاط المؤسسات والجهات العاملة.

وقد أُعدّ هذا التقرير بناءً على قاعدة “تشاتام هاوس”[4]، ومن دون التقيد بالترتيب الزمنيّ للعرض والمداخلات؛ إذ استُخدم التقسيم الموضوعيّ بقصد ترتيب الأفكار بطريقة سلسة وموضوعيّة تساعد القارئ الكريم -قدر المستطاع- على متابعة الموضوع.

أولاً: “حملات الإيواء التي ترافقت مع العاصفة الثلجية في شتاء 2022” دراسة حالة:

مع اقتراب موسم الشتاء لعام 2022 أطلق أحد المؤثرين الكويتيين على مواقع التواصل الاجتماعي المعروف باسم “أبو فلة” حملة جمع تبرعات ضحمة تشرف عليها المفوضية السامية للأمم المتحدة تحت عنوان “أجمل شتاء في العالم”، بهدف جمع 10 مليون دولار تبرعات للأسر اللاجئة والنازحة والأقل حظاً في الوطن العربي وإفريقيا[5]،  وذلك عقب نجاح مبادرته الفردية التي أطلقها في تشرين الثاني 2021 وتمكن فيها من جمع مليون دولار خلال 28 ساعة تحت عنوان مبادرة “دفّي قلوبهم”[6].

وعقب حملة “أجمل شتاء في العالم” أطلق فريق ملهم التطوعي[7] حملة “حتى آخر خيمة”، التي استهدفت جمع مبلغ من التبرعات يُقدر بـ 400 ألف دولار لبناء مساكن إسمنتية من أجل نقل سكان مخيمين عشوائيين في الداخل السوري يُقدر عددهم بـ 86 عائلة[8]، وهي حملة جديدة تأتي ضمن سياق مجموعة حملات إيواء سابقة كان الفريق التطوعي قد أطلقها في وقت سابق.

 وصُمّمت حملة التبرع “حتى آخر خيمة” بشكل يتشابه في الكثير من النواحي الفنية والتقنية مع الحملة التي أطلقها “أبو فلة”، واختلفت عنها بأن الخيمة التي كانت مركز عملية لاستقبال التبرعات قد أُقيمت ضمن المخيم العشوائي المستهدف نقل سكانه، كما أن تنفيذ الحملة سيكون فورياً بمجرد اكتمال مبلغ التبرع، وسيتم أيضاً من قبل فريق سوري[9].

وقد تزامن انطلاق الحملة مع عاصفة ثلجية عنيفة ضربت المنطقة واستمرت لفترة طويلة، تم فيها تنفيذ الحملة رغم الظروف الجوية الصعبة؛ حيث لاقت الحملة تجاوباً كبيراً وبلغت الهدف المنشود في الساعات الأولى، مما دفع المنظّمين لرفع سقف استقبال التبرعات للحملة وتمكنوا من جمع ما يزيد عن 2 مليون دولار خلال أسبوع واحد يمكن من خلالها تأمين سكن لأكثر من 500 عائلة[10].

وبعد رصدٍ ومتابعةٍ للردود الشعبية على هذه الحملة، سواءٌ الردود المؤيدة أو المعارضة أو المشكّكة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ فيمكن ملاحظة أن ردود الأفعال مرّت بمراحل: فمع الإعلان عن إطلاق حملة جمع التبرعات قُوبل هذا الإعلان بالاستهزاء والتسخيف من جدوى هذه الحملة؛ وأنها نسخة مقلدة “رديئة الجودة” للحملة السابقة التي قام بها المؤثِّر الكويتي بالتشارك مع مفوضية اللاجئين، يحاول فيها هذا الفريق ركوب الموجة واستثمار الاهتمام الإعلامي الحاصل.

ومع النجاح السريع للقائمين على الحملة في جمع المبلغ الأولي المستهدف زادت الاهتمامات والمتابعة الشعبية، وجذبت الحملة الكثير من الشخصيات الإعلامية والفنية ومؤثّري سوشيال ميديا الجدد الذين سارعوا للانضمام والترويج لها والمشاركة في دعمها، كما ازداد الانقسام بين مُشيد ومتحمّس وداعم للحملة والفريق، ومُشكّك بها ومتّهم لأصحابها باستثمار معاناة السوريين والمتاجرة بها، واعتبار الحملة محاولة متأخرة كان يجب المضي بها منذ سنوات[11].

وفي هذه الفترة ارتفعت الأصوات الناقدة والمشككة التي بدأت تطال كل العاملين في المجال الإنساني، واتهمت الفريق صاحب الحملة وغيره من العاملين في المجال الإنساني عموماً بالفساد والتقاعس وغياب الاهتمام والتخطيط المسبق، وبالتفاعل مع المشاكل وقت وقوعها وتبديد المساعدات التي صُرفت في مشاريع ليست ذات أولوية؛ حتى تحولت بعض ردود الأفعال لحالة من الشخصنة والهجوم على أعضاء الفريق بالسبّ والشتم والتطاول على الأعراض واتهامهم بسوء إدارة العمل الإنساني[12].

كما خرجت بعض الأصوات التي انتقدت القيم التقديرية لكلفة بناء المنزل، ورأت أن هذه المبالغ غير منطقية، وقام البعض بالمزاودة على عمل الفريق والادعاء أن بإمكانه تنفيذ مثل هذا العمل بكلفة أقل دون دعم هذه الادعاءات بأية أدلة؛ وهو ما اعتبره بعضهم مؤشراً واضحاً على فساد الفريق الذي قام بتنفيذ عدة مشاريع إيواء خلال السنوات الماضية[13].

ومع تجاوب الفريق الذي أطلق الحملة مع الأسئلة المطروحة والعمل على إيضاح بعض النقاط الملتبسة، ونتيجة التغطية الإعلامية الكثيفة؛ فقد انتقلت دائرة الاهتمام من موضوع الحملة لتركز على موضوع رواتب الفريق التي عُدت رواتب مرتفعة مقارنة مع الرواتب المتاحة في الداخل السوري؛ حيث أشارت التعليقات إلى افتراضات غير منطقية وتصورات خاطئة حول مفهوم العمل التطوعي.

الشكل 1: مراحل التغير في ردود الفعل الشعبية تجاه حملة الإيواء في شتاء 2022

وفي محاولة لتحليل أسباب ردود الفعل الملاحظة على الحملة السابقة، والتي تتشابه في تفاصيلها مع ردود الأفعال على حملات أخرى سياسية أو اجتماعية فإنه يمكننا تقسيم أسبابها حسب الآتي:

1- 1- أسباب خارجية تتعلق بالجهة المتصدِّرة للعمل:

ثمّة جملة أسباب كانت وراء ردود الأفعال الشعبية التي تتعلق بالجهة المتصدرة للعمل، وهي المنظمات الإنسانية في الحالة المدروسة، وبظروف العمل والظروف العامة التي تشتغل ضمنها، حيث يمكن أن نلاحظ عدة أسباب، منها:

1- 1- 1- التغيُّر في دور منظمات المجتمع المدني، وغياب الدولة:

تُعدّ منظمات المجتمع المدني في الدول المستقرة حلقة وصل بين السلطة والمواطنين، تنقل من خلالها تطلعات الجماهير وتحاول التأثير في سياسات الحكومة بما يتوافق مع تلك التطلعات، كما أنها تمارس دوراً رقابياً على سلطة الحكومة فيما يتعلق بمواضيع الحقوق والحريات، وتلعب دوراً في تنمية رأس المال البشري وتعزيز عملية التعلم والتعرف على الكوادر البشرية والاستفادة منها في تعزيز خطط الحكومة، خاصة فيما يتعلق بخطط التنمية المستدامة، بالإضافة إلى دورها في ملء الفراغات نتيجة غياب الدولة أو انسحابها في بعض المناطق أو الأوقات[14].

وفي الحالة السورية لم يكن لمنظمات المجتمع المدني وجود محسوس قبل الثورة؛ إلا أن دورها برز بشكل واضح بعد الثورة وبدأ عملها يتحول من شكله التطوعي إلى شكل مؤسساتي، لاسيما مع تفاقم حالة الاحتياج الإنساني ومع ضرورة سدّ الفراغ الذي خلَّفه غياب المؤسسات الحكومية، فحلّت منظمات المجتمع المدني محل الدولة في تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وغيرها.

نمت منظمات المجتمع المدني السورية بشكل متسارع في ظل ظروف غير طبيعية، وكان عليها أن تتجاوب مع الكثير من التحديات وتتغلب عليها، كما عانت فيها من فجوة كبيرة بين الاحتياجات المتزايدة والدعم المقدَّم، وهو ما جعلها غير قادرة على تلبية تلك الاحتياجات على النحو المطلوب، فضلاً عن اختلاف الأولويات بين الجهات الداعمة أو المنظمات المنفذة والفئات المستهدفة؛ الأمر الذي وجّه المشاريع بما يتوافق مع سياسات الداعمين[15].

ويرى بعض المختصين أن تغيُّر أدوار منظمات المجتمع المدني واضطرارها لتحمل الأعباء التي يُفترض أن تتحملها الحكومة هو من أهم أسباب ردة الفعل الشعبية السلبية، حيث إن عملها في بيئة مستنزفة تفتقد كل أشكال الاستقرار، وفي ظل شحّ كبير في الموارد، ومع غياب أية رؤية تخطيطية أو تنسيقية لغياب الدور الحكومي قد جعل الناس تتوقع منها أداءً أفضل وتحاسبها كما لو أنها حكومة تمتلك الإمكانيات والسلطة[16].

1- 1- 2- الاتهامات بالفساد:

ينتشر تصوُّر عام بين شريحة واسعة من السوريين حول فساد المنظمات العاملة في الشأن الإنساني، وعلى الرغم من عدم بناء هذه التصورات على أدلة دامغة؛ فإن ثمّة حالة من تعميم الفساد على الجميع بسبب صورة ذهنية سلبية رسخت في العقل الجمعي، دعمَها وجود حالات فساد التي ظهرت بوضوح أمام الناس.

ويرى بعض الخبراء العاملين في المجال الإنساني أن حالة الفساد الموجودة حالياً ما هي إلا امتداد لحالة متجذرة من الفساد عاشها الشعب السوري منذ بداية استلام حزب البعث للسلطة في سورية، وانعكست بشكل واضح على أداء الحكومة ومؤسساتها، إذ عايشَ فيها السوريون كل أشكال الفشل والإهمال وسوء التنفيذ والفساد، وانتقلت فيها هذه العدوى إلى المؤسسات الخاصة، وحتى الأجنبية العاملة في سوريا[17].

وبسبب المعايشة الطويلة لحالة الفساد في المؤسسات الحكومية لعقود والتي انعكست على حالات فساد فردي واضحة فقد بُنيت عقلية المجتمع السوري على تعميم توصيف الفساد دون وجود ضوابط ثقافية واضحة عنده تُعرّف معنى الفساد وتحدد معاييره، بحيث أصبحت صفة سائلة يتم إطلاقها جزافاً دون قيود[18].

ومن الأسباب التي عززت وصم العمل الإنساني بالفساد وتعميم الحالة وجود بعض المنظمات التي قامت بتنفيذ مشاريع لا قيمة لها على أرض الواقع، دون مراعاة الأولويات أو الاحتياجات، ولم تقدم منفعة حقيقية على الأرض؛ وقد تغاضى بعض القائمين على تلك المنظمات عن سوء التنفيذ طمعاً بالراتب المقدم ولعدم وجود بديل عنه[19].

كما تسبب غياب المعايير القانونية الناظمة لتصنيف المنظمات الفاسدة وضعف إجراءات الشفافية، إلى جانب غياب جهات رقابية محلية بتعميم صفة الفساد والتساهل في إطلاقها دون ضوابط، وانتشار الكثير من الإشاعات والمبالغات حولها، رغم أن جميع المنظمات الإنسانية المرخصة تخضع لرقابة دقيقة من الحكومات التي رُخصت عندها، وتخضع أيضاً لرقابة من قبل الجهات المانحة التي تريد التأكد من وصول المساعدات للمستفيدين[20].

وينتقد باحثون حالة الانغلاق التي تعيشها بعض منظمات المجتمع المدني؛ إذ يرونها من الأسباب التي أعطت انطباعاً بوجود شبهة فساد في عمل هذه الجهات، لاسيما وأنها لا تتعامل بمرونة مع مَن يطلب منها مشاركة بعض البيانات، خاصة المراكز البحثية التي تحاول دراسة الواقع بصفتها جهة حيادية مستقلة، ويزداد الانغلاق وعدم التجاوب إن وصل السؤال إلى منهجية عمل هذه المنظمة وبياناتها المالية[21].

وفي الوقت نفسه ترى المنظمات الإنسانية أن ثمّة حالة من السيولة وعدم ضبط المعايير الناظمة لتحديد مفهوم الفساد وعدم الكفاءة أو حتى مفهوم الشفافية؛ حيث ترى هذه الجهات أن فتح ملفات الشفافية أمام الجمهور -لاسيما المالية- سيجلب لها الكثير من المشاكل، ولن يحميها من الهجوم أو الاتهامات غير المنصفة؛ لغياب الضوابط والقوانين، ولغياب الجهات الرقابية الموثوقة والمتخصصة التي يمكنها تقييم عملها بنزاهة وموضوعية[22].

1- 1- 3- إشكالية الرواتب

أدى النمو المفاجئ لمنظمات المجتمع المدني التي نشأت في ظروف طارئة، واضطرارها للعمل في بلدان ودول خارج سوريا ومع جهات أجنبية وأممية إلى أن تبني منظومتها الإدارية والحكومية بما يتناسب مع البلد الذي تعمل منه، وقامت بتقدير سلّم الرواتب وفقاً لما هو متعارف في تلك البلاد؛ مما خلق فجوة حادة في الرواتب مقارنة مع الرواتب في سوريا، والتي كانت أدنى من الرواتب في دول الجوار قبل الثورة.

وترتبط إشكالية الرواتب بموضوع الفساد وتُعد إحدى انعكاساته وأدلته؛ فقد تسببت الفجوة الكبيرة في الرواتب بين موظفي الداخل وموظفي الخارج، وبين موظفي المنظمات والمحتاجين إلى حالة كبيرة من السخط؛ وذلك لا يعود إلى ارتفاع معدلات الرواتب وفقاً لما هو متعارف عليه في العمل الإنساني في الدول المحيطة، وإنما لانخفاض معدلات الرواتب والأجور في الداخل السوري بشكل غير مقبول، نتيجة توقف عجلة الاقتصاد وتوقف الإنتاج، وازدياد حالة الفقر والاحتياج[23].

ويرى فريقٌ أنه من غير المنطقي أن يتلقى العامل في المنظمة 10 أضعاف حجم المساعدة التي يقدمها للمحتاج أو المستفيد، في حين يرى آخرون أنه لولا خبرة العاملين في هذا المجال وقدرتهم على التواصل مع الجهات الداعمة وتقديم المشاريع وتحمُّل المسؤولية والمساءلة لم تصل تلك التبرعات للمحتاجين؛ فلابد للوصول إلى الكفاءات القادرة على إدارة العمل الإنساني من تقديم رواتب تشجع تلك الكفاءات على تحمُّل الأعباء والتبعات الإضافية[24].

1- 2- أسباب داخلية تتعلق بالتغيرات التي طرأت على أفراد المجتمع:

بما أن هذه الظاهرة المدروسة تتعلق بطرفَين: الطرف المتصدر للعمل والطرف المتفاعل مع العمل؛ فإن كلا الطرفين يتحمل المسؤولية في الحالة التي وصل إليها المجتمع السوري، فلابد للوصول إلى تشخيص دقيق للحالة من دراسة المجتمع أو الشرائح المتفاعلة مع المبادرات والتي طرأت عليها تغيرات وتأثرت بالعديد من الأسباب، فمنها:

1- 2- 1- غياب الأمن الاجتماعي

يرى بعض المتخصصين في علم الاجتماع أن حالة التخوين والتشكيك المتنامية في المجتمع السوري ما هي إلا انعكاس لحالة غياب الأمن الاجتماعي؛ وهي ظاهرة ليست جديدة، بل كانت ملاحظة في فترة ما قبل الثورة، إذ إن المجتمع السوري كان يفتقر فيها لحالة الأمن الاجتماعي نتيجة غياب الاهتمام والخدمات بين المحافظات والمكونات السورية، بالإضافة إلى ضعف الثقة المجتمعية التي تراجعت بسبب سياسات النظام الممنهجة؛ فقد كان المجتمع السوري منقسماً داخلياً وفق العديد من التصنيفات، في ظل الطريقة الأمنية التي تمت من خلالها إدارة البلاد في تلك السنوات، وحرص نظام الأسد على تشكيل الشخصية السورية بشكل قائم على المصلحة الذاتية التي تسعى للكسب المنفرد وعدم التكافل والانتهازية وضرب مصالح الآخرين لتحقيق مكاسب شخصية[25].

 أما بعد اندلاع الثورة السورية فقد عزّزت سنوات الحرب حالة غياب الأمان الاجتماعي، وأضعفت روابط الثقة بين عناصر المجتمع، وانعكست الآثار النفسية وحالة الخذلان والانكسار المتصاعدة على شكل حالة من التشكيك والمناطقية تطال الجميع دون استثناء، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث حمل السوريون إرثهم المجتمعي المتهالك دون محاولة علاجه أو تقوية أواصر العلاقات بين أفراده[26].

وإلى جانب ذلك فقد فشلت مؤسسات المعارضة في إنتاج شخصيات سورية، قادرة على الوثوق والعمل مع بعضها، بل عملت على إعادة إنتاج الذهنية ذاتها القائمة على المحاصصة والخوف من الآخر والتشكيك بالنوايا، وقد برز ذلك بوضوح في كل أشكال العمل السياسي والإنساني والثقافي، كما غابت المشاريع التي تسعى إلى إعادة صياغة الشخصية السورية، وتُرِك السوريون ليُعيدوا إنتاج علاقاتهم بشكل طبيعي بناءً على ثقافاتهم السابقة المريضة، دون أن يتصدر أحد لهذا الموضوع[27].

1- 2- 2- ضعف الثقة:

تعود مشكلة غياب الثقة إلى الواجهة عند مناقشة الأسباب التي كانت وراء ردود الأفعال العنيفة أو المتطرفة التي ظهرت على شكل حالة من التخوين والرغبة في الإسقاط؛ إذ تبدو حالة ضعف الثقة المجتمعية وكأنها حلقة في دائرة مغلقة، لأنها نتيجة للعديد من الأسباب الخارجية، وسبب مؤثر في ردود أفعال الجماهير التي زادت من حجم وتأثير هذه الحالة.

فقد توافق غالبية الخبراء الذين حضروا ورشة النقاش المركزة على أن حالة ضعف ا لثقة الاجتماعية بين السوريين حالة واضحة، تستدعي المزيد من الدراسات والاهتمام؛ حيث إن جذور هذه المشكلة بُنيت في الشخصية السورية على مدى عقود، ومن الصعب تغييرها أو تعديلها دون فهم دقيق ودراسات معمقة تنتج عنها مشاريع تسعى لترميمها والعمل على تعزيزها[28].

وفي هذا السياق ينقسم الخبراء بين مَن يرى أن الثقة الشخصية هي ملكية فردية مرتبطة بالفرد وسماته الشخصية (بما في ذلك الأخلاق) وخصائصه الاجتماعية والديموغرافية، ومَن يراها منهجية للمجتمع مرتبطة بخصائصه الوطنية، مثل التاريخ والثقافة والاقتصاد والمؤسسات والجغرافيا والسياسة العامة[29].

وترى بعض الدراسات أن ثقافة الثقة تبدأ من مسؤولية الأسرة السورية، كما يلعب فيها العاملان العِرقي والديني دوراً جزئياً، ثم يأتي بعدها دور مؤسسات الدولة العادلة والفاعلة أساساً لتعزيز الثقة بالمؤسسات، لاسيما في تحقيق الأمن العام، بينما يلعب العامل الاقتصادي والعامل الأمني دوراً سلبياً؛ حيث تنخفض الثقة المجتمعية في المجتمعات التي تعاني من الفقر والتمييز والاستغلال والبطالة والإقصاء الاجتماعي، وتنخفض بشكل أوضح في المجتمعات التي تعاني من حروب وصراعات داخلية[30].

ويفسّر بعض الخبراء ظاهرة الغضب المتصاعد والتخوين بأنها انعكاس واضح لحالة ضعف الثقة الشخصية وتراجعها، والتي قد تظهر على شكل آلية دفاع نفسي في مواجهة العجز والإحباط، فيشعر الإنسان بالرضا المؤقت عن نفسه ولو كان لا يفعل شيئاً، في حين يتحسن الوضع عندما يُعامل السوري باحترام وتُبنى لديه حالة من تقدير عالٍ للذات، فيتحول إلى شخصية متزنة قادرة على محاكاة الأمور بشكل أكثر عقلانية[31].

1- 2- 3- تأثير مواقع التواصل في تشكيل الرأي العام:

لابد من الإشارة إلى دور الإعلام الجديد في تشكيل وإعادة صياغة الرأي العام وفق أسس ومعطيات جديدة، قد لا تكون سليمة في الكثير من الأحيان؛ فالانتشار العريض لمواقع التواصل وسهولة التفاعل مع الحدث، وغياب الرقابة والمحاسبة على ما يرد في تلك المواقع من معلومات مضللة، والشعبوية في التعاطي مع مختلف الأحداث، بالإضافة إلى بروز شريحة من المؤثّرين -غير المؤهّلين -الذين تصدروا المشهد لأسباب مختلفة وقيامهم  بطرح كثير من الأفكار المغلوطة التي أصبحت ذات قيمة اجتماعية معترف بها؛ كل ذلك أسهم في صياغة رأي عام شعبي تم تشكيله على أسس غير سليمة.

وفي الحالة السورية أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الأساسي لتلقي المعلومة، وسمحت للكثيرين بنقل أفكارهم وتجاربهم وانطباعاتهم ومشاعرهم حول الكثير من القضايا التي تهم السوريين، وهو ما خلق موجة أثّرت في الاهتمام العام، وجعلت شريحة واسعة تنساق مع الاهتمام العام وتتبنى الرأي الشائع، دون أن يكون لها رأي واضح منفرد أو ناضج حول الموضوع[32].

ومن الظواهر اللافتة أيضاً التي يلاحظها بعض المختصين في المجال التربوي والنفسي هو وجود مشكلة في العلاقة بين المثقفين والقيادات التربوية والاجتماعية من جهة، والجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي من جهة أخرى؛ حيث إن قسماً من الفريق الأول تخلى عن مهمته في التوجيه والنصح والتأثير أو تصحيح الأخطاء، وهو ما أضعف علاقته مع  الجمهور، فيما انغمست شريحة أخرى من المثقفين وقيادات الرأي في حالة من الشعبوية وركزت على ملاحقة المواضيع الرائجة ومسايرتها بهدف كسب المزيد من المتابعين، بدلاً من أن تعمل على تهدئة النفوس وضبط الانفعالات والتوجيه إلى آليات التعاطي والحكم على الحوادث[33].

1- 2- 4- تغيرات ثقافية وفكرية ونفسية:

يشير بعض المختصين العاملين في المجال الإنساني ممن لهم احتكاك مكثف مع السوريين إلى وجود حالة تغير مجتمعي عند عموم السوريين، حيث يُلاحظ تدنّي درجات الوعي المجتمعي عند شريحة واسعة منهم، إلى جانب انعكاسات الصدمات النفسية، وغياب الرادع الأخلاقي والتربوي والقانوني عند كثير من الأسر[34].

ومن أشكال هذه التغيرات الاجتماعية حالة التآلف مع المأساة، ومقاومة الرغبة في التغيير خوفاً من خسارة المساعدة أو المعاناة، فعلى سبيل المثال: رفضت العديد من العائلات الانتقال من الخيام إلى منازل إسمنتية رغبةً في الحفاظ على الدعم الذي يتلقونه من المنظمات، كما قامت بعض العائلات بإخفاء الكسوة التي قدمتها بعض الجمعيات لأطفالها ومنعتهم من ارتدائها، في محاولةٍ لإظهار الأبناء بحالة رثّة يمكن من خلالها استدراج استعطاف الآخرين[35].

كما تغيب حالة المسؤولية المجتمعية والدافع الذاتي في الإصلاح، حيث يرفض أناسٌ المشاركة في مبادرة مجتمعية، أو قد يلجأ للتخريب أو الكذب بحجة أن المنظمات والجهات المنفذة فاسدة أساساً وأنها تقوم على أقوات المحتاجين، فلا حرج -برأيهم- من الانتفاع أو تخريب أو سرقة عملهم لأنه من حق الفئات المستضعفة[36].

وأما ما يتعلق بالسوريين عامة فتعكس مواقع التواصل الاجتماعي في كثير من الأحيان حالة من المزاودة بين الجموع، خاصة بين الأقران؛ فعندما تتوجه الأنظار إلى شخص أو جهة ما نتيجة عمل أو نجاح أو مهارة شخصية يبدأ آخرون باستغلال الاهتمام الحاصل لتوجيه الأنظار نحوهم؛ من خلال النقد والاعتراض وإبداء رأي مخالف يسعى فيه صاحبه ليبدو أكثر حكمة وخبرة وموثوقية، وقد يتطور الأمر للتشكيك بعمل الآخرين أو تصيد أخطائهم أو تقديم توقعات وتقديرات غير منطقية وغير مطلعة على تفاصيل المشكلة، وحالة المزاودة هذه ليست بالجديدة ولكنها أصبحت أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة[37].

وقد لاحظ بعض الخبراء أن ردود الأفعال على الكثير من الحوادث ركزت على الشخصنة أو تلفيق بعض المعلومات الكاذبة، أو حتى إطلاق توصيفات اعتباطية أصبحت من التوصيفات الدراجة مثل “خائن” و”عميل” و”ماسوني” و”فاسد”؛ وقد تُفسر على أنها نوع من الندبات النفسية التي لم تٌشفَ بعد وتحاول الانتقام من الآخرين نتيجة الخذلان والخسائر التي لحقت بأصحابها[38].

ثانياً: التفسير النفسي للظاهرة: نظرة في سيكولوجيا الإنسان المقهور[39]:

وفي محاولة لتفسير حالة التخوين والإسقاط في ضوء دراسة نفسية اجتماعية من خلال التركيز على الأسباب المتعلقة بالمجتمع ومحاولة تفكيكها وفهمها فإن من الضروري تسليط الضوء على العامل النفسي الذي قد يكون أحد الدوافع المهمة وراء تلك السلوكيات، وقد حاولت بعض المراجع النفسية تفسيره ودراسة تأثير حالة القهر والتسلط في صياغة شخصية الإنسان أولاً وفي طريقة تفكيره ثانياً، وانعكاسات هذه الحالة على شكل المجتمع كونها العامل الأساسي في حدوث التخلف الاقتصادي والاجتماعي[40].

 تترافق حالة القهر والتسلط مع تشكل بنية نفسية تتركز على نمطَي التسلط والخضوع مصدراً رئيسياً لمقاومة التغيير، وتتحول فيها الجماعات المقهورة التي تعرضت لاستلاب إنساني تجلى بأشكال اقتصادية واجتماعية إلى إحدى أبرز العقبات أمام التغيير؛ لأنها تبنت قيماً سلوكية تتماشى مع القهر الذي فُرض عليها وتقاوم معه فرص التحرر، حيث يمرّ الإنسان المقهور بثلاثة مراحل رئيسة[41]:

المرحلة الأولى: مرحلة التسلط والرضوخ:

تمتد هذه المرحلة لفترة طويلة، تنشط فيها الأحكام التبخيسية التي ترى الجماهير غير قادرة على أن تحكم نفسها، ويصبح الكذب جزءاً من العلاقات والصداقة مع ادعاء القيم السامية والرجولة، وتتصف الجماهير المقهورة في هذه المرحلة بنمو مشاعر الإثم والدونية، وظهور حالة من ازدراء النفس واتهام الغير بالتقصير والتخاذل والجبن، كما تبرز بين الجموع مجموعة من العُقد:

  • عقدة النقص: وتتجلى مظاهرها بالاتجاه نحو الاتكالية والنكوصية والقدَرية الاستسلامية، بالإضافة إلى طغيان الخرافة وانعدام الثقة بالقدرة على الفعل والتأثير، والاعتماد على المنقِذ السحري المنتظر، والإحساس بأن علينا ألا أن ننتظر شيئاً من الآخرين، وترتفع الميول الانتحارية النابعة من تفاقم مشاعر الإثم وتراكم العدوانية المرتدة على الذات.
  • عقدة العار: ويحسّ فيها المقهور بالخجل من ذاته، ويعيش في حالة دفاع دائم ضد افتضاح أمره، مما يسبب له جرحاً يمسّ كبرياءه، فيسعى لادعاء العزة من خلال محاولة بقاء الرأس مرفوعاً، واللجوء إلى التصرفات الاستعراضية للفت الأنظار عن سبب العار الرئيس.
  • اضطراب الديمومة: وتنعكس فيها آثار آلام الماضي على الحاضر وآلام الحاضر على المستقبل؛ مما يرفع وتيرة القلق، فيشعر المقهور بانسداد الأفق والعجز حتى أمام قوى الطبيعة، فينعدم الشعور عنده بالأمان، وتتجلى لديه حالة فقدان الثقة بالنفس وبالغير، كما ترتفع لديه درجة التوتر الانفعالي، وتظهر على شكل ردود فعل متطرفة، ويفقد العزم والقدرة على الفعل والتأثير والمبادرة والمجابهة، ويقع في التخاذل، ويسيطر عليه الجمود وينطوي على ذاته مجترّاً مأساته

الشكل 2: المظاهر النفسية للإنسان المقهور في مرحلة التسلط والرضوخ

تفسر الفقرات السابقة بعض ردود الأفعال في الحالة المدروسة حيث إن التشكيك والاستهزاء الذي قوبلت به الحملة موضع الدراسة وغيرها من الحالات يعود إلى انعدام الثقة عن السوريين بالقدرة على الفعل أو التأثير، وعدم توقعهم لشيء من الآخرين نتيجة عقدة النقص التي تشكلت بعد فترة طويلة من القهر والتسلط، وهو حالة ساهم نظام الأسد بتعزيزها، وجاءت بعدها عمليات القصف والتهجير والفقد لتعززها، فيما يمكن تفسر التعليقات المسيئة والهجومية على أنها محاولة للاستعراض ولادعاء العزة بهدف التخلص من الإحساس الداخلي بالعار والعجز والاحتياج.

كما أن تجدد المشاكل والمآسي دون الوصول إلى حل لها، كمشاكل الشتاء المتكررة التي لم يتم حلها من سنوات، تجدد لدى المقهورين إحساسهم بالعجز وانسداد الأفق وتعزز لديهم الشعور بانعدام الأمان وعدم القدرة على الثقة بالآخرين الذين تقاعسوا -من وجهة نظرهم – عن مساعدتهم، فيغرق الكثير منهم في المأساة ويستسلم لها ويشكك في قدرة أي محاولات من البعض بأحداث فارق أو تغيير

المرحلة الثانية: مرحلة الاضطهاد:

تركز المشاعر في هذه المرحلة على التفتيش عن مخطئ يتحمل وزر العدوانية المتراكمة داخلياً، فيتجه المقهور إلى إدانة الآخرين وإلقاء اللوم عليهم، وهنا يصبح الاعتداء عليهم مشروعاً لأنه يتخذ طابع الدفاع عن النفس، مع الرغبة في تحويل الآخر إلى رمز للنقص والعار؛ فالاعتداء الذي يقوم به المقهور تجاه الآخر ليس اعتداءً على قيمته الإنسانية، بل هو بكل بساطة تحطيمٌ لرمز السوء والعار الذي يريد التخلص منه.

ترتفع درجات التوتر الانفعالي ويدخل الإنسان مرحلة الغليان والعدوانية، ويبحث عن تصريف ملائم للتوتر العدواني الناشئ، فيحاول الإحساس بشيء من العزة والكرامة؛ لأن فشل تحقيق الذات يولّد إحساس بالدونية ولابد من تصريفها، وذلك بلوم الذات وتحطيمها وصولاً إلى تحطيم الآخرين وإسقاطهم، فتسقط مشاعر الذنب والتبخيس الذاتي على الآخر، وتفرغ العدوانية المتراكمة من خلال التعبير اللفظي وكل أشكال التعبير غير المباشر الذي لا يتضمن مجابهة صريحة.

وتتركز في هذه الحالة ضمن حالة الإسقاط مشاعر الحسد والغيرة والعين، وهي تُخفي شكّاً وحذراً من الآخرين، كما تُخفي الخوف من المكروه والشر، وتساعد هذه الممارسات على تحميل مسؤولية التقصير الذاتي على الآخرين؛ إلا أن هذا التوجه مرهق كنمط وجودي يجعل الإنسان في حالة توقع للخطر، فضلاً عن أن الآخرين الذين تصبّ عليهم النقمة ليسوا أعداءً حقيقيين.

وقد يحدث في هذه المرحلة أن تنحرف البوصلة ويوجه المقهورون غضبهم إلى بعضهم بدل توجيهها إلى مصدر القهر الحقيقي، فتتحول مجموعة من المقهورين إلى عدو وهمي، ويتم توجيه كل الطاقات النفسية ضدها رغم أن هذه الفئة ليست مضطهدة لهم ولا عدو، بل تربطها بهم صلات إيجابية كالقربى والتعاطف والتعاون؛ فالعلاقة معهم ليست اضطهادية محضة، ولا هي علاقة تعاطف خالص.

الشكل 3: المظاهر النفسية للإنسان المقهور في مرحلة الاضطهاد

تفسر الفقرات السابقة ردود الفعل السلبية على الحملة المدروسة، حيث إنها لم تكن موجهة للعاملين في المجال الإنساني بحد ذاتهم، بقدر ما كانت محاولة لتفريغ المشاعر العدوانية المتراكمة والبحث عن مخطئ يتم تحميله المسؤولية، ويصبح رمزاً للسوء والعار، حيث إن هذه الخطوة من تشعر المقهورين بشيء من العزة والكرامة وتخفف عنهم مشاعر الذنب ولوم الذات، من خلال تصريفها بالمواجهة غير المباشرة والتعليقات الاتهامية.

إلا أن هذه الحالة تشير إلى خلل واضح وانحراف عن توجيه مشاعر العداء للمتسبب الحقيقي بالمعاناة، واستهداف آخرين متضررين وتحويلهم إلى عدو وهمي، رغم كونهم ضحايا لنفس المتسلط المستبد، وهو ما يتسبب بهشاشة واضحة في بنية المجتمع الحاضن للثورة الذي يبدأ بالتآكل، مالم يتم تصحيح البوصلة وإعادة توجيه كل مشاعر الغضب واللوم الى الاتجاه الصحيح.

المرحلة الثالثة: مرحلة التمرد والمجابهة:

تتحول في هذه المرحلة حالة القهر إلى مرحلة الكفاح المسلح، والتي يبدو فيها أن الشعب قد قرّر ألا يثق إلا بالوسائل العنيفة؛ كي يتخلص من عقدة النقص والجبن وينفي عن نفسه الكسل والخبل والاتكالية، فيصل المجتمع المقهور بالضرورة في مرحلة من تطوره للعنف، موجهاً هذا العنف نحو القوى المسؤولة عن القهر؛ إذ يرى أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد ليعبّر عن نفسه وحقه في الوجود.

مع ترسُّخ اليأس من الحوار السلمي يترسخ إحساس بضرورة العنف حتى لا يتحول الشعب إلى ضحية دائمة ونهائية، ويتم التشبث بالسلاح لكونه درعاً وحماية ورمزاً للوجود الجديد، ويتباهى الإنسان المقهور باستعراض سلاحه وكيانه الجديد وكأنه قضى نهائياً على الرضوخ، ويصبح السلاح القيمة الحقيقية الوحيدة، ويتحول المقهور إلى النقيض تماماً؛ فتبرز  عنده عقدة التفوق والاستعلاء بدل عقدة النقص والعار، وتظهر عقدة الجبروت بديلاً عن العجز والاستسلام، وذلك نتيجة غياب الثقافة والوعي خلال عقود التسلط والاضطهاد، فيتصرف بذهنية المتسلط القديم؛ يبطش ويتعالى ويتعسف ويزدري، ويستغل قوته الجديدة للتسلط والاستغلال المادي والتحكم بالآخرين والتمسك بالانتماء الإقليمي والعشائري.

الشكل 4: المظاهر النفسية للإنسان المقهور في مرحلة التمرد والمجابهة

ومن الملاحظ أن المراحل الثلاثة التي تعيشها المجتمعات المقهورة متداخلة، فقد تتعرض فئة لحالة مضعفة من القهر يمكن أن تدفع بها للانتقال لمرحلة جديدة بينما تبقى فئة أخرى في مرحلة سابقة، وهو ما يفسر لجوء شريحة من السوريين لحالة التمرد المسلح، فيما نأت شرائح أخرى بنفسها عن ذلك لأسباب مصلحية أو كونها لم تتعرض لنفس درجة القهر التي تعرض لها آخرون.

ومع انتقال حالة القهر إلى مستوى التمرد المسلح، وتبني شريحة من حملة السلاح أو ممن أصبحوا في مراكز السلطة سلوكيات وأفكار المستبد، مارس بعضهم بشكل ما تلك السلوكيات على المجتمعات وأصبحوا أحد الجهات المتسلطة في ذهنية شريحة من الناس، فتوجهت مشاعر اللوم والغضب إليهم بدل أن تتوجه إلى المسؤول الأساسي.

تنبه الفقرة السابقة إلى إمكانية تحول حالة القهر التي يعشيها السوريين، وحالة الانفعال الوجداني المتصاعد إلى المواجهة المباشرة مع الجهات المتصدرة للعمل باستخدام القوة والعنف، خاصة مع انتشار حالة السلاح، ومع انحراف البوصلة عن المتسبب الحقيقي لهذه المعاناة إلى عدو متوهم، يشمل فئة ممن وقع عليها نفس حالة التسلط والقهر، ولكنها لا تزال تقاوم وتؤمن بقدرتها على التغيير أو تحقيق التأثير الإيجابي.

ذهنية الإنسان المقهور[42]:

يمكن توصيف ذهنية الإنسان المقهور بعدة صفات، أهمها: عدم القدرة على الفهم، والعجز عن توكيد الذات في مواجهة العالم، والتردد والخوف من الاختبار والفشل، والميل للتعسف في الأحكام هرباً من العجز، وإطلاق الأحكام المسبقة والآراء المتسرعة، بالإضافة إلى عدم تجشم العناء الفكري الضروري لتحليل الواقع، وطغيان مشاعر السيطرة على الواقع، والاتجاه إلى “الفَهلوة” رداً على فهمٍ غير منضبط لهذا الواقع.

تنقسم خصائص التفكير عند الإنسان المقهور قسمَين:

  1. خصائص ذهنية منهجية: تتعلق بعاملَين أساسيَين:
    • اضطراب منهجية التفكير: ويظهر على شكل حالة من عدم التنظيم الذهني، والتعامل مع الواقع دون وجود خطة مسبقة بشكل فوضوي عشوائي، وعدم القدرة على تحليل المشكلة بدقة أو وضوح، أو تقسيم المشكلة إلى أساسية وثانوية؛ مما يظهر بين الفئات المتعلمة وغير المتعلمة، وتتداخل فيه العوامل الذاتية والانفعالية، ويظهر الهدر في الوقت والجهد مع حالة من التذبذب وانعدام اليقين، ويتلخص بإطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل؛ فالحقيقة نسبية.
    • قصور التفكر النقدي: نظراً لتدخل العوامل الانفعالية والعاطفية، ويتجه التفكير إلى التحيز والعجز عن الجمع بين الأوجه الإيجابية والسلبية، ويواجه مشكلة في عمليه التخطيط والتركيز على الحاضر فقط، وتظهر لديه حالة يأس من إمكانية الوصول من خلال الجهد الذاتي، فتزداد عنده درجة التوتر الانفعالي، فيجد الإنسان المقهور نفسه متمسكاً بالمحسوس والملموس ومكتفياً بما هو آني، وتأخذ القضايا البسيطة أبعاداً مفرطة في حدتها، لدرجة أنها تطمس رؤية ما عداها.
    • ونتيجة لقصور التفكير الجدلي يتعامل المقهور مع المشكلة بشكل جامد أحادي الجانب وكأنها شيء قائم بذاته ومنفصل عن بقية الأشياء والظواهر، ويفتقد حالة المرونة والقدرة على بحث الأمور من عدة جوانب، ويميل الى المواقف القطعية (إما.. ، أو..).
  1. خصائص ذهنية انفعالية: يرزح الإنسان المقهور تحت عبء انفعالاته التي تصطبغ بصبغة ذاتية، ويصبح العالم وقضاياه مُعاشاً من خلال الذات، فتنحسر درجة الموضوعية وتتلاشى، لاسيما في أوقات الشدة، ومع الظروف الصعبة التي تتطلب المزيد من الموضوعية والعقلانية يغرق الإنسان في تيار جارف من الانفعالات يجعله يفقد السيطرة على الواقع.

ونتيجة لطغيان الانفعالات يحاول المقهور تصريف هذه الانفعالات من خلال صبّها على الخارج؛ على العالم وظواهره والأشخاص والعلاقات، وينجرف صاحبها في دوامة الانفعال النشط (كالعدوان والإقدام) أو الفاتر(كالمعاناة والاجترار الوجودي)، وينتج عن هذه الحالة سرعة تدهور الحوار العقلاني والتفكير المنطقي، والتعصب والتحيز وإطلاق الأحكام القطعية.

وغالباً ما تتحول النقاشات في المجتمعات المقهورة إلى صراخ وخصام ثم شتائم، وقد تتطور إلى حالة من استخدام القوة والإخضاع البدني بعد فشل الإقناع، وتشوب أحكام الإنسان على الظواهر والاشخاص التحيز والقطعية، وتكون أحكاماً متسرعة ونهائية، تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة سليبة كلها أو إيجابية كلها، تتأثر بشكل كبير بالأفكار المسبقة والآراء الشائعة التي يطغى عليها التعصب وتبرز فيها الميول الاختزالية.

الشكل 5: الخصائص الذهنية عند الإنسان المقهور

تفسر الفقرات السابقة بعض الأخطاء في أنماط التفكير عند شريحة من السوريين، فهناك مشكلة في الطريقة التي تتم فيها محاكمة الأمور، والتي تتعاطى مع المشاكل بشكل سطحي، وتهدر الوقت والجهد في الجدال والنقاشات التي لا طائل منها، بدل توجيه الطاقات الذهنية لاستيعاب كل أبعاد المشكلة واقتراح حلول منطقية لها.

كما أن طريقة المحاكمة العقلية لكافة المشاكل تركز على الحاضر فقط، ويغيب عنها التخطيط الاستراتيجي، وهذه سمة تشمل حتى العاملين في الشأن الإنساني والجهات المتصدرة للعمل، حيث يتم التعامل مع الكثير من القضايا بعاطفية وانفعالية، وهو ما يفسر ضعف التجاوب مع الحملات الإغاثية من قبل المتبرعين الأفراد حتى ساعة وقوع الكارثة، وذلك لأن المشكلة لا تحضر أمامهم إلا عندما تتحول إلى شكلها المحسوس والملموس.

كما أن آلية التفكير تتأثر بشكل كبير بالحالة الانفعالية المتصاعدة، التي تصعب عملية إجراء نقاشات هادئة عاقلة بعيدة عن الشخصنة أو الشتم والصراخ، ويتم الحكم على كل الأمور من منظور ذاتي شخصي، فالحملات الإنسانية عند البعض على سبيل المثال لن تكون جيدة مالم تستهدفه وتحسن من حاله أولاً، والمبادرات السياسية لن تكون صائبة مالم تنطلق من نفس وجهة النظر ونفس الدوافع وتتضمن شخوصاً من نفس التيار الفكري أو السياسي.

ومن جهة أخرى، فإن حالة الانفعال المتصاعد، وغياب المنهجية المنضبطة للتفكير، تدفع الكثير لتبني أحكام قطعية نهائية تركز على مفاصلات ثنائية حادة -أبيض/ أسود، أو يمين/يسار، مع/ ضد-  في قضايا ليست جوهرية، حيث أن هذه المواقف الحادة لا تبدو منطقية عند معالجة قضايا أخرى قد يكون فيها الاختلاف أو التوسط بين الموقفين ضرورياً أو مقبولاً.

وفي هذا الجو المشحون بالانفعالات غير العقلانية، تنتقل هذه الانفعالات لتأثر بشرائح جديدة، يحملون معها أفكار الآخرين وآرائهم ويتأثرون بها مسايرة للموجة السائدة، ومع توسع الموجة تبدأ حالة عامة من تفريغ الانفعالات الداخلية المتصاعدة على الجميع أشخاصاً وجهات وعلاقات بشكل غير عقلاني، الأمر الذي يزيد من هشاشة المجتمع ويزيد من حالات الحساسيات والخصومات والإحساس بالاستهداف لدى الجهات المتصدرة للعمل، فتنكفئ على نفسها وتتجاهل ردود الأفعال مما يزيد من غضب الجماهير التي تشعر بقلة الاحترام والاعتبار.

ثالثاً: ظاهرة طبيعية غير مقبولة

يقدم التفسير النفسي الكثير من الإجابات والتوضيحات للحوادث والأسباب التي عاشها السوريون خلال الأعوام الماضية، والتي انتقلت بهم تحت حكم الأسد بين المراحل الثلاث؛ انطلاقاً من مرحلة التسلط والرضوخ، إلى مرحلة الاضطهاد، وصولاً إلى مرحلة التمرد والثورة على نظام الأسد وحمل السلاح، وما تلاها من سنوات حتى وقتنا الحاضر.

كما تسلّط الضوء على الجانب النفسي الذي عاشه السوريون في السنوات الماضية؛ إذ لم يتمكنوا من التعافي منها بعد، لاسيما وأن الظروف التي عاصرت الثورة في السنوات الماضية لم تسمح لهم باستجماع قواهم وترميم مشاكلهم، بل أعادتهم إلى الدائرة الأولى التي خضعوا فيها لحالة متكررة من التسلط والخضوع نتيجة الاستخدام المفرط من قبل نظام الأسد وحلفاؤه للسلاح والتدمير العشوائي واستخدام أساليب الحصار والتجويع والاعتقال والاغتيالات والتفجيرات.

ومن جهة أخرى لم تتمكن فئات المعارضة السياسية ولا العاملون في المجال الإنساني أو الاجتماعي أو الثقافي من إطلاق مشاريع من شأنها ترسيخ عملية تغيير فكري وثقافي تركز على مبادئ الثورة التي قامت على الحرية والكرامة، بل على العكس استنسخت شريحة من هذه الفئة تصرفات المستبدين؛ فرفضت الاستماع للنقد ولم تأبه لرأي الجمهور، ولم تهتم لبناء حالة من الثقة معه، وتعاملت معه في الكثير من الأحيان بمنطق التفوق والاستعلاء؛ مما أدى إلى تنامي حالة التوتر الانفعالي عند الجماهير التي ما تزال تحت وطأة التسلط والقهر التي عزّزتها حالات الخيبة والخسارة واليأس وانسداد الأفق؛ فوجّه السوريون غضبهم تجاه بعضهم، وبدؤوا باستهداف مجموعات وفئات من أقرانهم بدل توجيهها إلى المتسبب الأساسي بهذه المعاناة.

ومن جهة أخرى نشأ جيل خلال فترة الصراع المسلح لم يعرف لغة للتفاهم والحوار إلا لغة القوة والقهر، وقد ساهمت بعض الجهات في تحميلة أيديولوجيات معينة مستغلة حالته النفسية وغياب الوعي، فبدأت هذه الشريحة ترى في نفسها صاحبة الحق في المحاسبة والحكم على الأمور وبدأت تطلق الأحكام وتستقوي بقوتها على الآخرين[43].

ويرى العديد من الخبراء أن ظاهرة الغضب والتسرع في إلقاء التهم والتخوين والإسقاط ظاهرة طبيعية؛ نظراً لما عايشه الشعب السوري، لكنها أيضاً ظاهرة غير مقبولة ولا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها؛ إذ لا بد من التنبه إلى  المنظومة الفكرية السائدة والآثار النفسية غير المباشرة التي تصوغ عقول الأجيال الجديدة وترسخ لديهم العديد من المفاهيم الخاطئة، وتؤسس مجدداً على حالة من غياب الثقة والتخوين والتعميم، وهو ما يعني أن هذه الأزمات المجتمعية ستستمر معنا في المستقبل؛ ولذا فإن الوضع يحتاج اهتماماً من النُّخب ومن المفكرين والمؤثّرين في تصميم برامج توعية تعالج العوارض الحالية وتمنع انتقالها.

ويعتقد ناشطون أن حالة النقد والتشكيك قد تكون صحية في مجتمع اعتاد على تكميم الأفواه، وأن بعض هذه الانتقادات محقّة ويجب الالتفات إليها، وأن بعضها الآخر قد يكون مفتعلاً مدفوعاً من جيوش إلكترونية تحاول تشويه مجتمع الثورة وزيادة الانقسامات داخله، ومع غياب أية ضوابط ناظمة لها تستند إلى تحليل منطقي دقيق وأدلة ملموسة[44].

هذا ولا بد من الإشارة إلى وجود شرائح منتفعة من الوضع الجديد الذي خلفته الحرب سواء على الجانب الإنساني أو العسكري أو السياسي أو حتى بين النخب الفكرية أو الاجتماعية، حيث أن من مصلحتها إطالة أمد المعاناة واستثمارها بما يعود عليها بالنفع من كل الجهات، وبالتالي يمكن لهذه الشرائح مقاومة أي مشروع أو عملية تغيير إجابي لما تحمله هذه العملية من انعكاسات سلبية على مصالحها[45].

فيما يرى آخرون أن الثورة السورية خلّفت حالة من الفهم غير المنضبط لمفهوم الحرية والتعبير عن الرأي؛ حيث بدأت هذه الحالة بالجنوح عند أناس نتيجة غياب الدولة الناظمة والقوانين التي تحاسب المخالفين وتمنعهم من التجاوزات، مما فتح المجال للتخوين وإسقاط العديد من المبادرات والتحركات السياسية والعسكرية وحتى المدنية[46].

وينبّه بعض المختصين إلى أن ثمّة الكثير من المفاهيم والمصطلحات العائمة، خاصة عند الحديث عن “الفساد الكبير” أو “الخيانة”، تحتاج إلى تحرير وضبط في أذهان العامة، خاصة مع غياب التعاريف والمقاييس الواضحة التي يتم فيها تحديد الفساد وتحديد درجته[47]، بالإضافة إلى غياب مهارات التفكير الناقد ومحدداته؛ مما شوّش على المجتمع في كيفية التعامل مع الأخطاء البشرية وتصويبها، والتعاطي مع النقد البنّاء، بدل الاتجاه نحو النقد الهدّام[48].

ويقترح بعض الخبراء ضرورة بناء هيئة رقابية مدنية سورية تضم ثلاث شرائح: الأولى خبراء ومستشارون في العمل المدني مطّلعون على الواقع السوري ومتابعون له، فيما تضم الشريحة الثانية مجموعة من المثقفين والقيادات المجتمعية وبعض الجهات الاعتبارية كالنقابات والتجمعات الشعبية والهيئات الدينية صاحبة الرأي والتأثير في المجتمع، وتركز الشريحة الثالثة على المؤسسات العلمية والبحثية التي يمكن أن تطوّر منهجية علمية رقابية يمكن من خلالها تقييم عمل العديد من الجهات[49].

فيما يرى خبراء آخرون ضرورة توجُّه مؤسسات المجتمع المدني باتجاه مشاريع تركز على إعادة بناء الشخصية السورية وترميم الجروح والندوب النفسية، وتركز على حالة احترام الذات والغير، وبناء الثقة مع الأفراد والمؤسسات والكيانات انطلاقاً من الأسرة والمدرسة والمسجد وإطلاق حوارات صريحة وشفافة للحديث عن المخاوف المجتمعية وكيفية تجاوزها، مع تقديم تدريبات متنوعة تساعد فئات المجتمع على امتلاك مهارات تفكير صحيحة تمكّنهم من التحقق من المعلومة ومعالجة المشاكل بطريقة صحيحة[50].

ومن جهة أخرى، ولحل إشكالية الفروق في الرواتب بين داخل سوريا وخارجها يرى بعض الخبراء ضرورة الانتقال إلى خطة اقتصادية مدروسة، وتنفيذ مشاريع من شأنها تحريك تحرك الاقتصاد المحلي وفقاً للموارد المتاحة، وتأمين فرص عمل برواتب مناسبة تُشعر العاملين بقيمتهم وكرامتهم، وتطور مهاراتهم وتحولهم إلى أناس فاعلين ومؤثرين في المجتمع بشكل إيجابي[51].

وفي الختام: من الصعب تقييم حجم المشكلة الحالية وتحديد فيما إذا كانت قد تحولت إلى ظاهرة اجتماعية راسخة، أو أنها ما تزال حالة عامة لم تتأصل بعدُ في الشخصية السورية ويمكن علاجها؛ إذ يحتاج هذا الأمر عملية من الضبط وقياسها مقارنة بالواقع قبل الثورة، ومقارنتها أيضاً بالسنوات العشر الماضية لمعرفة التطور الحاصل عليها ودرجة انتشارها[52].

تحتاج عملية إعادة بناء الثقة المجتمعية أن تلتزم الأطراف المتصدرة للعمل بتقديم المصالح العامّة والكليّة على المصالح الجزئيّة؛ وتحقيق حالة من التعارف الجيد بين الشخصيّات والكيانات من جهة والحاضنة الشعبية من جهة أخرى، والتعريف الجيّد والواقعي بالأعمال والإنجازات والصعوبات والعوائق بشكل يحترم عقل الجمهور ويجيب عن تساؤلاته، كما يبدو ضرورياً إحياءُ المراجعات الداخليّة عبر التقويم الذاتيّ والنقد الداخليّ الشجاع؛ فهذه المراجعات دلالةٌ على المصداقيّة في تحمّل بناء الثّقة المجتمعيّة، في حين أن غيابها يفتح المجال لتراشق الاتهامات؛ الأمر الذي ينعكس بدوره سلباً على الثقة العامة بين مختلف المكونات[53].

وتُعد الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية أطرافاً معنية بهذه العملية؛ فهي تتحمل مسؤولية إعداد الفرد وترسيخ مفهوم الثقة فكرة وعملاً في شخصية الأجيال السورية الناشئة، وتوضيح الضوابط الفكرية والثقافية والعلمية للتعاطي مع المعلومات وتحليلها والتحقق منها، والآلية الصحيحة المفترضة لمعالجة الخطأ وتصحيحه، بما يضمن نموّاً سويّاً للمجتمع السوري، وتشكيل ثقافة قائمة على الاحترام والإيجابية والمشاركة الفعالة.

لمشاركة الإصدار: https://sydialogue.org/4ulc


[1] أصدرت وحدة التوافق والهوية المشتركة عدة أوراق وتقارير لمعالجة قضية الثقة المجتمعية بين السوريين، منها:
 آليات تعزيز الثقة المجتمعية بين السوريين، مركز الحوار السوري،  15/10/2021.
[2] أصدرت الوحدة المجتمعية عدداً من الدراسات التي تركز على نشاط المجتمع المدني وانعكاساته عند الحاضنة الشعبية، ومنها:
[3] شارك في ورشة النقاش المركزة التي أقيمت في 29/01/2021 خمسة من المختصين العاملين في المجال النفسي والتربوي، وأكاديميان متخصصان في علم الاجتماع، و3 من قيادات منظمات المجتمع المدني ، وباحثان اثنان.
[4] يُقصد بقاعدة “تشاتام هاوس” أنه: «حينما يُعقد اجتماع أو جزء منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس فإن المشاركين يكونون أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن من دون كشف هوية المتحدث أو انتمائه أو أي شخص آخر، ودفعاً للقارئ للتركيز على سياق الحوار ومضمونه، بغضّ النظر عن أشخاصه”. يُنظر:
[7] فريق ملهم التطوعي: هو فريق تألف من مجموعة من الشباب الجامعيين الذين حاولوا الاستجابة للاحتياجات الإنسانية ومساعدة المتضررين، ثم توسع عملهم ليتحول الفريق إلى منظمة، مقرها تركيا ولها ترخيص قانوني ومكاتب في ألمانيا والسويد وكندا، تضم أكثر من 300 متطوع ومتطوعة انتشروا في مختلف أرجاء العالم، وحوالي 70 موظفاً وموظفة في مناطق التنفيذ.
[9] أشار فريق ملهم إلى أنه كان بصدد الانتهاء من تنفيذ مشروع سكني لصالح بعض عائلات الأيتام، حيث إن الشقق السكنية بصدد التشطيب النهائي، إلا أن الوضع الطارئ لبعض المخيمات العشوائية لاسيما في ظل العواصف الثلجية دفعتهم لتغيير الترتيب ونقل عائلات المخيمات إلى الشقق شبه الجاهزة بعد جمع مبلغ تبرعات بديل يكفي لبناء شقق لعائلات الأيتام التي تم تأجيل انتقالها. المصدر: الأسئلة الأكثر شيوعاً حول حملة حتى آخر خيمة.. موقع فريق ملهم التطوعي، تاريخ النشر 26/01/2022.
[11] رأت بعض التعليقات أن إطلاق الحملة من خيمة ضمن مخيم عشوائي ما هو إلا محاكاة مقلدة للحملة العربية السابقة، وأن التحرك من أجل نقل سكان المخيمات إلى بيوت لائقة كان يجب أن يتم قبل سنوات.
[12] من اللافت في بعض التعليقات التي كانت تتهم الفريق بعدم التجاوب مع طلبات المساعدة أن أصحابها يقيمون خارج سوريا في بلاد اللجوء، وليسوا من سكان المناطق التي ينشط فيها عمل الفريق؛ وهو ما يشير إلى إمكانية أن تكون ادعاءاتهم كاذبة، أو أنهم تأثروا بقصص سمعوها من أفراد آخرين دون التحقق منها.
[13] من الملاحظ أن حالة المزاودة لم تكن فقط من المتابعين العاديين أو المقيمين في الداخل؛ وإنما شملت بعض الناشطين والعاملين في المجال الإنساني خارج قطاع الإيواء،  حيث ذكر بعضهم أرقاماً غير منطقية استدل بها على أن كلفة المشروع مبالغ بها وأن معظم المبالغ المجموعة ستذهب رواتب لموظفي الفريق.
[14] الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني وأثره في تنمية المجتمع في دولة الإمارات المتحدة، جامعة الشرق الأوسط، رسالة لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية، لعام 2012-2013
[15] ا لصورة الذهنية للعمل الإنساني في سوريا بعد عام 2011: تحديات الاحتياج وقلة الموارد، مرجع سابق.
[16] من مداخلة لإحدى المتخصصات في علم الاجتماع في ورشة النقاش المركزة.
[17]  أشار أحد العاملين في المجال النفسي خلال جلسة النقاش المركزة إلى أنه عملَ مع منظمات سورية خاصة، وكذلك مع منظمات دولية نفذت مشاريعها في سوريا قبل الثورة لفترة تجاوزت 12 عاماً، وقد لاحظ أن عدوى الفساد انتقلت إلى هذه المنظمات الخاصة أو الأجنبية نتيجة عملها بمحيط مؤسسي فاسد تابع للحكومة السورية؛ إذ لم تستطع هذه المنظمات المحافظة على نزاهتها نتيجة تدخل أطراف مختلفة في عملها.
[18] من مداخلة قدمتها إحدى المتخصصات في علم الاجتماع والعاملة في منظمات المجتمع المدني ضمن ورشة النقاش المركزة.
[19] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين المتخصصين في علم النفس ضمن ورشة النقاش المركزة.
[20] من مداخلة قدمتها إحدى المتخصصات في علم الاجتماع والعاملة في منظمات المجتمع المدني ضمن ورشة النقاش المركزة.
[21] من مداخلة قدمها أحد الباحثين المتخصصين في الشأن الاجتماعي خلال جلسة النقاش المركزة.
[22] من مداخلة قدمها أحد العاملين في منظمات المجتمع المدني ضمن ورشة النقاش المركزة.
[23] من مداخلة قدمها أحد العاملين في منظمات المجتمع المدني ضمن ورشة النقاش المركزة.
[24] المصدر السابق.
[25] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين المتخصصين بعلم الاجتماع ضمن ورشة النقاش المركزة.
[26] من مداخلة قدمتها إحدى المتخصصات في علم الاجتماع والعاملة في منظمات المجتمع المدني ضمن ورشة النقاش المركزة.
[27] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين المتخصصين بعلم الاجتماع ضمن ورشة النقاش المركزة.
[28] تُعرف الثقة الاجتماعية المتبادلة بأنها: “توقّع متفائل واطمئنان نحو كفاءة وإخلاص الآخرين أفراداً ومؤسسات”، وينشأ هذا التوقع وفقاً للخبرات المتراكمة خلال العلاقات الاجتماعية، وتعطي التزامات اجتماعية متبادلة؛ مما يضفي على الحياة الاجتماعية طابع التعاون والتضامن وتصبح أكثر تماسكاً.
 في الإجابة على سؤال ما العمل؟ تصورات لبناء الثقة الاجتماعية بين السوريين، مرجع سابق.
[29] المرجع السابق
[30] المرجع السابق.
[31] من مداخلة قدمها أحد الناشطين السياسيين والاجتماعيين في ورشة النقاش المركزة.
[32]. المصدر السابق.
[33] من مداخلة قدمها أحد المختصين في علم النفس التربوي في ورشة النقاش المركزة.
[34] من مداخلة قدمها أحد المتخصصين في المجال النفسي، ووافقه عليها عدد من العاملين في المجال الإنساني خلال ورشة النقاش المركزة.
[35] من مداخلة قدمها أحد العاملين في المجال الإنساني خلال ورشة النقاش المركزة.
[36] المصدر السابق.
[37]   من مداخلة قدمها أحد الناشطين السياسيين والاجتماعيين في ورشة النقاش المركزة.
[38] المصدر السابق.
[39] خضعت هذا القسم من الورقة لتحكيمٍ من قبل أكاديميان اثنان، أحدهما متخصص في علم الاجتماع، والآخر متخصص في التربية وعلم نفس الأسرة.
[40] يُنظر: د. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور، منشورات المركز الثقافي العربي في المغرب، عام 2005.الصفحات من 37-59
[41] المرجع السابق.
[42] حجازي، التخلف الاجتماعي، مرجع سابق. ص 59-70
[43] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين المتخصصين في المجال التربوي في ورشة النقاش المركزة.
[44] من مداخلة قدمها أحد الناشطين السياسيين والاجتماعيين في ورشة النقاش المركزة.
[45]   من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين المتخصصين في المجال التربوي في ورشة النقاش المركزة.
[46] من مداخلة قدمتها إحدى المتخصصات في علم الاجتماع في ورشة النقاش المركزة.
[47] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين العاملين في الشأن الإنساني خلال الورشة.
[48] من مداخلة قدمها أحد الناشطين السياسيين والاجتماعيين في ورشة النقاش المركزة.
[49] من الحلول التي أوردها عدد من الخبراء في ورشة النقاش المركزة.
[50] المصدر السابق.
[51] المصدر السابق.
[52] من مداخلة قدمها أحد الأكاديميين العاملين في الشأن الإنساني في ورشة النقاش المركزة.
[53] آليات تعزيز الثقة المجتمعية بين السوريين، مرجع سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى